أقلام فكرية

اللغة في الفطرة التوليدية النحوية

علي محمد اليوسفتمهيد: كتاب عالم اللسانيات وفيلسوف اللغة نعوم جومسكي (افاق جديدة في دراسة اللغة والعقل) ترجمة عدنان حسن يحتوي اشكاليات فلسفية لغوية معمقة تحتمل نقاشات عديدة. اجد باديء ذي بدء ضرورة الاشارة الى ورود اسبقية اللغة على العقل في عنونة الكتاب كانت غير صحيحة.

فالاصح دراسة العقل واللغة من حيث دلالة معنى اسبقية العقل على اللغة في التراتيبية البيولوجية لكل منهما. فاللغة تجريد ونتاج العقل وليس العقل تجريدا ولليس وجودا بيولوجيا لنتاج اللغة. عليه تكون اسبقية العقل على اللغة اصح.

قبل الدخول الى معالجة اشكالية الفطرة اللغوية والمكتسبة لدى جومسكي اطرح التساؤل التالي رغم اني عالجت الموضوع باكثر من مقال منشور لي:

هل العالم الذهني هو نتاج العقل التفكيري في وعيه المدركات الشيئية بايولوجيا؟ ام الذهن اشمل تفكيرا من العقل والوعي وتعبير اللغة؟ علما ان كلا التفكيرين للعقل وللذهن في تعبيرهما عن المدركات والمواضيع هما تجريد لغوي صوري تمثلي للاشياء سواء نتج الادراك عن مصدر عضوي بايولوجي هو الدماغ او نتج عن مصدر غير عضوي هو الخيال، علما ان تعالق الخيال بالذاكرة تعتبر ما يدركه الخيال هو تفكير مختلط يتداخل فيه الشعورواللاشعور وكلاهما نتاج عقلي تجريدي في تعبيراللغة عنه . لذا يكون كل مدرك للعقل تعبّر عنه اللغة مصدره العقل وبالتحديد جزء في قشرة الدماغ بضمنها مواضيع النفس والعواطف والاخلاق والحاجات الغريزية للانسان التي مصدرها الاحاسيس الاستبطانية الداخلية التي تثيرها تكوينات الجسم الداخلية...

المفارقة التي اود ذكرها لطبيعة غرابتها المعرفية عندنا ان الشعور الواقعي الانساني بكافة تجلياته لا يشكل اكثر من 5% بالمئة. في حين يمتلك اللاشعور نسبة اكثر من تسعين بالمئة، هذا يترتب على أننا لا نعيش عالمنا الحقيقي الذي نحياه بل نعيش زيف واقعنا بالحياة وهذه اشكالية طرحها افلاطون تحتاج برهنة صحتها فلسفيا. لذا تكون هلوسات نيتشة وهيجر وفوكو واخرين غيرهم يجدون فلسفيا انه يترتب علينا السعي ان نعيش عالمنا الحقيقي الذي يتمثل غالبيته في اللاشعور مثل كل تداعيات عالم الاحلام كما نجده في لا شعور الشاعر ومعظم الاجناس الادبية والفنية وكذلك في لاشعور ادراك المجنون لواقعنا واسلوب حياتنا. (لي اكثر من مقال منشورحاولت فيها تعرية هذه الخيالات غير المنضبطة عقليا واقعيا).

علاقة التفكير بين العقل والذهن

اذا كان يذهب بعض الفلاسفة ان مرادف العقل هو الذهن وهما يشتركان بخاصية واحدة هي التفكير بالمدركات وتعبير الوعي واللغة عن تلك المدركات بالمطابقة التعبيرية بين اللغة والواقع.. فهذا خلط غير مبرر لا يمكن التسليم به لا علميا فسلجيا ولا فكرا فلسفيا. فتفكيرالدماغ هو ليس تفكير الذهن ولا ينوب احدهما القيام بوظيفة الاخر. فالدماغ موضوعه التفكيرفي تجريد الفكر اللغوي التمثّلي عن مدركاته الشيئية في الواقع والخيال. اما تفكير الذهن فهو نقل حزم الانطباعات الحسّية من العالم الخارجي بواسطة الحواس وتوصيلها الدماغ عبر شبكة منظومة الادراك العقلي.

واذا كان المقصود بالذهن فلسفيا وليس بيولوجيا هو العقل غير الفيزيائي الذي يقصده ديكارت انه جوهر خالد بمعنى ماهيته التفكيرالذي يزودنا بالمعرفة حينها يكون الذهن أعلى مرتبة تراتيبية معرفية تعلو اولوية العقل بمعناه البايولوجي الذي ينتج لنا تعبير لغة التجريد. بهذا المعنى يكون الدماغ هو تكوين نتاج تفكير ذهني لا يمتلك استقلالية السيطرة على مجموع حلقات سلسلة منظومة العقل الادراكية التي تبدا بالحواس وتنتهي بالدماغ من ضمنها الذهن نفسه وهو استنتاج خاطيء فضيع.

ان نخلع على الذهن خاصية الدماغ العقلية البيولوجية بالتفكير خطأ واضح. الذهن وظيفته معالجة الانطباعات الادراكية الواصلة له عبر الحواس. والذهن ليس موضع تخزين لمعطيات الفكر والوعي واللغة. اي الذهن لا ينوب عن الذاكرة في مخزون التجارب التراكمية المصحوبة بطبيعة استذكارية وخبرة سابقة عن مدركات الاشياء واهمية التعامل معها في استقلالية او في علاقاتها مع التصورات الاستذكارية خياليا المرتبطة مع بعضها في علاقة تخارج معرفي يتداخل فيه الزمن والخيال والواقع.

الذاكرة هي مستودع تخزين وقائع التاريخ الماضي كتحقيب مكاني مشروطا بزمن ماض لا قيمة حقيقية له في عملية الاستذكار. اكتسب التاريخ تحققه الزماني كوقائع ثابتة بدلالة زمنية لايمكن الاخذ بها سوى في تورخة الوقائع التاريخية التي حدثت بالماضي ونحاول استذكارها.

لذا لا علاقة بين الذاكرة والذهن بمقدار العلاقة الحقيقية بين الذاكرة والاستذكار الخيالي. برجسون وهيوم ينكران اية علاقة ترابطية بين الذاكرة والذهن. خلاف خاصية العقل انه يعالج افكارا مادية بمعنى يمكن التاكد من حضورها الانطولوجي المتعيّن وقد اكتسبت البت القاطع عقليا بها ولا يشترط ان تكون ردود الافعال العقلية صحيحة على الدوام التي اطلق عليها كانط مقولات العقل في ادراكه الاشياء والموضوعات.

فالعقل بمجموع منظومته الادراكية يخطأ تماما مثلما يخطأ الذهن والوعي وتعبيرات اللغة عن إعطائهم المعنى التام عن مدركاتهم. ان تعرف الشيء على حقيقته التامة امر مستحيل اذا ما علمنا ان جميع حلقات المنظومة الادراكية في مصدرها العقلي تكون لديها نقص يحتويها في نقل ادراكاتها للاشياء. فالحواس خادعة، والانطباعات خادعة، والذاكرة ينخرها داء النسيان ، والوعي يغالب الفكر واللغة في المصداقية. عليه تكون الايعازات الواصلة للدماغ ادراكيا  حتما تعطي في بعض الحالات ردود افعال تخالف حقيقة المدركات المادية او الموضوعات التي مصدرها المخيال او حتى التي يكون الواقع المادي مصدرها.

جومسكي الفطرة اللغوية والمكتسبة

اثار جومسكي قضية لغوية اخذت حيزا نقاشيا كبيرا من قبل علماء اللسانيات وفلاسفة اللغة. وكانت قضية مركزية اكسبت جومسكي رغم تواضعه الجم شهرته العالمية اضافة لشهرته في قضايا سياسية واجتماعية ومواقفه الثابتة من الحرية وحقوق الانسان والتمييز العنصري وانتاده اللاذع الجريء للراسمالية وغيرها توزعت مؤلفاته ومقالاته بالمئات.

اخترت مناقشة قضية الفطرة اللغوية في النحو التوليدي باللغة لأني كنت طرحت مناقشتها في مقالات اخرى سبقت هذه المقالة وعندي بعض التحفظات عليها ارجو التوفيق في عرضها ومناقشتها سريعا بما يسمح به المجال.

يقول جومسكي ( ان جزءا اساسيا من معرفتنا باللغة يتحدد وراثيا. او يكون فطريا، وان كل شيء لغوي فطري يعني مبرهن ذاتيا من حقيقة ان الاطفال يكتسبون اللغة بخلاف القطط والكلاب والعناكب والصخور والاشجار لا تفعل ذلك.) ص 14 من مقدمة كتاب جومسكي المشار له بالتمهيد.

لا بد لي من تسجيل بعض الملاحظات:

هل المعرفة باللغة يعني اختراعها بوعي مسبق قبلي لا يعتمد مصدر تزويده ببعض خصائصها المطلوبة اللغوية؟ ام يعني امتلاكها وراثيا جاهزة في ابجدية لغوية صوتية ذات معنى مخزّنة بالجينات الوراثية؟ بضوء تعبير جومسكي؟

المعرفة باللغة يعني انك قد اكتسبت قبليا الكثير عنها من نحو وقواعد ومرادفات وبلاغة واعراب وغير ذلك كثير ومتنوع، اما اختراع اللغة في تمام صفاتها وخصائصها النحوية التي تتعايش بها ومعها امم وشعوب مختلفة لكل منها لغتها الهوياتية الذاتية الخاصة بها. او الاضافة الحتمية الضرورية المرافقة لسيرورتها التطورية في بعضها فهي اضافة مكتسبة تعديلية تزامن مراحل عمرية متقدمة على مرحلة الطفولة غير الناطقة بلغة فطرية صوتية لها معنى. اصوات الطفل ليست لغة لها معنى تواصلي نفهمه بل اصوات اللغة تصبح لغة ذات معنى في مراحل عمرية متقدمة على الطفولة.

توليد تراكيب جديدة يخترعها المنطق اللغوي لما نجده في اللغة من اخطاء يتوجب معالجتها يمثّل الاضافة المكتسبة للغة. كما ان خاصية التوليد اللغوي المتجدد لا تكتسب خصائصها بالفطرة بل بالخبرة التراكمية المكتسبة مجتمعيا.

اللغة داخل الدماغ هي غيرها اللغة خارجه التي يخترعها الانسان ويبنيها بقواه الفردية وامكاناته كفرد ضمن مجتمع التي هي لغة التواصل والعلاقات المعرفية والادراكية التي تمتلك جميع الضوابط والاحكام النحوية الخاصة بها. في التعامل مع المحيط ومظاهر الحياة والناس الاخرين وهي جميعها لا تمت للفطرة اللغوية بصلة بل هي من الالف الى الياء مكتسبة..

كل ادعاء ان بعض من المعارف وراثية فطرية ليس مصدرها التعايش المجتمعي كخبرة تراكمية هي خاطئة. كانط حينما اعلن ان ادراكاتنا ومعارفنا العقلية الفطرية انما يحتويها وتقتصر فقط على عملية كيف ندرك وليس عملية كيف نعلم. ما اطلق عليه فطرية قالبي الزمان والمكان على انهما وسيلة ادراك للعقل ولا يمثلان موضوعين يدركهما العقل متحدين او منفصلين بين ما هو مكاني عما هو زماني. وحينما وجد كانط هجوم ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي نفيهم نفيا قاطعا وجود ما يسمى معارف فطرية تورث بالولادة. قال كانط مقولته الشهيرة (لقد ايقظني ديفيد هيوم من سباتي الفلسفي الدوجماطيقي).

ليس كل معرفة لغوية هي معطى فطريا يكتسب برهان حقيقته بالوراثة الولادية كما يقول جومسكي. كل ما نرثه بالولادة يكون معيار حقيقته هما واقع الحياة والمجتمع الذي يتكلم ويتعامل بلغة خاصة به. الاسرة والمدرسة والمجتمع يعّلمون اللغة التي أورثوها اجيال من بعدهم من نسلهم ولم يرثوا الاطفال حتى في يفاعتهم عن اللغة ما يمكنهم التعامل باللغة غير اهميتها كهوية واعتزاز بها لغة مميزة لشعب تجمعه العيش المشترك والمصالح المشتركة..

ولا تحمل الفطرة اللغوية البرهنة الاستبطانية المشكوك بها التي لا تحتاج تقويم المكتسب المجتمعي المضاف لها.. اللغة المعاشة في تعبيرها عن الحياة اصدق تعبير لا تحتكم الفطرة بما تنجزه من نمو لغوي توليدي مكتسب. اللغة هي سريان يداخل ويزامن مجرى سيرورة الحياة ولا يورث بالولادة.

ولا صحة دقيقة لتعبير جومسكي ان جزءا اساسيا من معرفتنا باللغة يتحدد وراثيا او يكون فطريا ناجزا في تلقي الطفل له. الانسان كائن لغوي يرث استعدادا فطريا في تحقيق اكتسابه اللغة المجتمعية بتأثير المجتمع في السلوك والتخاطب التواصلي.، ولا يوجد ما يؤكد اننا نرث بالولادة الفطرية ابجدية لغوية صوتية في التعبير تمتلك معنى ندركه في الواقع. معنى اللغة يحدده المجتمع ولا تحدده الفطرة غير المكتسبة التي هي اصوات لا معنى لها يتفوّه بها الطفل.

اللغة بمفهومها العام في علم اللسانيات هي الملفوظ الصوتي الذي له معنى محدد ادراكيا. والمعنى الصوتي للغة لا يقوم برهانه على حقيقة وراثية يمتلكها الطفل دون غيره. الفطرة اللغوية نفهمها انها استعداد فطري لتعلم اللغة حسب خصوصية كل شعب أو أمة وليس إختراعها توليدا جديدا لها لانها معطى انثروبولوجي اقامه الاسلاف منذ مئات الالوف من السنين.

جديد اللغة يأتي مكتسبا وليس موروثا فطريا. والتوليدية اللغوية الاشتقاقية المتجددة باستمرار تكون تكاملية معرفيا بفعل عامل تاثير المجتمع لا عامل تاثير الفطرة.

كم كان جون لوك متشددا بصرامة عقلية لا تقبل ولا تتقبل الخطأ بالقوة في مقولته الخالدة (الطفل يولد وعقله صفحة بيضاء).

الجينات الوراثية الكروموسومات ومنظومة الخصائص الوراثية (دي.ان.اي) لا تورّث ماهو مكتسب غير معروف ومخزّن تجريبيا، بل ما هو اصبح فطرة مكتسبة بتراكم الخبرة يوّرثها الوالدان لطفلهما كصفات وليس كمعارف في فهم الحياة. وتؤخذ عن الوالدين فقط تعليم الصغار ان اللغة خاصية انفرادية ذاتية يكون توريث المجتمع لها بمعنى الحفاظ على خواصها التطورية  سابقا على توريث منظومة الجينات الوراثية لها.

كل معرفة لغوية فطرية هي بالاساس مصدرها مكتسب من المجتمع وليست فطرة يخترعها وينتجها العقل بقواه الذاتية لوحدها. مثلما انكر ديفيد هيوم منطق السببية عندما قال ان تجاربنا بالحياة حول السبب يلد عنه نتيجة هي بمرور الزمن تصبح (عادة) يقينية لا تحتاج برهان تحققها.

كذلك تكون مراكمة الخبرات اللغوية طيلة فترة مرور اجيال تصبح عادة مكتسبة من الاسرة والبيئة والمحيط ولا مكان لشيء لغوي نرثه بالفطرة.

كما ليس لدينا دليلا تجريبيا موثوقا علميا ان ما تدركه الانا الذاتية هو معطى قبليا مسبقا يكون مبرهن عليه بالبديهة الوراثية الفطرية.. من حيث كل مكتسب عن العالم الخارجي والطبيعة لا يكتسب الفطرة الوراثية الا بعد اجيال متعاقبة في اخذها نفس الفكرة المكتسبة مجتمعيا تداوليا.

تراكم الخبرة اللغوية المكتسبة عبر اجيال لا تغذّي الفطرة الوراثية اللغوية الناجزة بسمات وخصائص يمكن توريثها. ثم يوجد فرق كبير بين الاستعداد الفطري لتعلم اللغة الذي هو حصيلة توفر اسباب انثروبولوجية وبايولوجية متداخلة تحمل خصائص معينة لما نطلق عليه لغة. وبين موروث لغوي لا علاقة تنموية تربطه بالمجتمع. اللغة من دون كلام وكتابة لغوية مجتمعية تواصلية يصبح الانسان فيه حيوانا لا يمتلك عقلا مفكرا.

 قول العالم جومسكي ان جزءا كبيرا من اللغة هو فطرة مكتسبة لبرهانها اليقيني الثابت التي يستلمها الطفل بالولادة كاصوات لغوية وليس كلغة ذات حمولة مدلول صوتي – ومعنى جاهزا موروثا فطريا.

لاتوجد معرفة فطرية تكتسب مشروعية برهانها معها قبل ولادتها ورعايتها في حضن مجتمع. كل مكتسب لغوي يمكن البرهنة عليه لا يمثل خصائص فطرية تحمل برهان حقيقتها قبل اكتسابها برهان تحققها من المجتمع.

مقارنة الاستعداد الفطري للغة وليس وراثة اللغة مكتملة ابجدية المعنى والصوت عند الطفل بخلاف القطط والكلاب والعناكب كما اشار له جومسكي لا تمتلك لغة ولا توّرث لغة ناتج تزاوج ذكور واناث اي نوع من الكائنات بضمنها الانسان ولا لغة فطرية مستودع تخزينها الجينات الوراثية ليس سببها الحقيقي الفطرة والمكتسبة بل:

العقل الانساني للطفل واليافع ارقى انواع عقول الكائنات في الطبيعة الذكية فهو عقل مخترع ذكي يفكر يعي ويعبّر ويرغب تفسير كل شيء يصادفه بالحياة وهكذا وهو ما لا تتوفرعليه معظم الكائنات.

منشأ اللغة عند الانسان بهذا النظام الفريد الخاص بكل مجتمع او شعب من الشعوب تعود الى مصدرها انثروبولوجيا لعاملين نود الاشارة لهما قبل مناقشة اشكالية الفطرة اللغوية والمكتسبة.

العامل الاول والاخير هو تطور حنجرة الانسان ولسانه اللذان كانتا في بداياتهما الاولى عند الانسان هي تقليد اصوات الحيوانات التي وعيها الصوتي هي لغة رغبة التزاوج والتكاثر او رغبة الدفاع عن النفس من المخاطر التي تحيق بجنس متعايش نوعيا من الحيوانات.

الذكاء الانساني الطموح في وعيه الحاجات الانسانية المتعددة اهمها رغبة تحقيق اصوات ذات معان عديدة لا تقتصر على حاجة التكاثر ولا حاجة تحاشي الاخطار المستهدفة لنوع من الحيوانات. ولا حاجة العيش من اجل اشباع غريزة الاكل. بل اصوات تواصلية من اجل البقاء والنمو المتطوربصنع الحياة.

هذه الخصوصية التي يمتلكها الانسان دفعته نتيجة عوامل موضوعية ضرورة مغادرته اصوات الحيوانات وتركه تقليدها لانها لا تعبّر عن معاني حاجات انسانية لا تحتاجها تعابير لغة الحيوانات.

لذلك كان تعدد الحاجات التي تلبيها اللغة عند الانسان بخلاف الحاجة اللغوية الصوتية المحصورة بحاجة محدودة جدا لدى الحيوان وفي مراحل طويلة من الوجود الانساني اخترع الانسان الاشكال الرمزية اللغوية ليستقر في خلق نوع من الابجدية البسيطة التي يقترن بها الصوت مع دلالة المعنى منذ ما يقارب 2500 عام قبل الميلاد في اللغة المسمارية السومرية والاكدية..

وخير دليل نستشهد به هو تطور اللغة الى انواع من التعابير الجمالية مثالها خطوط الكتابة والحفر اللغوي على الجدران وعلى الرقم الطينية واراق البردي وغيرها ورموزمرسومة محفورة تمّجد ملوكها وآلهتها باشكالها المتنوعة وفي توظيفها في عصورنا الحديثة بالغناء والرقص والحركات الجسدية التعبيرية كما في المسرح الصامت والباليه واليوغا. هذا غير اعتماد اللغة توظيفها في الاجناس الادبية من شعر وقصص وروايات وفنون تشكيلية في عصورنا المتاخرة الخ.

نخلص من هذا ان لغة الانسان لغة وعي عقلي يتحسس الحاجة ويعيش ادراك الزمن بوعي متفرد لذا نجد تطور اللغة كانت عنده واضحة الطموحات حتى في توظيفها بنواحي جمالية ابرزها فن الغناء . بينما بقي وعي الحيوان لا يحتاج التفكير بامتلاك لغة متطورة تحمل خصائص حيوانية وتلبي حاجاته المستقبلية كما يفعل الانسان. اهم خواص تعتمدها اللغة انها عقلية هادفة متطور باستمرار وتحمل معان لا حصر لها وهو ما تمكن الذكاء الانساني من تحقيقه.

اللغة والعصر:

بضوء كل ما ذكرناه نعرض لفقرة وردت في احدى مقالاتي عن اللغة في مساءلة مركزية ماذا يريد العصر تحقيقه من اللغة وبها فلسفيا؟ هل لازالت اللغة سيدة حياة الانسان ام الانسان لم يعد له مايجعله محوراهتمام اللغة في جميع اشتمالاتها الاجناسية الادبية والفنية؟ وفي مناحي توفير حياة افضل.

يعبّر الفيلسوف الامريكي ليفريد سيلارز (1912 – 1989) عن الالتباس اللغوي الناتج عن أمثال مقولته: لا وجود لوعي سابق على اللغة، وأن مبتدأ ومنتهى فهمنا العالم هو تعبير لغوي، فهو يصادر العديد من الاعتراضات الواقعية المهمة التي تقفز على حقائق بيولوجيا الوعي العلمي وتجريد تعبير اللغة في البحث عن معنى الوجود في معنى اللغة،..لا وعي يسبق اللغة حسب سيلارز مقولة صائبة جدا صحيحة من حيث الصياغة في تغييب المعنى المضموني ان لا وجود للغة بلا وعي ولا وجود لوعي لا تستعوبه اللغة وسيلة افصاح ادراكي تعبيري عن معناه.

سيلارز بهذا التصور الالتباسي في عدم التفريق بين تمثلنا العالم الخارجي باللغة تجريدا، وبين أن تكون اللغة في فلسفة المعنى هي حقيقة تحصيلنا فهم العالم من حولنا، بهذه الازدواجية غير الواضحة في تعبير سيلارز يصادر حقائق مثل حقيقة الوعي واللغة كلاهما نتاج عقلي مصنوع ذهنيا ولا يمتلكان استقلالية فاعلة لها أهمية في عدم تعالقها بمنظومة العقل الادراكية، ويعتبر سيلارز اللغة والفكرالمتداخلين مرتكزي فهمنا العالم من حولنا وأنهما أداة فهمنا العالم من خلال فهمنا المعنى في اللغة، لكن لا يمكن للوعي واللغة خلق (عقل) يأتمر بوصايتهما هما عليه، الوعي واللغة هما حلقتان تجريديتان لا فيزيائيتان تحتويهما بيولوجيا نظام العقل الفيزيائي بالوصاية العقلية عليها، واذا كان الوعي واللغة كلاهما جوهران لا فيزيائيان قبل تعبيرهما عن موضعتهما الاشياء في عالم الموجودات، فهما (الوعي واللغة) يمثلان فكرا أعزلا ولا وجود حقيقي لهما خارج انتاجية العقل لهما ووصايته عليهما.

وبالنتيجة يكون الوعي هو حلقة بيولوجية في ارتباطه بمنظومة الادراك العقلي وليس تجريدا نفسيا لاعلاقة تربطه بجوهر العقل البيولوجي.وهو ما يؤكده الفيلسوف الامريكي جون سيرل. بمعنى أكثر وضوحا لا وجود لوعي خارج ارتباطه بالفكر واللغة ولا أهمية لهم ثلاثتهم جميعا يعتد الاخذ بها (الوعي، اللغة، الفكر) من غير وصاية تفكير العقل البيولوجي والخيالي عليهم وتوجيههم في تنفيذ ايعازاته في تمثلاته الاشياء ومدركاته الشيئية ومواضيعه في معرفتها وتغييرها.

لذا العالم لا يتغير باللغة المجردة ولا بالفكر المجرد ولا بالوعي المجرد غير المقيّد بتخليق العقل، بل بالعقل التفكيري الذي يلازمه الوعي والفكر واللغة كوسائل تنفيذ لمدركات العقل النظرية على الدوام في الاحتدام الفكري المتقاطع مع الواقع في تعبير العقل عن توسيله الوعي واللغة والفكر نيابة عنه الذين بواسطتهم يتطور الواقع ويتغير في مرجعية العقل لهم......

***

علي محمد اليوسف /الموصل

في المثقف اليوم