أقلام فكرية

هيدجر وتشتيت الكينونة الانسانية

علي محمد اليوسفيتسم العرض الوجودي لتحقق الذات لدى هيدجر بالغموض في نحته مصطلحات جديدة غامضة في الفلسفة، وترتّب على هذا الاجتهاد الهيدجري ارباكا من سوء الفهم البعيد عن الوضوح المطلوب. من شطحات هيدجر قوله "الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده" واضح هنا هيدجر لايعتبر تحقيق الذات بمعيارية تعالقها الاختلافي مع الموضوع الملازم لها بالمغايرة ولا يحققها كبنية قائمة متمّيزة. ويكتفي ان الذات تحقق ذاتيتها بادراكها الاستبطاني المتطابق وليس الاختلاف مع غير الذات. بهذا يردد هيدجر نفس مقولة ديكارت في اثبات الوجود الذاتي بفاعلية التفكير.

بمعنى هيدجر يعتبر الانسان كائنا من غير وجود منفصل متمايز عن توزّع كينونته في مدركاته الذاتية كمواضيع تختلف معه بالمجانسة المغايرة وتتحد به في تحقيق ذاتيته الانسانية، هنا يمكننا القول بضوء الفهم الهيدجري أن الانسان هو وجود معطى متحقق غير محتاج إثباته كوجود مركزي في الطبيعة والحياة..

بنفس هذا المعنى وأشمل منه تأتي مقولة هيجل (الله هو الوجود) عبارة هيجل هذه لا تشي بتصور صوفي ميتافيزيقي، في تقطير وتكثيف عبارته الله هو الوجود. وأجد بهذا المعنى منتهى المادية وليس المثالية الابتذالية، في موضعة الطبيعة والانسان في وجود الله، ولا توجد موجودات بذاتها مستقلة عن مغايرة ادراكية بغيرها بل في ذات تدركها كاف.لا معنى لخرافة ديكارت انا افكر اذن انا موجود. الوجود الذي يحققه التفكير المدرك عقليا لا معنى له لانك استخدمته وسيلة في اثبات وجودك. ثم ماذا بعد اثبات وجودك كينونة تفكر ؟؟

يمكننا التعبير بجملة إستنباطية بنفس المعنى حين نقول (العقل هو الوجود) وبذلك لا نكون متناقضين لا مع الله ولا مع الطبيعة المادية للانسان. فما لا يدركه العقل ليس غير موجود في استقلالية لا تدرك من قبلنا لسبب ما، بل تصبح لاقيمة للعقل من غير وجود موضوع يشتغل عليه العقل. في إحالة تحقق الوجود الى الله دلالة استدلالية في تعميق الموجودات المادية والطبيعة في إستقلاليتها بالاقتران المباشر وغير المباشر بالله.

لا يمكن للذات الالهية أن تكون موزّعة الجوهر أو موزعة الصفات في موجودات وأشياء يدركها العقل في مرجعية وجود الله كما ذهب له اسبينوزا في صوفية مذهب وحدة الوجود.. وإلا ترتّب على هذا إمكانية العقل البشري معرفة الخالق في وجوده المادي او النوراني الذي تدركه الحواس ويعقله العقل. في تعالق الذات الانسانية المغاير في ماهيته وصفاته مع موجود الهي لا يجانسه النوع ولا يعرف ما هو خارج لاهوت الاديان بعلاقتها المنبهر باعجاز جمال تنظيم الطبيعة بلا تداخل من الانسان معها.. هذه المفارقة المستحيلة الغريبة تؤكدها المذاهب الصوفية بما يسمى الحلول بالذات الالهية النورانية وهو ادعاء يحتاج اثبات البرهنة على تحققه بما يقبله الوجدان القلبي العاطفي قبل قبول صرامة العقل القبول به..

تعقيب نقدي تحليلي

اول ملاحظة على فهم هيدجر للوجود أن تذويت الموجودات وإنصهارها في الانسان كوجود وكينونة تعي ذاتها والموضوع يعني لا يحتاج بعدها الانسان الى موضوع يغاير به توكيد وجوده الذاتي. كون الانسان وجود يمتلك مقومات موجوديته الكاملة التي تدخله حسب تفسيرنا لمقولة هيدجر في انفصامية مرضية هي بحث الانسان عن توكيد وجوده خارج وجوده الحقيقي المعطى طبيعيا له، حسب مقولة هيدجر الانسان لا يحتاج اثبات تحقق وجوده لانه هوهو وجوده.

ملاحقة اثبات التطابق القائم بين الذات والكينونة، يعني علاقة الذات بالموضوع لا يلغي إنعدام الفروق غير المتجانسة بينهما رغم حاجة أحدهما معرفة الاخر بالمغايرة المختلفة معه وليس بالصفات التجانسية، فالذات بلا موضوع يحقق وجودها لامعنى إفصاحي لها، وكذا المواضيع كموجودات إدراكية لا قيمة تكتسبها في وجودها المستقل سوى بإدراك الذات الانسانية لها في استقلالية عنها اولا وفي معرفة العقل لها ثانيا وفي تعبير اللغة عنها ثالثا..

عبارة هيدجر الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده. الوجود بمعنى الكينونة المتحققة ذاتيا تحتاج تحقيق وجودها الحقيقي بالمغايرة الوجودية (الموضوع) ولا يمكن تحقيقها حتى بالتفكير الذاتي كما فعل ديكارت.

وحسب عبارة هيدجر تحقق الوجود الاصيل للانسان لا يكون إلا ضمن  وجود – في – عالم تؤكد هذه الحاجة ولا تنفي أهميتها. الانسان لا يحتاج توكيد وجوده الذاتي في وعيه الادراكي بموجوديته الذاتية بمعزل عن معرفة أين يكون موضع وجوده المتحّقق من وجود الآخرين. الاستنكار الذي واجهه كوجيتو ديكارت أنا أفكر في تحقق الذات الانفرادية بسلبية منعزلة عن المجموع أو عن الكليّة الناسيّة إستنسخها هيدجر في تحقيق الوجود في إدراك الذات لذاتيتها. من يقرأ كتاب هيدجر الكينونة والزمان يخرج بحصيلة من التناقضات والتوهان في اختراعه الفاظ وعبارات لامعنى لها حتى في سياق تشتيت تفكيره كفيلسوف اشهر من نار على علم الذي لا يعرف ماذا هو نفسه يريد قبل اهمية توصيله للمتلقي ما يريد. مع الاسف الشديد والاسى الضائع اننا نفهم قبول افكار فلسفية مشتقة من اسم قائلها الفيلسوف وحيد زمانه وعبقرية تاريخ العالم. بمعنى نأخذ التسليم بآراء فيلسوف ذائع الصيت وفلسفته هراءات وهذيان لا يقبله عاقل نصف معتوه.

وعي الوجود الذاتي الضائع الذي يضعه الانسان في جيبه (ماهية وصفات) ولا يدركه عقليا، هو وعي الانسان بكينونة متكاملة  يكون الوعي بها بلا معنى ولا قصدية ولاقيمة حقيقية له ترفضه الفلسفة الوجودية ذاتها التي ينتسب لها فيلسوفنا هيدجر.

الوجود الملازم للانسان كظله لا يجعله في غنى البحث عن تحقيق ذاتيته القيمية كانسان في بحثه عن مدركات تعطي وجوده معناه الحقيقي ضمن عالم يعيشه.

الانسان في كينونته الكليّة لا ينقسم الى وجود سايكولوجي منفرد، ولا الى وجود (قيمي) آخر انساني أو أخلاقي منفرد حتى لو جاء على صعيد تباين واختلاف السلوك المترتب بينهما. ورغم الإفصاحات السلوكية الانسانية المتباينة عن كلا المحتويين الوجوديين بالحياة.

وفي حال تسليمنا لصحة مقولة هيدجر أن الانسان ليس بحاجة توكيد وجوده لأنه هو هو وجوده، فبأي وسيط اجتماعي او غير اجتماعي يمكن للانسان إمتلاك وجوده الحقيقي غير التكويني الملازم له في محاولته إثبات وجوده المتمايز ضمن فعالية مجتمعية تحتويه هو وغيره.؟

توكيد الذات لنفسها في موجودية منفردة لا قيمة حقيقية لها بالحياة فألانسان موجود لا يحقق كل رغائبه الفردية بمعزل عن مجتمع يحتويه. فما فائدة عبارة هيدجر لايحتاج الانسان البحث عن وجوده لانه هو هو وجوده.؟ اليس هيدجر هو صاحب المقولة : وعي الانسان يجب ان يكون قصديا في وجوب انتمائه لعالم من الناس والموجودات والطبيعة؟ وجود الانسان المادي المستقل بالطبيعة هو معطى طبيعي وليس إكتسابا معرفيا يسعى الانسان تحقيقه لنفسه في تحقيقه انفرادية سلبية معزولة مجتمعيا.. وهذه من بديهيات معرفة الانسان انه حيوان ناطق مجتمعي منذ زمن افلاطون، ويعي ذاته في الطبيعة أنه جزء منها منفرد مستقلا عنها. وانه ثالثا وليس اخيرا انسان يمتلك خاصية عقلية تدرك ذاتيتها والمحيط والبيئة من حولها، ويسم هذا العقل بانه يعي وجوده الزماني ويفكر ما ذا سيكون عليه مستقبله وغيرها من ميزات بقيت الفلسفة تعتاش عليها قرونا طويلة جدا. لياتي هيدجر صاحب تعبير(الدزاين بمعنى الوجود هناك) ليشحن سوق مباراة تسويق توافه الفلسفة في اجلالهم اسم الفيلسوف. لماذا أقر الفلاسفة منذ ظهور فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي ان معظم قضايا الفلسفة كانت تجريدا لغويا بلا معنى؟

الوجود الانساني الحقيقي الفاعل بالحياة لا يتم بغير إمتلاكه الفعاليات البيولوجية التالية: التعبير عن الحرية بمسؤولية عن حرية الاخرين، إرادة الفعل والحركة، السعي نحو هدف قصدي يحتاجه الانسان تحقيقه له ولغيره. ويوجد أمور أخرى عديدة تمّثل خصائص الوجود الحقيقي للانسان. فالوجود الانساني لا يقاس إلا بمعيارية (الفعل) الانساني البراكسيس فقط.

والوجود لا يعبّر عن أصالته الحقيقية إلا بالعمل وفق الوعي القصدي بالحياة. لا وفق الوعي النرجسي في توكيد انفراد الذات بوجود وخصائص افتراضية لا نصيب لها في التحقيق. رغم ان سعي الانسان تاكيد موجوديته النرجسية مشروعة كون حب الذات غريزة وليست طموحا يكتسبه الانسان في وعي وجوده. لكن الذاتية النرجسية سلب مجتمعي لا يضعها في موضع الايجاب الصحيح سوى علاقة الذات الاندماجية بالمجتمع.

الوجود الديناميكي للإنسان هو وعي قصدي مدرك أهمية الإمتلاك عندما يكون الانسان مشروع تنمية مستدامة من التطور الفاعل لوجوده. وبحسب سارتر تحقق الوجود المتمّيز الفاعل لا يكون إلا في حالة من التنمية المتصاعدة في تخليق الانسان نفسه بنفسه في إمتلاكه وعيه بالحرية الكاملة، فهي أساس كل إختيار حقيقي في الوجود، كما هي أيضا معيارية أصالة الوجود بالحياة.

وممارسة الحرية بمسؤولية لا يكون حقيقيا صادقا بغير وعي الذات لأهميتها في تحقق الإرتباط المثمر بالوجود الانساني في صنع الحياة، لذا الحرية وعي وجودي مدرك بإمتلاء ذاتي ومسؤولية انسانية حرة. وهذا لا يتوفر لكينونة لا تمتلك ذاتيتها الوجودية وتعي إرتباطها بعالم بتعبير سارتر الانسان محكوم بالحرية.

تناقض الوجودية نفسها على لسان هيدجر قوله "الانسان ذاتية خالصة، وليس مظهرا أو تجسيدا لتيار حيوي أشمل منه هو التيار الكوني ". لا أعتقد ونحن نتحدث عن وجود أرضي أن تكون معياريته الحقيقية في ذاتيته الخالصة في تيار أشمل منه هو التيار الكوني. ولا أعتقد هيدجر صاحب مؤلف (الكينونة والزمان) لا يعرف الزمن هو إدراك الانسان وجوده الديناميكي المتواتر، وهذا الإدراك الزمني كتحقيب أرضي هو معيار موجودية الانسان في تحقيق تنميته الانسانية كذات متمايزة غير منفصلة عن محيطها في حالتي المجانسة بالعيش نوعيا داخل مجتمع بشري، وبين عدم تجانسها الماهوي ولا الصفاتي مع موضوعات يدركها في الطبيعة يتقاطع معها.

الانسان كينونة مدركة في تعّين زماني- مكاني غير مفارق لها.، وإدراك كينونة الانسان أو بعض جوانبها الماهوية وخصائصها الصفاتية من خلال إفتراض تعطيل الزمن الإدراكي الذي يحكم قوانين الطبيعة شاملة، هو نفس الزمن الإدراكي الذي يحدسه الوجود الكوني من غير وجود انساني فيه.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

في المثقف اليوم