أقلام فكرية

الزمن الفلسفي والادراك العقلي

علي محمد اليوسفباعتقادي مفهوم افلاطون للزمن هو فهمه التحقيب الارضي التاريخي الذي يخضع فيه افلاطون إدراكنا الزمن بدلالة وقائع التاريخ ولم يكن مخطئا بفهمه الفلسفي هذا، لكنه اهمل استحالة ادراك الزمن تجريديا من غير دلالة تعالقه بالمكان (الطبيعة) لذا هو ابتعد بحديثه عن الزمان الكوني الفضائي (space) الذي فيه الزمن ليس تحقيبا ينقسم الى ماض وحاضر ومستقبل ارضي بدلالة قوانين الطبيعة وانما هو مطلق ازلي لا يحد ولا يدرك ماهويا.

ميزة الزمان الكوني الذي لم يكن يدركه افلاطون أنه مطلق ازلي ميتافيزيقي لا تحده حدود ادراكية، وهو ما ندركه بتعالق الزمن مع قوانين فيزياء الكون. الزمن وسيلة ادراك بالدلالة التجريدية المحايدة بعيدا عن المداخلة الجدلية مع المدركات كما وليس الزمن موضوعا للادراك العقلي بذاته مستقلا عن دلالته التعالقية بالاشياء وموجودات الطبيعة والانسان في كل الاحوال سواء أكان زمانا تحقيبيا ارضيا أو كان زمانا كونيا ازليا.

ارسطو ادرك الزمان الكوني الذي اهمله افلاطون لكنه هو الاخر اي ارسطو ادخلت مفاهيمه الفلسفية عن الزمن اوربا في القرون الوسطى عندما اعتبرمركز الكون هو الارض وهي ثابتة لا تتحرك ما وضع كلا من كوبرنيكوس 1543م في ورطة تعارضه مع الكنيسة عندما قال الارض ليست مركزا للكون وانما الارض جرم كروي غير ثابت يتبع في حركته الدائرية ثبات الشمس ما جرّ الويلات على كل من جوردان برونو وغاليلو ونيوتن.

لذا رغم الاخطاء الفيزيائية التي اثبتها العلم على افكار ارسطو الفلسفية لاحقا نعتبر فهم ارسطو للزمن هو فهم انضج من الفهم الافلاطوني في اعتبارارسطو الزمن الارضي تحقيب تاريخي يعرف بدلالة وقائعه زمانيا، والفضاء الكوني مطلق ازلي لا يدركه العقل ماهويا لا تجريديا ولا بدلالة تعالقه مع قوانين الطبيعة الكونية التي اثبتها علماء الفيزياء من انشتاين ونزولا الى علماء الذرة والفلك.

الزمان حقيقة كونية مطلقة نفهمه وسيلة دلالة إدراكية لغيره من الاشياء والاجسام المادية لكنه لا يكون الزمن موضوعا يدركه العقل بلا مكان يحتويه.. المفارقة الغريبة التي ذهب لها افلاطون اننا بدلالة اسبقية المكان ندرك بعدية الزمان. والاغرب من ذلك قوله بدلالة اسبقية نظامية او انتظام المكان القبلي ندرك انتظامية الزمان البعدي.

اود التاكيد ان مفهوم القفزة النوعية او الطفرة النوعية في الزمن غير موجودة على الاطلاق كون الزمن مطلق كوني واحد لا يتقبل القسمة على نفسه ولا يقبل التحقيب الا فقط كما في الزمن الارضي الذي هو تحقيب تاريخي ثابت لدلالة زمنية مفارقة.

من الممكن ان نفترض قفزة نوعية تتخلل المسار التاريخي كما في الماركسية مثلا. اول فيلسوف قبل هيجل والماركسية اشار الى وجود قطوعات نوعية تتخلل مسار التاريخ هو الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجورد ابو الوجودية الحديثة المؤمنة. واستخدم كيركجورد مفهوم القفزة النوعية في تطبيقها على النزعة الايمانية بوجود الخالق الله والايمان القلبي بالدين.في دعوته وجوب تحرر الانسان من العقل المحدود الادراك واستبدالها بقفزة نوعية يمليها القلب الايماني.

والزمن التحقيبي الارضي لا يفقد صفته الخصائصية الفريدة انه مطلق لا يدركه العقل تجريديا لذا نجد تعريف سقراط كان في غاية الذكاء حين سئل ما هو الزمن قال: الزمن هو مقدار حركة جسم ما في الزمن، والزمن دلالة حركية للاشياء لكن الزمن ليس حركة ولا يخضع لادراك عقلي كموضوع مستقل.

أما مسار التاريخ الذي يقوم على جدل دائري حلزوني صاعد هو مسار خطّي كونه محكوم بإلزام النقلات النوعية، التاريخ حسب التحليل المادي يسير خطيّا أفقيا في دوائر تعاقب ديالكتيكية لكن ليس بأسلوب إنعدام الطفرات النوعية فيه. وهذا هو الفرق الجوهري بين مفهوم تعاقب الدوائر في إعادة نفسها على أساس أن ما حدث سيحدث لاحقا في العود الابدي، وبين ديالكتيك الدائرة التي تتخللها الطفرات النوعية الكيفية المتقدمة دوما في ملاحقة التجديد الذي يندثر القديم خلفه. ليستحدث نفسه ثانية في الظاهرة الجديدة التي يحكمها الديالكتيك بقانون نفي النفي لها ايضا. (لي اكثر من مقال ان الجدل الديالكتيكي في المادة والتاريخ تنظير فلسفي غير متحقق بالفكر المجرد كما هو عند هيجل ولا في التاريخ ماديا عند ماركس كون الديالكتيك منهجا افتراضيا في الفكر والفلسفة و تطور التاريخ لا يمكن البرهنة على تحققه .)

ما حقيقة الحاضر الوهمي للزمان؟

افلاطون يفهم الزمان على أنه عود أبدي في التكرار الذي يخلو من التنوع الكيفي في طفرات نوعية، وميزة عبقرية افلاطون رغم إعتماده تعاقب الدوائرزمانيا إلا أنه لم يفهم الزمان مسارا أفقيا خطيّا جرى تقسيمه التحقيبي الى ماض وحاضر ومستقبل من أجل تيسير فهم الزمان كيف يعمل في تعالقه بنظام الطبيعة والاشياء وحركة القمر والارض والكواكب الاخرى. بإرتباطها فيزيائيا بحركة الارض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر، وفي تعاقب الليل والنهار والفصول الاربعة والسنة والشهور وغيرها من أمور.(توجد اكثر من نظرية فيزيائية علمية تقول ان الزمن مسار حزم متموجة لا تسير بخط مستقيم وان الزمن يتمدد ويتقلص كما اثبته انشتاين في النسبية العامة 1915.)

افلاطون يوضّح فهمه للتحقيب الزماني على الارض أن الحاضر هو إفتراض وهمي خارج توسيطه سلسلة التعاقب الزمني من الماضي الى المستقبل، والحاضر تحقيب مؤقت بضوء ماض متشّكل وجودا لا نفهمه إدراكيا بغير تسليمنا الاخذ الحاضر الافتراضي وجودا، وبين مستقبل يندغم به الحاضر حتميا ألزاميا زمانيا في بناء ملامح مستقبل يسعى الانسان حضوره وتحققه ضمن سيرورة تكوينية.

والحاضر الزمني لا يمكننا إدراكه كونه تغييرا حركيا مؤقتا لا يتّسم بالثبات المقارن مع ثبات الماضي ولا يمتلك كينونة زمنية إستقلالية تفصله عن المستقبل. لذا إعتبر فلاسفة اليونان الحاضر نقطة وهمية ليست زمانية ينتقل عبرها تجسير الماضي الى المستقبل في تجاوز الحاضر كقطوعة زمنية لا نمتلك إدراكها.

من الخطأ بضوء هذا المعنى أن نفهم الحاضر حلقة وصل بين ماض إنتهى وبين مستقبل يتشّكل منهما سوية أي يتشكل من ترابط الماضي مع الحاضر.وبتعبير افلاطون (من الخطأ أن نستعمل الحاضر وصورة ما هو كائن، لما هو متغيّر متحّول من الماضي الى المستقبل)، فهو يعتبر الحاضر لحظة قصيرة جدا عابرة لذا لا يجب معاملتنا لحظة الحاضر المؤقتة كزمن تجسيري يربط الماضي بالمستقبل وهذه حقيقة لا غبار عليها من جنبة فهمنا الحاضر زمانا وليس تاريخا وقائعيا ثابتا يلازمه الزمان..

والسبب في غمط حضور الحاضر كتحقيب زماني غير مدرك زمانا رغم حقيقة كونه مدركا موضوعيا فيزيائيا لا يكون بدلالة إدراكه الحسّي المباشر كزمن بل بدلالة تحقيبه تجسير ربط الماضي بالمستقبل كتاريخ لاحداث واقعية. ألحقيقة التي سبق لي تكرارها في أكثر من مقال لي أن الزمان في تحقيبه الارضي كزمان مجرد عن تاريخانيتة الى ماض وحاضر ومستقبل هو حدس يدرك بدلالة غيره من حركة أجسام يحتويها ويتمايز عنها بالمواصفات والكيفية. فنحن ندرك الزمن الماضي بدلالة وقائع ما يحتويه من تاريخ، وندرك المستقبل بدلالة سيرورته التاريخية ألمتشّكلة على الدوام وليس في زمانية مجردة نطلق عليها لفظة مستقبل.

ما يصنعه حاضرنا في بناء ذاتيته الزمانية الوقائعية انما هي في حقيقتها بناء مستقبلنا. هنا في تداخل بسيط نناقش به افلاطون إعتباره ألحاضر وهما غير موجود زمانا من حيث أن مايفعله الانسان في كل حركة من حركاته هي تشييد بنية لمستقبل غير منظور وليس لحاضر غير منظور لا يمتلك زمانية سكونية كافيّة لبقائه كي يدركه العقل كزمن بدلالة مكان. وكذلك يصبح ماضيا حين يجري إندغامه كحاضر بالماضي في إستعادتنا إستذكاره.

فاللغة مثلا التي يتكلمها الانسان هي لغة مستقبل زمانيّا وليست لغة حاضر غادر زمانيته وأصبحت تعبيرا عن ماض إنتهى لحظة الانتهاء من تعبير الجملة الشفاهي او المكتوب.كما يمكننا اعتبار الانتهاء من الكلام حاضرا هي لحظة ترحيل معنى الكلام انه تشكيل لمعنى مستقبلي اكثر منه اندغاما بالماضي..

لذلك نجد افلاطون يعبّر عن هذا المعنى (الحاضر لحظة غير معقولة لأنها تفترض البقاء ولو أقصر مدة فيما ليس هي بكائن على الاطلاق) بمعنى الحاضر ليس بكائن يدرك زمانا على الإطلاق حسب تعبير افلاطون نصّا. وهنا لا يمكن تخطئة افلاطون بتعبيره هذا كونه يتعامل مع زمان حاضرتجريدي على صعيد التصورالفلسفي الارضي لا يحتويه تاريخ وقائعي يجعلنا ندرك المستقبل بدلالته.. وقائع ماندركه حاضرا في حياتنا هي قسمة مشتركة بين ماض يحتضنها ومستقبل يتلقاها كسيرورة يختزنها قابلة للتطور والاضافة والتجديد عليها.

الفرق بين الماضي والمستقبل أن وقائع الماضي تكتسب ثبات ادراكي زمني مفارق لها. اما المستقبل فهو سيرورة متغيرة متطورة حركية يلازمها الزمن بحيادية فهو دلالة ادراك وليس جزءا من مواضيع الادراك العقلي.

الحاضرالزماني حسب تفسير افلاطون هو لحظة لا يعقلها العقل لتعّذر إدراكها، فهي بقاء مؤقت زائل لذا لا يكون الحاضر كائنا مدركا كمفهوم زماني. ولو أننا تماهينا مع افلاطون مع هذا التصور الزماني الميتافيزيقي الذي يبدو لنا صحيحا منطقيا، سوف نسقط في نفس الإستحالة الإدراكية في فهمنا للماضي، على ضوء فرضية أن الحاضر وهمي غير معقول وكذا نفس الحال مع المستقبل ما يجعل من تحقيب الزمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا محض افتراضية عشوائية لا معنى لها سوى في إذهاننا فقط ولا تحمل مدلولاتها الادراكية الزمانية الحقيقية.

وهذا التحقيب العشوائي الزماني كقطوعات تحقيبية هي موضع شك لا يمكننا البرهنة المنطقية العقلية عليه. كون هذه السلسلة من التعاقبات الماضي والحاضر والمستقبل جميعها ترجع الى أصل المشكلة أن الزمان ليس موضوعا مدركا للعقل لا بالصفات الانفرادية ولا بالماهية...كما أن الزمان وحدة زمنية واحدة في عدم إدراكنا ماهية الزمن كموضوع مدرك فهو سرمدي أزلي لانهائي..ما بعد الزمن الكوني لازمن ولا فراغ ولا عدم كون ادراكنا ازلية لانهائية الزمن امرا مستحيلا.

قطوعات الماضي والحاضر والمستقبل تعبيرات مجازية على الارض لزمن مجرد يستحيل إدراكه تجريدا، لكن ألمدرك الحقيقي لنا أننا ندرك هذه القطوعات الثلاث ليست زمنية بل قطوعات تاريخية فقط نعيشها في ماضيها وفي حاضرها وفي سيرورة مستقبلها.

الزمن والنفس

اود الاشارة الى أن علاقة النفس بالزمن علاقة طبيعية لا يمكن الفصل بينهما، وطبيعة النفس متغير غير ثابت امام مطلق زمني يبدو ثابتا لا يتغير، هذا ليس نجده على مستوى علم النفس في الادراك الشعوري واللاشعوري الدارج للزمن، وهو تعبير خاطيء صحيحه هو الشعور واللاشعوريكونان في مصدر النفس وليس في بواطن الزمن.

حقيقة الارباك الذي اثاره الفيلسوف العقلاني العلمي جاستون باشلار حول رومانسية المكان على أنها زمن إسترجاعي خيالي لا ذاكراتي انما هو بالحقيقة تعبير مجازي عن الزمان. الزمن تجريد دلالة فقط وعند استذكارالماضي انما نحن نستذكر انطباعات نفسية وليس انتقالات زمانية. فنحن لا ندرك ما لا يمكن ادراكه كموضوع هو الزمن.

لتكن البداية من منطلق التساؤل هل يمكننا اسقاط رغائب النفس على السيرورة الحركية للزمن في الزاميه التنفيذ الاستجابي في تحقيق تلك الرغائب النفسية حتى لو حاولنا تطويع الزمن رضوخا في قبوله قطوعات النفس الساقطة عليه؟ لا نعتقد متاحا أن تكون هيمنة رغائب النفس على الزمن ممكنة التحقق. فالاسقاط الشيئي سواء كان ماديا أو موضوعا خياليا مستمدا من الذاكرة والمخيلة على الزمن يبقى يدور في حلقة هيولية مفرغة خارج مركزية الزمن المحتفظ بماهية نوعية مطلقة لا تجانس أي إسقاط مادي أو خيالي عليه. الصفة الرئيسية للزمن انه دلالة لمعرفة او ادراك شيء او موضوع. واكثر من ذلك ان الزمن يلازم كل حركة لكنه ليس حركة ندركها بدلالة جسم مادي او غيره.

وفي محاولة معالجة الفلسفة تطويعها الزمن لرغائب النفس هي نوع من التحليق الرومانسي (حلم يقظة) يجد في ركوب وامتطاء رغائب النفس ظهر الزمان ممكنا واردا. هذا الاسقاط الالزامي التطويعي يتوسط دائرتين دائرة النفس المنفتحة على الزمن إستذكاريا يقابلها دائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهويا مطلقا المنفصلتين كلتاهما عن بعضهما ماهويا.فالفكر الاستذكاري ماهيته الادراك الخيالي، ودائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهيتها المطلق غير المدرك عقليا.

من الممكن تصور أن تكون النفس زمانية ماضويا بدلالة تحقيب نفسي لازماني حقيقي لكن من المحال أن يكون الزمان مطيّة النفس في تداخل جوهري معها على صعيد المجانسة الماهوية النوعية لكليهما، ليبقى الزمن محتفظا في جوهره الماهوي المطلق في الانفصال التجريدي التام عن النفس. وتعليل هذا الالتواء القصدي إحتمال نجد تبريره في سبب لا يتوفر للانسان صيغة اسلوبية بديلة عنه أن تعيش النفس الزمان الاستذكاري الماضي بما يحقق رغائبها من غير إسقاطها المباشر على الزمن خارج التجريد المكاني. بمعنى توضيحي زمن حوادث التاريخ الماضي هي ليست زمن التاريخ الاستذكاري لها ونحن نعيش الحاضر.

في تعبير مقتصد جدا النفس هي إسقاط خيالي لحوادث تاريخية على زمان مطلق تعرف وتدرك تلك الاسقاطات بدلالته ولا يكون هو متداخلا بها منقادا لها. الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه بدلالة رجوعه الى ذاته. الزمان والطبيعة جوهران متلازمان ماهويا إنفصاليا لا يدركان علاقتهما بكل شيء يدركه عقل الانسان ولا يدركانه.

ما يدركه العقل ليس بالضرورة يكون مدركا زمانيا أي مدركا زمانا خارج العقل، ولا يكون الزمن ايضا مدركا طبيعيا أي تدركه الطبيعة.هنا نجد مهما الإبانة التوضيحية أن مايدركه الانسان زمانيا هو ادراك متزامن وملازم لمكان، لكن لا العقل يدرك المكان تجريدا من غير ملازمة زمانية له ولا الزمان يدرك ملازمة إدراكه المكان مجردا مستقلا عن فاعلية العقل التي تحتوي الزمان والمكان معا.

للمقال صلة

***

علي محمد اليوسف /الموصل

في المثقف اليوم