أقلام فكرية

الأم.. مريم العذراء (4)

سامي عبد العال"لا تخلو أيةُ ثقافةٍ من أبنيةٍ وثنيةٍ بالضرورة، بحكم تعريفها المبدئي.."

السؤال الحيوي بصدد(الأم العذراء) هو: لماذا عادت النزعةُ الأبويةُ لتلتهم المسيحية بعدما كانت الأخيرة (صرخةً وجوديةً) في وجه كل أبٍ؟! تاريخياً لم تكن (فكرة الأبوية patriarchy) جزءاً من باكورة المعتقدات المسيحية الخالصة. ولا أتصور أنْ تفرضَ الأديان سلطةً خارج ذاتها، ثم تتطلب إعادة هيكلة الحياة وفقاً لطبيعتها المغايرة. فالموضوع كما أوضحت ليس متعلِّقاً بجوهر(الدين وفحواه) وإن كان يتيح الفضاء لذلك، بقدر ما يرتبط بآلياتٍ أوسع تخص الثقافة ومسار المجتمعات الإنسانية.

إذن السؤال الفائت هو سؤال يتتبع حال الإنسان الذي قد يتنصل من أغلالٍّ مقابل أغلالٍّ أخرى، ويعطي نفسه مجاناً لـ" وحش ثقافي" كاسر اسمه(النزعة الأبويةpatriarchism )، كان يطارده في وقتٍ من الأوقات. لكن لا يتم ذلك عشوائياً كُلما اتفقَ، فهناك ظواهر وتغيرات تجري في صلب الفكر والواقع. لأن استجابة التاريخ للتغيرات على صعيد الذهنيات والثقافة ليست ممكنة ما لم تعانِ المجتمعات أحداثاً بالغة الدلالة، وتترك في ذاكرتها آثاراً عميقة من جنس ما يبقى ويتكرر.

الانتظار في الظلام

بطربقةٍ أبعد إتضّحَ أنَّ القضية هي قضية تحولات (الثقافة والدين) على الأصالةِ. لأنَّ الدين لا يكفُ عن (محاولة تغيير) شكل الاعتقاد السائد بين الناس، بينما لا تتراجع الثقافة من ناحيةٍ أخرى عن ابتلاعه وإعادة انتاجه في أشكال بديلة من الحياة. ولذلك، فإنَّ علاقة الإثنين (الثقافة والدين) قائمةٌ على الصراع حتى النهاية، ولا توجد معايير واضحة لذلك الوضع الشائك. فقد يكون الصراع (صراعاً رمزياً) إلى درجة مهولةٍ أكثر من كونه مادياً يمكن الإمساك به هنا أو هناك. وقد يكون (صراعاً مفاهيمياً) يعطي فاعلي الثقافة أفكاراً حول الحياة والمجتمع. وأخيراً ربما ينفصل الطرفان على السطح الظاهر، ولكنهما يلعبان لعبة (الإحلال والتبديل)، أحدهما محل الآخر طوال الوقت، ولاسيما وقت (الأزمات الحرجة) كما في بعض المجتمعات الغربية العلمانية التي تلجأ لشحن خطاباتها بمعالم ونبرات لاهوتية إذا كانت في حالة حرب أو صراع مع مجتمعات أخرى. وأقرب الأمثلة على ذلك مصطلحات لاهوت الحروب التي شنتها القوى الغربية على الإرهاب مستعملة إياها من حين لآخر عندما كانت تدمر دولاً وتدهس شعوباً.

هذه التحولات بين (الثقافة والدين) ظلت تنتظرها الأنظمةُ السياسيةُ بفارغ الصبر. إن السياسة تشكل فنون انتظار (المكاسب والخسائر) في المناطق الرمادية من الحياة، ولا تدخل معارك واضحة خوفاً من الإنكشاف، لأنَّها تعتاد على الأجواء الغائمة وتستغل كل الأطراف لصالحها مهما كانت انتقالات مساراتها حادةً أو ملتويةً. ففي أحراش الغابات عندما ينشب صراع بين الحيوانات المفترسة حول فريسة مكتنزة، تترقب بعض الحيوانات والطيور الجارحة المشهد انتظاراً لبقايا الفريسة والمعارك الدموية الحاصلة. وغالباً ما تستحوذ الحيوانات المترقبة على البقايا لتعيد استعمالها في تقوية حياتها وتغذية صغارها. في الحقيقة هناك سلسلة طويلة من الحيوانات والطيور والحشرات والزواحف والهوام والعوالق تستفيد من تلك البقايا. ذلك بالضبط حال السياسة عندما تتحين الفرصة تاريخياً- في كل المجتمعات تقريباً- للإنقضاض على أشكال الصراع بين الثقافة والدين، حيث تحرك الأوضاع الجديدة لصالحها في الواقع مستغلةً موروثاتها الأسطورية حول الملوك وعبادة الحاكم الإله ونشر لاهوت السلطة. أي تبني أنظمة السياسة هيكلاً مقدساً للحكام على ما تأخذه من الثقافة الموروثة والسرديات الدينية اللاحمة معها.

هكذا لم تكن (النزعة الأبوية) في الأديان لتتضخم لاهوتيا وسياسياً من فراغ، إنما هناك واقع تاريخي ألقى بظلاله على التصورات والعقول والمعتقدات الكامنة فيها. لأن كل سلطة دينية ناشئة تحاول أن تتخمر بـ" المورّثات الثقافية " الباقية في حاشية ولحم البيئة المسيطرة. والمسيحية كأية ديانة أخرى عندما أعلنت عن نفسها كان يجب أن تتشبث بالتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا، وأنْ تضرب جذورها كالشجرة الغريبة في أية قوى نافذة بين جوانب المجتمعات البشرية. ونحن نعرف أن الثقافة اليهودية تركت أبوية سياسية فرضت وظائفها الدينية والدنيوية على كل شيء تقريباً حاكماً ومحكوماً. وباتت المشاعر والإجساد والوظائف الحياتية والظواهر الإقتصادية رهن تحولاتها وسطوتها في مجالات الاجتماع والسياسة.

علماً بأنَّ المسيحية رسالة في حدود كيفية التخلص من براثن اللاهوت اليهودي الذي اختلط بالماديات والوثنيات وبعض الخرافات الأنثروبولوجية التي غلبت عليه من عصر إلى عصر. وانتج مجتمعاً أبوياً حسيّاً بملء الكلمة، لم يعرف الفرق بين السماء والأرض مقارنة بالتعاليم والشريعة الموسوية. وكانت مبررات المسيحية الدينية تصحيحية واضحةً في هذا الإطار: أنْ تعود بشعب الرب إلى حياة الروح وتعاليم السماء وترسيخ الإخاء بين الناس، حتى أن الشريعة التي حملها المسيح إنما هي تطوير وتكملة للشريعة التي جاء بها موسى متممة روحها دون أن تحيد عن أصول معتقداتها. وهو ما جعل السيد المسيح يعبر عن ذلك بإطلاق العبارة: " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل"(متى 5-17).

إزاحة العوالق

جاءت التكملة المسيحية في حدود إزاحة ما علق باليهودية من عمليات تشويه لمعان الدين والإله والحياة وإيجاد طُرق أكثر صيانة للإنسانية. وكان هذا الأمر واعياً بقدرة الجانب الروحي على مقاومة التسلط ونقض الامتياز اللاهوتي الثقافي لشعب الرب دون الآخرين. مما جعل النزعة الأبوية – في عصر اليهودية- تغطي مساحة شعب يظن أنه مقدس دون شعوب الأرض قاطبة. وتدريجاً أخذت الأبوية تظلل مساحة طبقة من الكهان ورجال السياسة دون الشعب كله، ثم تغطي الأبوية رأس حاكم إله بمثابة الأب لشعب بني إسرائيل دون أي فردٍ غيره. بهذا التدرج، باتت الأنماط الأبوية من الحياة بمكانٍ كبير، لدرجة أنها أخذت تغذي جوانب بعضها البعض وتزاحم وجوه الحياة الأخرى وتفرض سياسات الصراع والعداء والكراهية داخل المجتمع وتجاه الشعوب الأخرى.

ذلك كله كان السيد المسيح مقاوماً له بمنطق الكل لا الجزء، بمنطق الإنسانية لا الشعب المختار، بمنطق الروح الكوني لا الإجساد الفردية، بمنطق الحياة لا الموت، بمنطق المحبة لا العداء تجاه البشر. أي أنَّ الاعتماد على الروح والناموس هو الذي سينقي المفاهيم والممارسات ونمط الحياة من الشوائب العالقة. "فإني الحق أقول لكم إلى أنْ تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحد أو نقطةٌ واحدة من الناموس حتى يكون الكل(متى 5-18). وسواء أكان الحال المقصود تحقق كلية الناموس (الشريعة) التي تعيد الحياة إلى نصابها أم عودة شعوب الإنسانية كلها إلى بعضها البعض، فالواضح كون السلطة الأبوية ليست مقصودةً بحال من الأحوال.

لكن ما حدث تاريخياً كانَ شيئاً مختلفاً. لقد ترسخت المسيحية في حقبة  الأمبراطورية الرومانية كما لو لم تترسخ من قبل، وباتت ديانة ذات طابع سياسي حربي يستند إلى مؤسسات رسمية وقانونيةٍ. على الرغم من أن هناك بعض الصدود الذي وجده المسيحيون مبكراً. وتلك الحقبة التاريخية كانت (حلقة وصل) عميقة الجوانب وبعيدة الأسرار بين العالم القديم والانخرط في أحداث العالم الحاضر. إنها الحقبة التي أيقظت الأساطير من سباتها المؤقت وسيّست الخرافات ورسخت مبادئ الهيمنة على اللاهوت والسياسة باسم الإمبراطورية التوسعية.

جذور النزعة الأبوية

في البداية كانت نظرة الرومان نظرةً محافظةً تجاه الأديان، وبخاصة الأديان التي يتم الإعلان عنها ولم تكن معروفة من قبل. إذ كانوا يبجلون أجدادهم تبجيلاً كبيراً (النزعة الأبوية)، بل واعتقدوا بأنهم كانوا في مرتبة الآلهة المقدسة (نزعة التأليه). كما أنهم سياسياً كانوا يسمحون بالتعبير عن تقاليد وعادات وديانات الشعوب الخاضعة لإمبراطوريتهم خوفاً من التمرد والعصيان. وكانت أية (توجهات دينية جديدة) في هذا المناخ تعتبر ضرباً من " الخرافات". ولذلك أخذ الرومان ينظرون إلى المسيحية خاصةً كإرتداد عن اليهودية الموروثة، والتي كانت بدروها  قد تأقلمت مع أوضاع الأجداد والتقاليد السابقة .

يعبر الفيلسوف اليوناني المتأخر سيلسيوس في كتابه الكلمة الحقة: "عندما قام الله بإرسال المسيح، هل نسي التعاليم التي أرسلها سابقاً إلى موسى؟ أم أنه تراجع عن القوانين الصادرة عنه وغير رأيه؟"، لكن حين أبدى الرومان صدوداً تجاه المسيحية كان موقفهم آخذاً باحتقار المسيحيين لهم أيضاً، وبخاصة عندما قال المسيحيون بتلقيهم (وحياً خاصاً) غير معروف لدى كل الشعوب الأخرى. ووفقاً لتلك الحالة الجديدة مع جذور الثقافة الرومانية، فإنَّ الله لم يُعرْ (أسلاف الرومان) أيَّ اعتبارٍ يذكر. كتب الإمبراطور الروماني جوليان الملقب بالحاكم المرتد: "لماذا يهتم الله فقط بأرض يهوذا؟ إذا كان حقا إلهاً لنا جميعاً، فلماذا أهملنا نحن؟ لماذا لم يشملنا برسالته الجديدة؟

هل كانت الامبراطوية الرومانية تبحث عن منفذ لقبول المسيحية والاستفادة منها؟ بالفعل ظهرت المسيحية على المسرح الروماني من جهة السياسة أولاً.  أي وجدت بقوة حين اعتنقها رأس السلطة الأمبراطور قسطنطين الأول  Constantine (306 - 337) حيث عمل على اشاعة الديانة الجديدة وأضفى عليها طابعاً إمبراطورياً سياسياً أمام كافة الشعوب. وأدرجها في متن التوظيف السياسي لنظامه وبذلك إلتقت لدى المسيحية الرومانية النزعة التأليهية والأبوية داخل بعضهما البعض، لدرجة أن حقبته باتت  تحمل لقب بالامبراطوية المسيحية Christian Empire  .

حيث بدأت أحوال المسيحيين القلقة تثبت بهذا الغطاء الروماني. لم يعد المسيحيون يتحاشون الظهور والانتشار وغدا الوضع الجديد قوياً أمام أية قوى أخرى. وكان الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، هو أول إمبراطور روماني ينتقل إلى المسيحية أثناء فترة حكمه. لكنه لم يكن أول حاكم يعتنق المسيحية حصراً، حيث كان هناك ملك أرمينيا تيريداتس الثالث الذي تحول إلى المسيحية عام 301 بعد الميلاد. وكان الأخير قد طارد المسيحيين بكل شراسة خلال بداية حكمه، ولكنه بعد اعتناقه المسيحية طارد وأقصى غير المسيحيين والأديان الأخرى. وعلى العكس من ذلك، كان قسطنطين الأول بالمقارنة متسامحاً مع غير المسيحيين، على الرغم من أنه عمل دون توقف وباصرار على نشر المسيحية الجديدة عبر الإمبراطورية. وليس هذا فقط، بل قام بسن القوانين والتشريعات التي تضمن للمسيحيين حرية اعتقادهم وحياتهم الخاصة وأمر بإعادة أملاك الكنائس التي تمت مصادرتها أيام الاضطهاد. ثم قام بوضع المسيحيين في معظم المناصب والمواقع الحكومية الرسمية، واعطاهم أولوية في السياسة وممارسة السلطة .

ضمن تلك الثقافة، توافرت كل عناصر التأله والأبوية، وعلى حاشيتهما الغارقة في الموروثات السياسية الأسطورية، تم إحياء نمطان من (الشخصيات والوظائف والأفعال) العامة:

أولاً: الحاكم الإله: وهو الذي تجاوز نزعة إدعاء الألوهية كما أبرزت سلفاً، بل هو (إله مقدس) كما ينظر إليه أتباعه وكما يمارس دوره فعلياً. وهذا النمط يقع بين السياسة واللاهوت، ويخلط خلطاً وجودياً بين الإثنين كما لدي إمبراطوريي الرومان. فالامبراطورImperator لقب لاتيني معناه المُبجل، فالحمولة الدلالة المقدسة فيه جاهزة للتشغيل. الامبراطور كان له الحق في سن أو إلغاء عقوبة الإعدام(الموت والحياة)، وكان مستحقاً لطاعة المواطنين العاديين (الخنوع والطاعة الكاملتين)، وكان بوسعه أن يُنقذ أيَّ شخص من أي قرار صادر عن بطارقة الروم وهم الأشراف والسادة والطبقة العليا(إلغاء الأحكام الاجتماعية)، وبوسعه كذلك أن يلجأ إلى حق النقض  ضد أي عمل أو اقتراح من جانب أي قاض، بما في ذلك قرارات المحاكم الداخلية (إبطال القوانين وسلطة الاستثناء)، بالاختصار كان شخصاً مقدساً (فوق الشعوب والرعايا).

ثانياً: الكاهن: وهو رمز لوظيفة قديمة توسُطاً بين الآلهة والناس، حيث يقوم برعاية الأسرار وتسهيل بعض الخدمات عند الآلهة. وظلت تلك الوظيفة موجودةً بكل محمولاتها الإجتماعية والسياسية في الامبراطورية الرومانية. وبقدر ما يكون الامبراطور مقدساً بقدر ما ينال الكاهن أهميةً. لأن الاثنان يخدمان بعضهما البعض في الحياة العامة، ومادام الناس يؤمنون بأحدهما، فإنهما يؤمنون تلقائياً بكل الدوائر حولهما تقريباً. وتلك الدوائر واسعة جداً، ليس بدءاً بالسلطة فقط، بل بكل ما ينتمي إلى الدين والسياسة، لأنهما أصبحا شيئاً واحداً على وجه الدقة.

اللاهوت والسياسة

ودليل ذلك أنَّ قسطنطين الأول وهو صاحب السلطة السياسية قد حافظ على لقب الحبر الأعظم (أو الكاهن الأعظم)، إذ كان اللقب يمثل رأس الحربة في الديانة الرومانية القديمة، والذي استمر تقليد الأباطرة الرومان بحمله على تعاقب الأزمان. والحبر الأعظم باللاتينية Pontifex Maximus  (بونتيفكس ماكسيموس وفقاً لترجمة الإسم اللاتينية(هو لقب كان يُطلَق على أعلى قسّيس في هيئة الأحبار بروما القديمة. كان يعتبر هذا المنصب (أهم وأعلى رتبة) في المؤسسات الدينية الرومانية. ولذلك السبب لم يكن مسموحاً بحيازته إلاَّ لأفراد طبقة الباتريكيان أو النبلاء patricius حتى سنة 254 ق. م، عندما تم افساح المجال للمرة الأولى أمام رجلٍ من عامة الناس بإستلامه. وكان هذا المنصب رتبة لاهوتية بحتة خلال عهد الجمهورية الرومانية، إلا أنَّه أصبح أكثر توظيفاً سياسياً بمرور الوقت. ثم بحلول عهد الإمبراطور الأول أغسطس Augustus  أدرج إسم (بونتيفكس ماكسيموس) ليمثل منصباً إمبراطورياً، أي أنَّه بات حكراً على أباطرة روما تحديداً. استمرَّ هذا الحال حتى عهد جراتيان Gratian(375 383 –م) الذي قرَّر محو لقب بونتيفكس ماكسيموس من دلالته، ليختفي اللقب من روما القديمة .

وتبعاً لما أورده بعض الكتاب المسيحيين، فإن الإمبراطور قسطنطين الأول كان عنده أربعين عاماً وقتما أعلن اعتناقه للديانة المسيحية، وأنه من ذلك الحين سيكون تحت عناية الإله المسيحي الأوحد. و بالرغم من الأقوال التي قالها قسطنطين الأول في حينه، إلاَّ أنَّ هذا الإمبراطور انتظر إلى قبيل وفاته بقليل، لكي يُعتمد ويصبح حاكماً مسيحياً على نحو رسمي. وقد آمن قسطنطين بأن المعمودية ستطهره من جميع الخطايا التي ارتكبها في حياته، والتي كانت نتيجة مسيرته التي عاشها كإمبراطور، وهذا هو المعنى اللاهوتي- السياسي الذي يعبر عن الجانبين المقدس والدنيوي.

بعد اختفاء هذا اللقب، أصبح مصطلح بونتيفكس أو الحبر الأعظم Pontifex يستعمل لإضفاء هالة من القداسة على الأساقفة المسيحيِّين، بمن فيهم أسقف روما الأكبر. أمَّا لقب بونتيفكس ماكسيموس، فقد أُعيد استعماله في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ليكون تشريفاً للبابا كحبر أعظم للمؤمنين وأكبر مكانة لاهوتية. ورغم أنَّ لقب الحبر الأعظم لا يصنَّف عادة ضمن ألقاب البابا الرسمية، لكنه كان يظهر على العملات النقدية والنُصب التذكارية والمباني التاريخية التي تحمل تخليداً لذكرى (بابوات) عصر النهضة.

إنَّ انتقالاً من التحولات السياسية في الامبراطورية الرومانية إلى اللاهوت وتوظيفة وإلى الرتب التي تجمع بين الإثنين سيكشف خلفية النزعة الأبوية. فليس يبعد عن هذا لقب(البابا) الذي نشأ داخل تلك الثقافة، ويوضح انحرافاً- بفضل السياسة والثقافة- عن واقعة مريم العذراء الأم ودلالتها، وكذلك يوضح الجوانب التعويضية التي حدثت بالممارسات السياسية نتيجة ما سبق.

لقب البابا (باللاتينية: pope) و(باليونانية: πάππας: pappas)‏، هي كلمة تعني (الأب)، وإجمالاً تعبر دلالتها عن المحبة. فالبابا هو من يحب الناس كما يحب الأبُ أبناءه مهما يكونوا. البابا هو أسقف روما ورأس الكنيسة الكاثوليكية، ووفق العقائد الكاثوليكية يعد خليفة القديس بطرس أحد تلاميذ  السيد المسيح الإثني عشر. والبابا له سلطة إدارية وتعليمية واسعة على الكنيسة الجامعة، وهو معصوم من الخطأ في حالة بشرية نادرة قلَّ إنْ وُجدت، وبخاصة عندما يعلن أنه يشرح العقيدة انطلاقًا من كرسي القديس بطرس الرسول .

ومع الوقت، تضخمت سلطة البابوية، ولم تقرأ جيداً المضامين الأولى للأمومة في شخصية مريم العذراء، بل لم تأتِ على ذكرها أساساً كي تعدل من المسار، لأنها أخذت منحى سياسياً ليس سهلاً الرجوع عنه. لقد كانت البابوية من نسل المفاهيم والألقاب البينية inter-surnames التي تكونت في شجرة ألقاب العائلة الرومانية بكل موروثاتها الثقافية. وطرحت البابوية سيادتها الروحية والزمنية في شخص البابا Papal supremacy، بسبب مكانته الكبرى التي يبلغها كنائب للمسيح وكخادم للرب  كمصدر الحياة المرئية واللامرئية. والبابا يرمزُ إلى وحدة كل من الأساقفة والمؤمنين جنباً إلى جنب، وكما أنه راع كامل يتمتع بسلطة شاملة على الكنيسة بأكملها، وهي سلطة يمكنه دائماً ممارستها دون عوائق. باختصار، "يتمتع البابا، من خلال المؤسسة الإلهية، بسلطة عليا تامة وفورية، وله جوهر القوة في رعاية النفوس على نحو خاص وعالمي في الوقت نفسه . وهذا ما تبناه الامبراطور قسطنطين الأول من أممية مسيحية Christendom تتجه نحو آفاق العالمية والكونية على امتداد إمبراطورية الرومان في أوروبا وخارجها .

على الرغم من هذا التكوين التاريخي المتشعب للنزعة الأبوية، إلاَّ أن الحواشي الثقافية أدت فيها دوراً خطيراً وإعادت توظيفها على نطاق أعمق. وإنْ كانت المسيحية من وقت لآخر لا تستطيع أن تتجاهل (المرجعية الأمومية) في شخصية مريم العذراء، وبخاصة عندما يتم الإحتفال بالسيدة العذراء وتجلياتها وبواسطة معاني الحب والرحمة والسكينة والتسامح، وهو ما يُقلل من حدة الأبوية الموروثة. تقريباً تركت الجوانب الأنثوية في العذراء دلالتها على خشونة التصورات والأفكار الدينية. لأن رمزية العذراء ليست رمزية عارضةً، لكنه من صلب المعتقدات المسيحية ولا يُذكر المسيح إلاَّ معها مولداً وحياةً.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم