أقلام فكرية

فلسفة مشروع نصر حامد أبو زيد.. مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن

شغلت قضية تجديد الفكر الدينيّ الإسلاميّ العديد من المفكرين والباحثين والدعاة المتنورين الذين أدركوا أن تبلور فهم عصري جديد للإسلام من شأنه أن يجدد حضوره، وحضور المسلمين في دائرة التواصل الكوني. وتكريس مبدأ تعايش الأديان، كخطوة أساس لتحرير الإنسانية من تغول التزمت، ومن إرهاب الاستبداد، والنزعة المتطرفة التي تزعم احتكارها للحقيقة. وحيازتها اليقين، والقول الفصل.

وكان المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد من بين هؤلاء الذين كرسوا جهودهم الفكرية وأبحاثهم من أجل ربط هذه المهمة المقدسة بتحرير العقل والإرادة، إذ رأى في الإسلام حركة ثورية ضد الظلم والاستغلال والهيمنة.

وقد تركز مشروعه في "ضرورة قتل الماضي بحثًا" كما يقول أمين الخولي.

لقد مضى أبو زيد في تقديم تصوراته لصياغة منظومة مفاهيمية منفتحة على العصر، تقدس العقل وتحترم التعددية، وتنشر الخير، وتحافظ على الحرية والكرامة الإنسانية.

لقد مضى نصر حامد أبو زيد يشق دربًا صعبًا في مسألة النص الديني، وراح يعيد ترتيب الوقائع النصية بما لا يتعارض مع السياق الإيماني، متتبعا تحولات المعنى، منذ مأزق التأويل الذي وقع فيه المفسرون الأوائل للقرآن، حتى اللحظة الراهنة.

وكان يقتضي ذلك مواجهة التأويلات البشرية التقليدية للخطابات الدينية، وتقديم تصور معرفي جديد يعمل على تأويل تلك الخطابات في سياق تشكلاتها التاريخية والاجتماعية.

وتجلت بداية هذه المواجهة، حينما انتقل أبو زيد إلى مركز الإشكال الديني، وتصدى لتأويل الخطاب الديني بأدوات لا تقطع الصلة بفتوحات التأويل المجازي المعتزلي(وهذه رسالته في الماجستير)، والرمز التصوفي في كتابه(هكذا تكلم ابن عربي)، والبرهان الفلسفي ، فراح يبني على تلك التصورات المنهجية وبعضدها بأخرى مستقاة من المنهجيات الحديثة، من أجل بلورة مفاهيم تأويلية تنظر إلى الخطاب القرآني بصفة خاصة، والديني بصفة عامة، من زاوية معاصرة تغني دائرة الإيمان وتعززها.

وبخلاف ما يعتقد مناوؤوه، فقد ظل أبو زيد يحاذر، في تأويلاته، المسَّ بالطبيعة الإيمانية لمصدر الخطاب القرآني، وفي الوقت نفسه بقي يؤكد أن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، ومن ثم، لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة أمرٌ لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها.

لذا انخرط أبو زيد في "تأسيس تاريخية" لبنية الخطاب الإلهي، وكشف طبيعة القراءات الإيديولوجية للنص القرآني، بفضل قراءة تحليلية نقدية تتوسل، بالدرجة الأساس بمنهجية تحليل الخطاب، وتفيد من مناهج السيميولوجيا، فضلًا عن الإفادة من مناهج الألسنية والأسلوبية وعلم السرد، وسواها من المنهجيات المستخدمة في حقل العلوم الإنسانية، من أجل تقديم رؤية معاصرة للفهم القرآني.

ويقرّ نصر حامد أبو زيد كما فعل أسلافه من علماء الأمة على اختلاف مناهجهم واتجاهاتهم قديما وحديثا، بأن الإسلام يقوم على أصلين؛ هما "القرآن الكريم" والحديث" النبوي الصحيح.

كما يقرّ أن هذه النصوص لم تلُّق وتهطل كاملة، أو نهائية في لحظة واحدة، بل هي نصوص لغوية تشكلت خلال فترة زادت على عشرين عاما، ما يعني وجودها المتعين في الواقع والثقافة.

واقترح أبو زيد وفقًا لذلك، وضع الخطاب القرآني في السياق التاريخي للفعالية الاجتماعية والبشرية التي يتوجه إليها، ما يستدعي مسبقا الإقرار بأن لمستقبل الخطاب- نحن المكلفون المسلمون- في فهمه في ضوء المعطيات الثقافية والتاريخية للحظة انبثاق الوحي وتنزيله.

يقول أبو زيد: " إن القران يصف نفسه بأنه رسالة، والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة، أو نظام لغوي. ولما كان المرسل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضعًا للدرس العلمي، فمن الطبيعي أن يكون المدخل لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة، الواقع الذي ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص وينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول، والثقافة التي تتجسد في اللغة، بهذا المعنى يكون البدء في دراسة النص بالثقافة والواقع بمثابة بدء بالحقائق. ومن تحليل هذه الحقائق يمكن أن نصل إلى فهم علمي لظاهرة النص. إن القول بأن النص منتج ثقافة يكون في هذه الحال قضية بديهية لا تحتاج إلى إثبات. ومع ذلك فان هذه القضية تحتاج في ثقافتنا إلى تأكيد متواصل نأمل أن تقوم به هذه الدراسة." (1)

ويقول أيضا: " قولنا إن النص منتج ثقافي يمثل بالنسبة للقرآن مرحلة التكون والاكتمال، وهي مرحلة صار النص بعدها منتجا للثقافة، بمعنى أنه صار هو النص المسيطر الذي تقاس عليه النصوص الأخرى وتتحدد به مشروعيتها. إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها، وبين إمداده للثقافة وتغييره لها.(2)

ولعل هذه المسألة هي التي أثارت أشد الزوابع ضد أبو زيد، بعدما أوردها  في كتابه "مفهوم النص"، رغم حرصه الشديد ألا ينشأ تعارض منطقي بين ربانية النص وواقعية محتواه وانتمائه إلى أفق الفهم البشري.

فالقرآن كما يصفه أبو زيد بأنه:" نص لغوي يمكن أن نصنفه بأنه يمثل في تاريخ الثقافة العربية نصا محوريا، وليس من قبيل التبسيط أن نصف الحضارة العربية والإسلامية بأنها حضارة النص، بمعنى انها حضارة أنبتت أسسها وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يمكن تجاهل مركز النص فيه. وليس معنى ذلك أن النص بمفرده هو الذي أنشأ الحضارة، فالنص أيًا كان (قرآن- سنة- فلسفة - أدب) لا ينشئ حضارة ولا يقيم علوما وثقافة. إن الذي أنشأ الحضارة، وأقام الثقافة جدل الإنسان مع الواقع من جهة، وحواره مع النص من جهة أخرى. إن تفاعل الإنسان مع الواقع وجدله معه – بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية- هو الذي ينشئ الحضارة. وللقرآن في حضارتنا دور ثقافي لا يمكن تجاهله في تشكيل ملامح هذه الحضارة وفي تحديد طبيعة علومها. وإذا صح لنا بكثير من التبسيط أن نختزل الحضارة في بعد واحد من أبعادها لصح لنا أن نقول: إن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة ما بعد الموت، وأن الحضارة اليونانية هي حضارة العقل. وأما الحضارة الإسلامية العربية فهي حضارة النص. (3)

لقد حاول مشروع أبو زيد التأويلي أن يخلص إلى صيغة تصل التراث الديني، بكل عناصره ومستوياته، بلحظة العيش الراهنة الآن وكذلك بالمستقبل، لأنه يعتقد أن الانقطاع عن الماضي يعادل الإقامة فيه، وبالتالي، لا بد من البحث آلية تقرأ الماضي، ما يجعله مستمرا في الحاضر، ودافعا إلى الترقي، وحافزا على الإصلاح والتمدن.

***

سُميّة إبراهيم الجنابيّ

باحثة في الشأن الديني، طالبة دكتوراة.

......................

(1) مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، الناشر: مؤمنون بلا حدود- المغرب العربي، الرباط، الطبعة الأولى- 2017م، 24.

(2) مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، 24-25.

(3) مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، 9.

في المثقف اليوم