أقلام فكرية

الفعل قبل الوعي والنظام قبل الكلام

قاسم المحبشيفي البدء كان الفعل وليس الكلمة

السلوك قبل الوعي، فإذا تغيرت الشروط المادية لحياة الناس وتحسنت فرص عيشهم بما يشبع حاجاتهم الاساسية فربما تتغير افكارهم وأفعالهم وتفاعلاتهم وأنماط علاقاتهم الاجتماعية وقيمهم وسلوكهم إذ أن أفكار الناس تنبع من واقع علاقاتهم الاجماعية في عالم الممارسة اليومية والسؤال هو: لا ماذا يفعل الناس؟ ويعتقدون ويقولون؟ بل لماذا يفعلون ما يفعلونه ويقولون ما يقولونه؟! والأيديولوجيا تعني أن الناس يفكرون من اقدامهم! والثقافة بالمعنى الانثروبولوجي؛ هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء! بمعنى أن الوعي إذا لم يترسخ في السلوك ويكتسب صفة العادة لا يصمد كثيرا في مواجهة تحديات الحياة الواقعية، وحينما يتكرر الفعل والسلوك مرات كثيرة يصير عادة وحينما تترسخ العادة تصير ثقافة. والوعي لوحده لا يغير حياة البشر وحاجة الناس الى مثُل عليا للسلوك اكثر من حاجتهم الى المواعظ والتعاليم والنصائح. والجماعة السياسية إلى ترغب في قيادة الناس لا تكلمهم عن ذاتها ونواياه فيما سوف تفعله من أجلهم بل عليها فعل ذلك بصمت وبلا ضجيج عبر المؤسسات وليس عبر الأشخاص. والناس هم الذين يقومون بتشكيل مؤسساتهم العامة ثم تقوم هي بتشكيلهم فكيفما كانت مؤسساتهم يكونون ولا سحر في التاريخ ولا مصادفة في الطبيعة. لا الأخلاق ولا المواعظ ولا التقوى ولا الدين ولا الثقافة ولا الحب ولا الانتماء ولا النوايا الطيبة يمكنها أن تصنع النظام في أي مكان أو زمان في هذا العالم. النظام والانضباط هو ابن الدولة والقانون الذي ليس له لا قلب ولا عيون! هو سيد الجمع بلا استثناء. ولا وحدة ولا اتحاد ولا اجتماع ولا اندماج بدون مؤسسة دستورية قانونية جامعة وعادلة ومستقرة إلا في قلوب القوى الناعمة فقط. والناس بدون قانون ومؤسسات وعيونهم الى الأرض أشد فوضى وانحطاط من الحيونات. والأشخاص يأتون ويذهبون بينما المؤسسات هي وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون والتنمية. والتنوير بدون تنمية محسوسة وملموسة وفاعلة يظل جهدا مرهقا في بيئة تشكلت مؤسساتها منذ أقدم العصور وثمة فرق شاسع بين فقيه عربي نقلي يستند على مؤسسة سياسية ودينية عمرها ١٤٠٠ عاما وفيلسوف عقلي ليس لديه من سند غير عقله وثقافته الخاصة في سياق تاريخي ثقافي محاط بالجهل والتجهيل من كل الجهات. الاستئناس بقوى العقل والتفكير في بيئة النقل والتكفير يعد مغامرة غير مأمونة العواقب. ومع ذلك ثمة من لديهم الشجاعة لخوض التجربة. وتلك هي وظيفة المثقف العضوي وبين السلاطين ووعظهم علاقة هيمنة ظاهرة وخفية يتم تكريسها منذ أقدم العصور؛ علاقة تتعين شفرتها بلسان حال السلطان على النحو التالي (نحن نحكم الناس بالقهر والطغيان والاستبداد إلى حد جعلهم يكرهون حياتهم) وأنتم -وعاظ السلاطين- عليكم تقديم لهم العزاء والسلوى وايعاظهم بان الحياة الآخرة هي خير وإبقى! وهذا هو سر اندلاع الموجات المتكررة من الحروب الدينية الطائفية التي يندفع اليها الشباب المسلمين برغبة وحماسة منقطعة النظير تحت رايات الجهاد في سبيل الله ومن أجل الفوز بجنات النعيم وبالحور العين.وفي المجتمعات التي تضيق فيها حدود الحرية؛ حرية العقل والضمير تضيق فيها آفاق الخيال والإبداع والتفكير والتعبير فبدلا من اطلاق العنان للعقل والخيال فيما ينبغي أن يكون يرتد اهتمام الناس للتفكير باعضائهم التناسلية وحاجاتهم البيولوجية والبحث عن سبل اشباعها إذ يندر أن تجد فيها أشخاص طبيعيين يتصرفون ببراءة وعفوية بالاتساق مع سجاياهم الحقيقية بل تسود ثقافة وقيم الظاهر والباطن، وتزدهر قيم التكلّف والتزلف والنفاق والمرآءة والمجاملات والكذب والحقد والخيانة والغدر والخديعة والشتم والغيبة والنميمة والحذر وانعدام الثقة والشك والارتياب وسوء الفهم وسوء الظن والفصام وازدواج الشخصية وسرعة التقلب من حال الى حال، والجمع بين المتناقضان دون الشعور بالتناقض، وصعوبة التنبؤ بسلوك الأفراد وردود أفعالهم. ويمكنك تعداد المزيد من القيم السلبية من واقع حياتك اليومية ومعاشرتك للناس في محيطك الاجتماعي وحينما تسود تلك القيم السلبية حياة مجتمع من المجتمعات يصعب أن تجد أحدا من الأفراد غير متأثر بها بهذا القدر أو ذاك .

***

ا. د. قاسم المحبشي

في المثقف اليوم