أقلام فكرية

الأم.. مريم العذراء (2)

سامي عبد العالالخلفية الكامنة وراء سرديات (الأم العذراء) في المسيحية والإسلام هو إبطال منطق الثقافة الأبوية بآلية طبيعيةٍ واضحةٍ. وهو ما يُسمى بعملية (الهدم الثقافي) من الجذور، وذلك بخلاف (التدخل الإلهي) القديم في مسار المجتمعات بطريقة الكوارث والأحداث الجسام واللعنات والهلاك. فمن المعروف أنَّ الله عندما كان يغضب على قومٍ كان يسلَّط عليهم قوى الطبيعة (الزلازل والبراكين والطوفان والريح والنيران والأمرض...) لإشعارهم بالغضب والعقاب وليجعلهم آيةً للعالمين. هذا بجانب غايات أخرى تتعلق بالإعجاز واثبات القدرة الإلهية وارسال الرسالات السماوية وكشف النعمة للبشر. غايات انبثقت عنها تصورات العناية الإلهية والرعاية ولاهوت النعمة والمحبة السارية في العالم وفقاً للفلسفات المسيحية.

إذا كان السيد المسيح قد ولدَ من أمٍ فقط، فلتكن ثمة فكرة جديدةٌ لا بد أنْ تبنى على حالته المختلفة. فكرة أنّ مسار الحياة ليس كما يعتقد الناس عادةً، وأنّ سلطة الأبوة المخبّأة في الذكورة بدأت تترنح، واثبات أنها ليست حتى اعتقاداً مبنياً على أساس متماسك. وجاءت المعاني التي أبطلت ذلك من جهة المبدأ (الميتافيزيقي – البيولوجي) الذي أنجبت على أثره إمرأةٌ عذراء ابناً بلا زوج. وهو مبدأ السر الإلهي الخفي من جنس قوانين الطبيعة، ولكنه تمَّ بصيغة اللاقانون هذه المرة كما نعرف. وكأنَّ الله يقول: إذا كنتم يا معشر البشر تعتقدون أنَّ قانون الطبيعة (الوالد والمولود- الذكر والأنثى) قد اخضعتموه للتحريف الثقافي، وبنيتم فوقه تلالاً قميئة من السلطة المذلة للشعوب، فلم يعد يجدِ ذلك كله، ولن يجدي كما تعبر (الأم العذراء) عن ذلك بلسان حالها الوجودي.

دوماً أحداث الطبيعة في السرديات الدينية تُغير جذرياً من نمط الثقافة السائد. ذلك عن طريق القوة الإلهية التي تتحكم في قدراتها (سلباً وايجاباً) لصالح الناس أو ضدهم. حدث هذا في عصور ما قبل الأديان الإبراهيمية، وجاء خبرها في قصص الأولين ومآلاتهم المحتومة ضمن الكتب المقدسة (التوراة والانجيل والقرآن). وربما تطوّرت الفكرةُ تباعاً مع الزمن، فبدلاً من أنْ يصب الإلهُ عقاباً طبيعياً أو كونياً على الأشرار ومرتكبي الخطايا، كانت دلالة المعجزات وأصداؤها تؤدي الغاية السابقة بطريقة فائقة للطبيعة وتترك تأثيراً كبيراً في الثقافة. وفي الوقت عينه، تترك المعجزات أثراً في طرائق النظر إلى العالم والأشياء والحياة. والتغير الثقافي من هذا اللون كان في المسيحية من جنس ما هو سائد من ثقافة أبوية غالبة في اليهودية والثقافات الشرقية الرعوية.

حيث كانت النزعةُ الأبوية قد تحولت إلى نمط حياة عصية على الترويض، وأخذت تتعارض بعناد شرس مع القيم والأخلاقيات والجوانب الإنسانية والزمنية من الأديان. فجاء تكوين المعنى عن العذراء مختبراً تاريخياً قوياً لنقض النزعة الأبوية وتقويض المكونات والطباق الإجتماعية والسياسية القائمة عليها. وليس هذا فقط، بل كان التأويل الأقرب للترجيح هو وضع الإنسانية في تجارب ميتافيزيقية مختلفة وتدريب الذهنية اليهودية بكل أبويتها لتقديم المرأة بصورة جديدة في الواجهة. وجرى ذلك بقصد محاربة الثقافة الأبوية بسلاحها الفتاك نفسه، فإذا كانت المجتمعات تستقوي بالذكورة، فهاهو السيد المسيح قد جاء مخالفاً لها من البدء.

إنَّ الأحداث الطبيعية الشاذة عن المعتاد (مثل ميلاد طفل دون أب) كانت تتطلب تحولاً في ذهنية المتلقين مباشرة عما هو سائد. وبخاصة أن الجانب الطبيعي منها كان علامة فارقة بالفعل في مسار التفكير والفعل ومسار الثقافة الطاغية آنذاك. بينما لو أنَّ أمر هذا التغير في المنظور كان ثقافياً (أي حَدثَ أنْ ولد السيد المسيح من أب بيولوجي وأم بيولوجية واضحين) ثمَّ جاء بالرسالة وسط العادات والمعتقدات الجارية ما كانت لتتغير الثقافة الأبوية بهذه السرعة التي حدثت.

هكذا لم يكن ممكناً إلاَّ اختبار مملكة الأبوة في عقر دارها التاريخي بتلك الصدمة الكبيرة التي حدثت لركيزتها الأولى وهي الذكر. إذ لم يؤدِ الذكرُ أي دور بيولوجي في عملية الولادة والخروج إلى الحياة. لأنَّ كل مولد لطفل من أب كان شيئاً مألوفاً ولم يكن ليلفت الانتباه إلى أي أثر غير تقليدي في المسألة. وبالتالي فإن ردود الأفعال وتكوين اللاهوت المسيحي بالنسبة لفكرة الروح القدس والآب والإبن ومعرفة المريمياتMariology جزء من العتاد الثقافي واللاهوتي المختلف في تاريخ الأديان الإبراهيمية.

بكلماتٍ واضحةٍ، كان الله قد عطَّل الناموس الطبيعي ليبرهن للناس أن التراتب الثقافي المبني عليه ليس ذات نفاذٍ طوال الوقت. وكذلك سيكون المعنى على موعدٍ مع اثبات المقصد الإلهي من المسألة. وهذا هو (خط إلتقاء) الثقافة والطبيعة حول أن الميلاد دون أب يؤدي وظيفة ثقافية خطيرة في تاريخ المجتمعات أو هكذا يفترض أن يكون الأمر. وبطبيعة الحال لا توضع تلك الغاية فوق إمكانية التفسير التاريخي للمسألة من عدمها. لأن الذي حدث قد جرى فعلياً ودخل حيز التاريخ، وكان جزءاً من تفسيرات المسيحية للحياة وعلاقة الرجل بالمرأة، وحاول مفكرون آخرون ذات توجهات كثيرة تبرير هذه الواقعة أو نقدها بحسب منطلقاتهم.

فلسفياً تعدُّ أبرز قضايا المسيحية هي تشكيل الطبيعة الأنثوية بخلاف المعتاد وجعلها جزءاً من المعتقدات ونمط العيش، حتى تنبني عليها تصورات وأفكار ومعالم أخرى تجاه الحياة والإنسان. وتمثل المسيحية في هذا توجها (انسانياً أنطولوجيا) لم يدركه أصحاب الديانة السائدة (الديانة اليهودية) بما اختمرت به من رؤى ذكورية في المقام الأول، حتى جعلت الرب بشراً ذكراً سواء في تفسيرها للماضي أو المستقبل أو خلع صفات بشرية عليه كرجل طاعن في الوجود والحياة وأنه قد اختار أصحاب اليهودية كرئيس قبيلة على العالمين. وجاءت تلك الخطوة المقلوبة أمراً مدهشاً بالنسبة للأم مريم العذراء ذاتها: " كيف يكون هذا وأنا لستُ أعرف رجلاً" (لوقا 1: 34).

علماً بأن السيدة العذراء كانت مخطوبة ليوسف النجار المنتمي إلى نسل عائلة الملك داؤود، وكذلك كانت السيدة مريم عذراءً (قبل الولادة وأثناء الحبل وبعد الولادة) وهو ما يبرهن على الصمود أمام الثقافة الأبوية حتى النهاية. وظل يوسف خطيباً لها أمام الناس، ولكنه لم يقربها مقاربة الأزواج. وفوق هذا وذاك حمل السيد المسيح بين يديه ورباه صغيراً وذهب معها في رحلة العائلة المقدسة إلى مصر وعودتها مرة أخرى إلى الناصرة دون أنْ يُعلق على (الإنجاب مجهول الأب) أو تصدر منه كلمةٌ واحدة أو موقف واحد يبدو معبراً عن الإندهاش.

ليس هذا فقط ما حدث، بل هناك أقدم الوثائق الكنسية التي تتحدث عن يوسف كقديس ومربي ليسوع تعود إلى العام800 للميلاد مشيرة إليه بتعبير لاتيني(nutritor Domini) ويعني (مربي الرب والمعلم). وناقش القديس توما الإكويني ضرورة وجود يوسف النجار في حياة مريم العذراء، وقال الإكويني إنْ لم تكن مريم مخطوبةً لرجمها اليهود بتهمة الزنا حين اعلنت عن مولد طفلها. وكان اليهود يؤمنون بوجود يوسف النجار ويطلقون على ابن السيدة العذراء" يسوع بن النجار" ولا يعتقدون بقدسيته ويؤمنون أنه تزوج من مريم.

وتزايد الاهتمام والتقديس لشخص يوسف في الكنائس، إذ في عام1889 حثّ البابا ليون الثالث عشر المسيحيين بالصلاة ليوسف لمواجهة التحديات التي تواجه الكنيسة. ومنذ القرون الوسطى تحيي الدول الكاثوليكية عيد الأب في يوم تذكار القديس يوسف، ورغم أنَّ احتفالاً بعيد القديس يوسف انتقل إلى العديد من الدول الغربية غير أنَّ هناك من يحتفل بعيد الأب في يوم مخالف لـ 19 مارس. فمثلًا تحتفل ألمانيا بعيد الأب في عيد الصعود والذي يحل بعد أربعين يوماً من عيد الفصح.

وعلى نطاق تاريخي، تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بعيد القديس يوسف النجار قبل بدء صوم السيدة العذراء بأسبوع، وقد شيدت له كنيسة باسم القديس يوسف النجار على سبيل المثال في مصر القديمة بالقاهرة. تكرّم الكنيسة الأرثوذكسية يوسف كقديس عظيم كالرسل أنفسهم، تخصص الكنيسة الكاثوليكية الرومانية - الكنيسة الغربية عيداً للقديس يوسف في19 آذار مارس من كل سنة، بينما تحتفل الكنائس الأرثوذكسية والكنائس الكاثولوكية الشرقية (مثل كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك) والذي يسمّى تذكار يوسف الصّدّيق خطّيب مريم في الأحد الذي يلي عيد الميلاد، وترى فيه شفيع الكنيسة الجامعة الرسولية.

وكل ذلك كان تكريماً لفكرة العذرية والبتولية لدى السيدة مريم، لأنَّ يوسف لم يكن زوجاً بالمفهوم الدارج، إنما أدرك عملية الانجاب اللا أبوي والسر وراءها وأوصلها إلى تاريخ المجتمعات ووضعها في مقارعة الثقافة الأبوية، تلك التي لو أدركت السر لحاربت العذراء ووليدها حتى الرمق الأخير مثلما أشار توما الإكويني. وقد فعلت الأبوية ذلك عندما أمر الملك اليهودي هيرودس Herodus بقتل الأطفال الرضع على خلفية إخبار المجوس الناس بعلامات ميلاد المسيح باعتباره ملكاً قادماً لليهود.

وهو ما يعرف برحلة العائلة المقدسة إلى مصر، أي حدث هروب (الطفل يسوع ومريم العذراء ويوسف النجار) من بيت لحم إلى مصر بحسب رواية إنجيل متى، كي لا يقعوا في قبضة هيرودس الملك الذي تخوّف أن ينازعه المسيح المُلك ، إذ أنَّ من الصفات التي وُصفَ بها المسيح كونه ملكاً، وهو ما سيتحقق في المجيء الثاني وفق المعتقدات المسيحية، فأراد هيرودس في البداية قتله عن طريق المجوس، ولكنه فشل، فقرر قتل جميع أطفال بيت لحم من دون السنتين. يبد أن هاتفاً كان قد جاء ليوسف في الحلم يخبره بأن يأخذ الطفل الوليد وأمّه إلى مصر، فهربوا جميعاً وأقاموا بها حتى وفاة هيرودس، قبل أنْ يعودوا إلى الناصرة.

إنَّ هيرودوس كان رمزاً لثقافة يهودية فقدت مبررات وجودها، وتكلست في إطار أبوي ديني قاتل. وهو ما حرك الملك اليهودي إلى قتل الأطفال الذكور الآخرين. لأن النزعة الأبوية السياسية لا ترضى بديلاً عن وجودها الأوحد مهما كانت النتائج. ولذلك كان هيرودس عاجلاً أم آجلاً سيزيح كل قوى حتى الذكور المنتمين إلى نوعه. بينما كانت أمومية العذراء رمزاً للخصوبة الميتافيزيقية في ولادة مقدسة خارج المعايير الذكورية المعمول بها. كانت رمزاً لوجود روح أخرى ليست خاضعة لكل هذا التراتب الأبوي المستبد ولم تخضع لميراث العنف ولإسباغ صفات ومعالم الذكورة على الإرادة الإلهية المتمثلة في السلطة الدينية أو حتى التقاليد اليهودية الفاعلة آنذاك.

الغريب أنَّ هذا (القطع الرأسي الميتافيزيقي) لميلاد المسيح مع تراث الأبوة كان مقصوداً من الله، ومع ذلك لم يفهمه المسيحيون تاريخياً. وكرسوا وظائف لاهوتية تستعيد وظيفة هيرودوس الذي أراد قتل السيد المسيح لأسباب أبوية. في حين جاء نبي المسيحية دون أب بشكل صريح ومتمرد على تراث البشرية كلها. وكان ميلاده ذكرى تتجدد أمام هذا التراث المتسلط والديكتاتوري.

وأيا كان التصرف وقتئذ أو بعدئذ، فكان هناك قطع بارز في هذا الخط من الله إلى العذراء مباشرة دون وسيط، وهذا واضح تماماً منذ اللحظة الأولى: " الروح القدس يحلّ عليك، وقوة العلي تظلّلك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله"(لوقا 1: 35). وأتصور أنَّ الله أراد التعبير آنذاك عن ظلاله ونعمائه على البشرية في شخص السيد المسيح، لتغيير مسار الثقافة اعتماداً على آليات أخرى للطبيعة كما أشرت. وأن عبارة (ابن الله) الواردة في الفقرة، هي اسناد الفضل أثناء التفكير في السبب إلى القوة الإلهية العليا التي وضعت عنواناً غير أبوي للمسألة. أي حين يسأل أحدهم من أين لك هذا يا مريم، فقولي هو من عند الله ليس أكثر ولا أقل.

وعلى البشرية من الآن فصاعداً أن تأخذ خطاً مختلفاً غير الثقافة الأبوية التي اغرقت الأديان في تصورات الاقصاء والدماء. أما حين تحولت القضية إلى نوع من (التأليه الآخر) في شخص الإبن، فذلك بمثابة إعادة إلتحاق بالتقاليد الذكورية بطريقة مقلوبة. وهي تغليب نبرة الوصاية باسم الإبن دون أن يكون هناك جذر منصوص عليه في سياق الكتاب المقدس ولا معنى يلائم الثورة الكونية في علاقة الذكورة بالأنوثة.

لنتخيل أنَّ الله قد عطل وأخلف ونسخ وفكك العلاقة الوجودية الأصلية بين الذكر والأنثى في شخصية مريم العذراء، فهل كان ذلك اعتباطاً أم لعلّة أخرى بعيدة أمام الإنسانية؟ المسألة واضحة هي نقض هذا الفعل الأبوي الغالب قبل المسيح والذي بلغ ذروته واستنفد مآربه وإمكانياته في الثقافة اليهودية، ولذلك حدد الكتاب المقدس مباشرة غياب الوسيط والغاية البعيدة منه: "مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك" (لوقا 1: 42(.

لأنَّ المقصد النهائي كان تحرير الإنسانية جمعاء لا مجرد طفل مولود من عذراء أمام جيوب ذكورية يهودية مازالت مؤثرة في المجتمع. وإطلاق كلمة النساء من جهة مباركة السيدة مريم بينهن، دلالة واضحة على القضية الرئيسة. فلو كانت القضية محدودة بحدود السياق الحاصل آنذاك ما كانت لتصبح فكرة الإبن دون أب فكرةً خطيرةً وجذرية على أي مستوى من المستويات الثقافية، ولكانت الفكرة لا تقتضي تغيير نمط الولادة وتداعياتها منذ آدم حتى عيسى ابن مريم. "سلام عليكِ أيتها الممتلئة نعمة. الرب معك. مباركة أنت في النساء" (لوقا 1: 28).

إن المرجعية الأنثوية المتوافقة مع الرحمة والنعمة والمباركة بخلاف مرجعية الذكورة المسيَّسة والتي فتكت بالإنسان كانت هي أساس فهم وجود السيد المسيح مهما تمَّ بعد تلك الواقعة من تراتب لاهوتي وسن تشريعات وطقوس أبوية أخرى في الأزمنة المسيحية اللاحقة. " لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ" (لوقا 1: 30-33).

الله يعلم في كل الأديان أنَّ الثقافة (صناعة بشرية) مبنية على أساس طبيعي ميتافيزيقي، وأنه بموجب هذه الأديان لن ينزل ليدير عقارب العقول بخلاف ذلك. وحتى من الصعوبة بمكان تغيير الأذهان والأفكار بين يومٍ وليلة، لأنها حافظة لشفرات الحياة الإنسانية وأسرارها منذ العصور البدائية الغابرة إلى يومها هذا. وربما كان تغيير مظاهر الطبيعة أيسر مما لو كانت الثقافة هي المقصودة. لأنَّ الأخيرة لا تتجاهل تراثها إطلاقاً ولا تفقد بصلتها التاريحية. بدليل أننا مازلنا نعيش حتى اللحظة في سرديات الأسلاف ومازالت دوافع وخلفيات الغرائز والرغبات واحدةً منذ الإنسان الأول. فالخوف والحب والكراهية والصراعات هي التي تشكل عالمنا المشترك. وعصور الإنسانية لم تفعل شيئاً ذا بال أكثر من تثبيت نمط حياة غالب دون مسارات وأنماط مغايرة. لدرجة أنَّ الأبوة ظلت هي الغطاء العام لكل لاهوت، سواء أكان سماوياً أم أرضياً. كانت الأبوة بمثابة (الثقب الأسود) الذي يمتص طاقات الإنسانية على الاهتمام بكافة عناصرها وبخاصة النساء في ابداع معان أخرى للحياة.

هكذا تعد المسيحية هي الخطوة (الميتافيزيقية- الوجودية) لمقاومة تلك الفكرة، وجاءت بإنقلاب جوهري في متن تصورات العالم ورؤاه ونقلت مرجعية الحقيقة الأبوية إلى مرجعية أكثر انفتاحاً وفاعلية، رغم كل ما يقال من انتقادات حول تكوينها التاريخي ورغم ما حدث وأخضعت لتفسيرات وتشريعات وطقوس مقيدة للحرية والعقل. وربما من يعالج تلك القضية لم ينظر إلى تاريخ المسيحية من هذا الباب الأمومي المفتوح على مصراعيه.

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم