أقلام فكرية

الأم.. مريم العذراء (3)

سامي عبد العال"حين تتكلم الأديان بنبرةٍ إنسانيةٍ صارمةٍ عن التاريخ يجب أنْ نحاول فهمها.."

إهتمَ القرآنُ بالغايةِ من (دلالة الأم) في مريم العذراء آتياً على سردها، لا من باب إزجاء القصص إلى الناس، بل من زاوية تسديد الأهداف في مرمى الإنسانية قاطبةً. لأنَّ تعديل مسار الإنسانية كان مُلاصقاً للنصوص والآثار والسرديات الدينية على اختلافها. حتى وإنْ لم يؤمن كلُّ الناس بالأديان، وحتى وإنْ حارب البعض الرؤى والأفكار المتعلقة بها حرباَ ضروساً. لأنَّ من (هواية الوعاظ والكهان وآباء الفتوى) خلال مراحل التاريخ المختلفة: أنْ يحصروا دلالات النصوص الدينية في (مآرب ضيقةٍ) لأتباع الرسالات والأنبياء، بينما هناك مستويات إنسانية أخرى أرحب لا يجب أنْ يخطئها الفهم.

كلُّ ذلك أمرٌ واضحٌ، شريطةَ قراءة النصوص الدينية تحت مظلةٍ أبعد لا تخصُ جماعةً ولا فرداً ولا عائلةً ولا قبيلةً ولا نحلةً ولا حزباً معيناً. هي قراءة أخرى واعية دائماً بالمحددات والفخاخ الثقافية التي قد تقع فيها. كما أنه لا يحب أن تكون قراءة لخدمة أغراض لاهوتية ولا تلفيقية، وليست ضرباً من الموائمة بين النص والعقل كما يُقال عادةً. لأن النص القرآني شديد (الصرامة الثقافية والإنسانية) حين يتحدث عن أحداث التاريخ وتحولاته. ها هنا ستضع الفلسفة أصابع التفكير والتحليل على مشكلات الأديان عند مخاطبة الإنسان كإنسان في المقام الأول. لايهمها ما إذا كان هذا النص (يهودياً أم مسيحياً أم اسلامياً). المهم كيف يُخاطب الإنسان وبأية معان كونية يقول الخطاب ما سيعبر عنه؟! وما إذا كان يمس الخطاب جوهر حياة الناس أم لا؟ وبأي منطق يكون تفاعل هذا الخطاب مع وقائع التاريخ وأحداثه؟!

نزعتان اسطوريتان

ثمة نزعتان اسطوريتان نقدهما القرآن نقداً متكرراً ولا يتوقف عن نقدهما في كل مناسبة مواتية .. نزعة التألُّه ونزعة الأبوة. وهما نزعتان قويتان تؤديان وظائف خطيرة في المجتمعات الإنسانية، بل ربما كانتا تؤديان كل الوظائف التي هي ضد الإنسانية فينا تقريباً. واللافت للنظر أنه تقع بين هاتين النزعتين (معاني الأم) لدى مريم العذراء. وربما أن النص القرآني كان قد أكمل سردية مريم العذراء نتيجة ظهورهما مجدداً في تلك الظروف الثقافية المحيطة بالمسيحية آنذاك. وأن النزعتين مازالتا متواصلتين، ويراهما القرآن عائقاً في توصيل أية رؤية مختلفة للحياة والدين والحقيقة:

1- نزعة التأله أو التأليه: وهي انتزاع قدرة ميتافيزيقية فوق رؤوس البشر قاطبة لتعود متسلطة ومقدسةً بين الناس. وفي التاريخ كان التألية متدرجاً من تأليه الكائنات والظواهر والقوى إلى تأليه الأشخاص والحكام ورجال السلطة، ثمَّ  تأليه المفاهيم والأفكار، ثمَّ تأليه الجماعات والأيديولوجيات، ثمَّ مؤخراً تأليه التقنيات والأدوات في شكل استعمالي يكرس صور الهيمنة والتقديس.

في هذا الإطار على سبيل المثال ذكر القرآن إدعاء فرعون للألوهية: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ " (القصص: 38-39(.

ولنلاحظ أنَّ التأله سيكون مفروضاً نتيجة انتزاع فكرة القداسة وتجسدها في شخصٍ ما، ويرتبط بعملية الهيمنة على الآخرين. فالتألة ليس حالة خاصة ترتهن بوجود الفرد المتألّه، لكنها حالة تتجاوز صاحبها. وهو يقصد ذلك لممارسة سلطته المطلقة على الناس" َفحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" (النازعات: 23-24). فهناك الجمع واللغة وإعلان التقديس لذاته.

2- النزعة الأبوية: وهي الغطاء الإجتماعي الثقافي لكل قوة متسلطة باسم الأب أيا كان تجاه المجتمعات وقواها الأخرى. وهذا الاسم الخاص بالأب هو السلطة والطبقة والجندر والزواج والطقوس الاجتماعية والسياسية وقوة المجال العام. إذ بات كل شيء تقريباً ينتمي إلى المعاني الأبوية ويعاد افرازها ضد الإنسان وحريته وحقوقه. والأبوية هي رأس الحربة التي تقتل كل من يقترب من ميراثها التاريخي، وقد يحملنها النساء أنفسهن في أخص ما ينتمي إليهن. لأنهن كائنات إنسانية من لحم ودم في النهاية، ولابد أن يتكيفن مع الأنماط الثقافة الغالبة سواء أكانت بطريقة الموائمة أم بإعادة تأويل واقعي لها.

القرآن يرسل إلينا فكرة أن رمزية الآباء سلطة تقف حتى ضد الدين نفسه، وأنْ الثقافة تضع هؤلاء الآباء حجاباً منيعاً أمام النظر المختلف للواقع والحياة. وهو ما يعرف بقوة الأبوة كمعيار ماضوي لقيام الأفعال والأفكار:" وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" (الزخرف:٢٣).

المترفون هم الناطقون بلسان الثقافة الأبوية، وهم الحافظون لها في القرآن أمام أي تغير ممكن. وهذا قانون تاريخي ثقافي لا ديني يكاد ينتشر في تاريخ الإنسانية. لأن هؤلاء شكلوا طبقة لها تقاليدها وآليات عيشها وبادروا بإعلان وجودهم وضرورة الإبقاء عليه طوال الوقت. وهو ما يوضح كم كان النص القرآني مدركاً لحركة الواقع والتفاعل البشري معه في أدق التفاصيل. ليس على مستوى التوصيف، بل كيف يمكن أن يوصل خطابه إلي الناس والمحاذير التي تفرضها الثقافة الغالبة. إن الترف قوة إقتصادية ملتحفة بالنظام الإجتماعي لتسييس سلطة الآباء. لكن من أجل ماذا؟ من أجل إبقاء المصالح الخاصة بهم. ولهذا ستنتهي سلطة الآباء إلى الشعور بخطر الدين في تغيير الأوضاع القائمة. وهنا ستنقلب النزعة الأبوية إلى قوة دينية تستثمر في كلِّ ما يحافظ على مآربها ومنافعها.

وقد أثرت النزعة الأبوية حتى على صورة الدين كما ورد على لسان أبناء يعقوب:" أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة 133). أي أنَّ النزعة الأبوية قد تعيد تكييف صورة الدين لصالح وجودها الممتد كما حدث مع المسيحية التاريخية اللاهوتية ومع الإسلام السياسي. فأحد مبررات الإيمان بإله يعقوب أنه كان إله الآباء والأجداد ليس أكثر، مع أنه قد تكون هناك مبررات شخصية أخرى، لكنها ستكون ذات أهمية أقل. وكانت المسيحية التاريخية قد أسست لآباء آخرين من رجال الدين للتعبير عن سلطة الإله في شكل متواتر من الأُبوات، على الرغم من كون الواقعة الأم في المسيحية - كما أشرت مراراً - أن السيد المسيح (وهو الركن الأول  والأساس داخل المسيحية) لم يكن له أبٌ.

وهذه لعبة الأبوة المتشابهة على امتداد التاريخ من عصرٍ إلى عصرٍ، هي لعبة الرفض لكل شيء جديد، وقبول ما هي عليه من أحوال، تمسكاً بما يحقق أهدافها في المقام الأول، " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ" (٣٤ سبأ 34).  ولأول مرة تقريباً يحدث: أن هؤلاء المترفين يستعملون لفظة كفر في مقابل الإيمان، فهم كافرون بما ينذرهم من طريق آخر كطريق الإيمان. وهذا يكشف أن النزعة الأبوية لابد أن تتدخل في تشكيل الدين، ولابد أن تجد لها موقعاً يخدم أهدافها من جهةٍ ويواصل تغذية جسدها الثقافي من جهةٍ أخرى. وطبعاً كلُّ ذلك سيكون مصحوباً لدى هذه النزعة بتقديم مفاهيم وتشريعات وطقوس دينية يتم الاختباء داخلها. وربما كانت قضايا الطبقة أو النخبة المتألة والأبوية خطاً مشتركاً بين الأديان جميعاً، سواء من زاوية الرفض أم القبول.

المعنى في القرآن

أمام هذه القضايا تحديداً، لا يأتي المعنى في القرآن بطريقة الوعظ والإرشاد، لأن الله لا يعظ كما لو كان كاهناً أو رجل دين، لكنه يتكلم بلغة كونية معبرة سواء أنزلت المعاني من الناس منزلاً ايمانياً أم تأويلياً أم غيرهما. ففي مجمل الأحوال تعبر اللغة عن تشكيل رؤى تجاه العالم والحياة وتضع موضوعاتها بصدد أحداث المجتمعات وتحولاتها. وما يجري على موضوعات الطبيعة جرى بالمثل على حالة السيدة العذراء. بشكل مباشر يقول القرآن" واذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطَّهَركِ واصطفاكِ على نساء العالمين" (آل عمران42).

لم تأتِ دلالة (نساء العالمين) خارج سياق الأديان والاعتقاد والإيمان بوصفها أمراً عارضاً، كانت العبارة مقصودة لمخاطبة الإنسان بشأن الأم العذراء. وتأكيداً أشار القرآن في موضع آخر إلى إيصال الفكرة للناس جميعاً من تلك النقطة العامة جداً من آدم حتى آل عمران مروراً بآل إبراهيم. " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين، ذريةً بعضها من بعض والله سميع عليم"(آل عمران 33- 34). فلئن كان البعضُ يعتقد أن الله يتحدث فجأة عن مريم، فالقرآن يقول إن العذرية كانت مبنية على تراث آخر ممتد بجانب اختيار إلهي لأصلها فوق مستوى الشبهات. أي كان هناك حرص وعناية إلهيين تجاه المسألة، لكي يكون وضع السيد المسيح آمناً ضد التشكيك فيه وفي وقوع ولادته على النحو الذي حدثت به.

لا يعني القولُ السابق أنْ يكون الإنسان ابراهيمياً أم عمرانياً (على مسمى آل عمران) أم غيرهما من جهة الانتماء، لكن علة الاصطفاء هي التي جعلت القارئ يهتم بالتواصل الانثروبولوجي بين تلك الشجرة الإنسانية الممتدة إلى آدم. لدرجة أنه لو تشكك أحدٌ في وضعية تلك العذراء وإنجابها، فالرعاية الإلهية قد  فعلت فعلها وقد حفظت مريم من قبل أن تولد، حتى وصلت إلى تلك النقطة من شخصية الأم العذراء بين الميتافيزيقا والبيولوجيا: " فتقبَّلها رّبها بقبول حسن. وأنيتها نباتاً حسناً")آل عمران 37). والقرآن يعول على امتداد الأصل حتى يستطيع أن يطرح الغاية المنتظرة، لأنه يخاطب إنسان العرب وغيره من الناس. وتفكير الإنسان عادة لا يكف عن استحضار الأصل والغاية في مواقف الحياة وأحداثها الحرجة.

الأصل لدى مريم العذراء (وإنْ كان معروفاً وإلاَّ لما نظر إليها المجتمع نظرة الإحترام والتقدير) يحمل غاية الكلمة التي ستقال عبر وجودها الإنساني. الكلمة التي هي السيد المسيح، وهي كلمة منذ منطوقها المبدئي للناس حين يتلقون معاني مختلفة تمام الاختلاف. " إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشركَ بكلمة منه.."(آل عمران 45). وطالما أن المسيح هو الكلمة أو الروح فقد غدا خطاباً من يوم أن حبلت به السيدة العذراء. لأنه جاء لمن يعنيه أمر الحياة والحقيقة بشكل عام. والخيط الرفيع هنا لا يبدو خفياً إلى هذه الدرجة بين (الكلمة – المسيح) وبين (الكلمة- اللغة) في الآن نفسه.

الحبّل عند العذراء بالكلمة الروحية المقدسة هو حبّل اللغة بالمعاني المغايرة في تماثل بين السيدة العذراء واللغة على طول الخط، أي في تماثل بين الولادة والمعنى. ولذلك ستلعب اللغة دوراً خطيراً في واقعة ميلاد المسيح من العذراء، سواء أكان عن طريق نطقه من تحتها أم تكلّمه في المهد صبياً أم تجسده على هيئة خطاب وحياة. وحين يقول الكتاب المقدس "في البدء كان الكلمة"، فالكلمة ظلت باقيةً إلى النهاية أيضاً، بحيث يمكننا القول أيضاَ " في النهاية كان الكلمة ".

وطبعاً معظم التفسيرات الإسلامية(مثل أقوال الزمخشري والرازي) لمعنى الكلمة: أنها (كلمة) تحمل مضمون (كن فيكون). عندما أراد الله خلق المسيح دون أب، قال للكلمة تجسدي في شكل إنساني عن طرق مريم العذراء. وهي أحد أفعال الخلق الذي إذا أقره الله، فالكلمة هي أسرع الطرق الوجودية إليه. والكلمة أيضاً هي الافراز الطبيعي لنظام اللغة لدى البشر، غير أن كلمة الخلق المبشر بها تعتبر ذات دلالة وجودية تخص الخالق، أي هي تعبير بالكيفية التي تقال جوهرياً مع مقصودها الوجودي. لأنه إذا كان الكلمات في اللغة تتكون من لفظ ومعنى على شاكلة وجهي العملة النقدية، فإن تعبير (كلمة منه) كما جاء في القرآن يكون ارتباطه ضرورياً بين النطق والمعنى دون مبارحة ولا تراتب. أي فليكن المسيح عيسى ابن مريم كما جاء، فيكون هذا الابن قد ظهر، من غير السؤال عن الكيفية ولا الوسيلة ولا الحقيقة.

لأنَّ جزءاً من فعل الخلق أن تكون هناك إمكانية الكينونة في وجود المسيح. ومهما قيل عن أنه خُلق من كونه سراً و روحاً بثت في العذراء أو تجسد إمامها الملاك بشراً سوياً ليحدث ذلك، فإن الكلمة تعني أنه لا توجد عملية خلق معتادة ولا تجري كحال نطق الكلمات والانفعال بمعناها بيننا نحن البشر. ولذلك هناك سؤال مفصلي: إذا كانت الكلمة جزءاً من نظام اللغة، وبالتالي تعد الكلمة الإلهية جزءاً هي الأخرى من نظام إلهي آخر مقدَّم للبشرية، فماذا عن الباقي من هذا النظام أو ما طبيعة معالمه في سردية الأمر العذراء؟!

اللغة والطبيعة

يأتي الباقي عن طريق اللغة، طالما أنَّ حال المسيح هو حال غير معتادٍ ومرتبطٍ بالثقافة والطبيعة ".. ويّكلمُ الناس فى المهد وكهلاً ومن الصالحين" (آل عمران 46). فالنص القرآني يشير إلى أنَّ كلام  الطفل حجةٌ على الناس المتلقين، بالضبط مثلما كانت ولادته دون أب حجة واضحة إزاء آليات الطبيعة لتغيير نمط الثقافة السائدة. في الحالين لابد أن تكون الواقعة غير خاضعة لتصور بشري- ثقافي مألوف. لم يكن ليتقبلهما العقل البشري الذي يألف تكرار حوادث الطبيعة بالأسباب والمسببات ويألف كذلك أنْ لا يتكلم من كان في المهد صبياً. وحتى الأخير(أي الطفل) لا يستطيع أنْ يقول كلاماً مفهوماً في عرف الناس من جهة المرجعية والدلالة.

لكن تعامل النص القرآني (بصدد المسيح ابن مريم) مع الطبيعة واللغة بطريقة واحدة، فالولادة دون سبب مباشرٍ تساوي التكلم من غير مرجعية مباشرة. وعليه فإن تعطيل آلية العلة والمعلول فلسفياً هو نفسه العمل على إظهار الكلام والتعبير دون المرجعية الواضحة." ..  فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً .."(مريم 29). أي كيف سيتكلم من يجهل مرجعية الكلام والثقافة فيما يخصنا ويخص الحديث بيننا وكيف سنفهم كلامه؟

الجديد في واقعة التكلم أن نظام اللغة لا يعمل بتلك الطريقة أصلاً، لأنه نظام مرتبط كسلطة رمزية أشد الارتباط ببنية الثقافة التي يعلم الله أنها غالبة وطاغية إلى حد القهر. وبالتالي لا يستطيع طفل كائناً من كان أن يتكلم بها وبخاصة أن المتلقين سيكونون هم القوم المنتج للثقافة والشاعرين بها حدَّ الاشباع. وبالتالي عندما يتكلم طفل، فإنه سيقول ما هو موجود في تلك الثقافة. ولكن المفاجأة أن الطفل تكلم بحسب نص القرآن وقال كلاماً في صلب المرجعية اللغوية مخالفاً لطبيعة الثقافة الأبوية التي لم تكن لتقبل ولادته إبتداء: " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا" (مريم 30-33).

كل هذا كان في المرحلة المتقدمة جداً من شعور ديانة المسيحية بالثقافة الأبوية والخضوع لها في النهاية. بل كان في طفولة السيد المسيح وهذا إدراك لغوي مبكر أن الطفل المتحدث قد نقض بنية الثقافة الأبوية، قبل أن تُخضَّع هي بدورها السيد المسيح لقوانينها من خلال التأله والنزعة الأبوية اللاحقة. وجاء قصد الكلام مشيراً إلى ذلك من غير مواربة، فالنبوة الواردة معناها ببساطة أن المسيح ليس إلهاً والكتاب دال على كونه صاحب رسالة وينضم من حينه إلى قائمة الكتب في الأديان المختلفة وأن هناك وحياً متعالياً قد نزل من السماء إلى الأرض. وحرص النص القرآني على ذكر دلالة (الحياة والموت والبعث) لشخص السيد المسيح، ذلك للتأكيد على عدم إمكانية استنبات الثقافة الأبوية مرة أخرى.

وهنا يجب الإلتفات إلى نقطة إلتقاء الطبيعة والثقافة وهي ذروة السرد، فلئن كانت ولادة المسيح واقعة غير مكررة ولا مسبوقة (الطبيعة)، فهناك الثقافة التي لا تقبل أن يتكلم طفلاً كلاماً يخص جوهرها الأبوي. ولكن بما أن حياة السيد المسيح قد جرت في الجانبين، فسردية القرآن حول الأم العذراء كانت تستهدف إسقاط تلك التصورات الطبيعية والثقافية معاً، أي اسقاط  نزعة التأليه والنزعة الأبوية. وبجانب ذلك لا يهمهما من يؤمن ومن لا يؤمن، لكنها كانت معنيةً بوضع حقائق محددة أمام الإنسانية. وإذا اجتمعت الطبيعة والثقافة على شيء، فهذا الشيء من الأهمية بمكان للإنسان دون سواه بصرف النظر عن التبعات الدينية الخاصة.

***

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم