أقلام فكرية

الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد (8)

عبد الجبار الرفاعيتسارعت كتابةُ حسن حنفي في الربع الأخير من حياته، وتضخّم مشروعُه وتكدّست مجلداتُه، بنحوٍ يشعر معه القارئُ الذي واكب كتاباتِه بشغفٍ حنفي بالكمّ وتعلّقِه ببلوغ خاتمة مشروعه الموسوعي. كان وهو يكتب متعجلًا كمن يقرأ روايةً بوليسية يترقّب خاتمتَها بلهفة. وعد أن يغطّي مشروعُه كلَّ حقول التراث الواسعة، وبالفعل وفى بوعده أفقيًا. لم يتورط في مثل هذا العمل الموسوعي مفكرٌ آخر غيرُه، لا من جيله، ولا أجيال أساتذته، ولا تلامذته. لا يمكن إنكارُ مواهبه الفذّة، ولا تكوينه الأكاديمي الرصين، ولا خبرته الممتازة في معرفة الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، ولا خبرته الأفقية والعمودية بالتراث، إلا أنه أراد أن يكونَ متكلمًا كأئمة الفرق، وفقيهًا كأئمة المذاهب، وأصوليًا كالإمام الشافعي، ومفسّرًا كأعلام التفسير المعروفين، وعالِمًا بالرجال والحديث كأعلام المحدثين وعلماء الرجال والطبقات، وقبل كلِّ ذلك أراد أن يكون فيلسوفًا كالفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا. أظن أن ذلك يتعذّر على إنسان اليوم، مهما كانت عبقريتُه وتكوينُه العلمي ومواهبُه ومعارفُه وصبرُه ومثابرتُه. ضيّع حسن حنفي مواهبَه وطاقاتِه وصبرَه الطويل في متاهات التراث وكهوفه، ولبث في تلك المتاهات ولم يخرج منها بعد أن دفن فيها عقلَه وتكوينَه الأكاديمي الثمين وإمكاناتِه المعرفية. عاش فكرُ حسن حنفي مغترِبًا وسيلبث مغترِبًا، صوتُه لم يكن مألوفًا للكلّ، حاول أن يكونَ إسلاميًا فتنكّر له الإسلاميون، مثلما حاول أن يكونَ علمانيًا فتنكّر له العلمانيون.

البيان النظري للمشروع الذي أصدره كخارطة طريق عنوانه: "التراث والتجديد"، لكن مشروعه إحيائي لا تجديدي. الإحياء يبدأ من التراث لينتهي بالتراث، الإحياء إعادة صياغة لفظية تستبدل كلمات بكلمات، وأحيانًا تنحت مصطلحات بديلة لتملأها بالمعاني التراثية ذاتها. الإحياء غير التجديد، التجديد يدرس البنيةَ العميقة لعلوم الدين، ويعمل على اكتشاف مناهجها ومنطقها الخاص ورؤيتها للعالم، ويستوعبها استيعابًا نقديًا، ويتجاوزها ليجتهد في إنتاج علوم ومعارف الدين بمعطيات ومناهج وأدوات العلوم والمعارف الحديثة. دراسة التراث ضرورة تفرضها الكيفيةُ التي نريد أن نتحرّر بها من وصايته. تبدأ دراسةُ التراث بالكشف عن البنيةِ الأشعرية وغيرِها من مقولات المتكلمين المؤسّسة لرؤية المسلم للعالم في الماضي والحاضر، هذه الرؤيةُ الكلامية التي يستقي منها التفسيرُ والفقه والأخلاق وتصوّف الاستعباد.

كتب حسنُ حنفي مقدماتِه النظرية بلغةٍ أكثر تماسكًا وبمنهجٍ أكثر تنظيمًا ورصانة، غير أنه أخفق في تطبيقاته. ظهر مبكرًا أدقُّ نصوصه وأوضحُها وأكثرُها تماسكًا نظريًا، في تقديمه المطول لترجمة "رسالة في اللاهوت والسياسة" لسبينوزا. كان متمكنًا في ترجماته القليلة، لو لبث في هذا الميدان وراكم تجربتَه فيه لربما أنجز للمكتبة العربية ترجمةَ أثمن النصوص الفلسفية وأغناها قبل أن تشيع الترجمةُ أخيرًا. كان متمكنًا أيضًا في بناء الإطار النظري الصادر بعنوان: "التراث والتجديد" الذي كتبه بوصفه المانفيستو لمشروعه، وهكذا صاغ مقدماتِه النظرية لحقول مشروعه. غير أن محاولاتِه في إعادة بناء علوم الدين بالاغتراف من التراث عجزتْ عن الوفاء بوعودها، وأخفقتْ في تمثّل رؤيتِه النظرية وحضورِها. ضاعت في مشروعه المباني، ولم نرَ من الإطار النظري الذي يرسمه في مقدّماته إلا عنواناتِ الكتب والفصول والمباحث، انشغل بالشعارات من دون أن نقرأ في كتاباته إعادةَ بناءٍ أو تجديدًا ينعكس على البنية التحتية لعلوم الدين. إعادة بناء حقول التراث في أعماله تركز على محتويات المدونات التراثية، وتقدّم مستخلصات عاجلة للعنوانات الأساسية والفرعية في مدونات التراث المرجعية، وأحيانًا باستبدال العنوانات بجملٍ مباشرة كأنها شعارات جماهيرية. انشغل أخيرًا في تلخيصٍ متعجَّل لهذه المدونات، تلخيصاته تفتقر لتحليلِ وتفكيكِ النسيج المعرفي الداخلي لمكونات التراث. أخفق في التفكيك مثلما أخفق في إعادة البناء والتركيب. لبث يتغنى بأحلامه، ظلّ مولعًا بصياغة شعارات كأنها لافتات تعبوية، وأسرف في تكرارٍ مملّ لشعاراته ذاتها، ظل ملازمًا لها ولم يغادرها إلى محطة أرحب أفقًا حتى نهاية حياته. مَنْ يقرأ كتاباتِه بتدبّر يراها تبدأ من التراث وتنتهي بما يتمناه على التراث.4186 علم الاستغراب

لم يتوقف حسنُ حنفي عند حدود إعادة بناء التراث، بل أوقعَ الفكرَ العربي في عدة التباسات ضبابية عندما حاول أن يدرسَ الغربَ وحضارته ومعارفه، واحدة منها الادعاُء بتأسيس: "علم الاستغراب" الذي يدرسُ فيه الشرقُ الغربَ كما درسَ الغربُ الشرقَ في "الاستشراق". ذاع صيتُ عنوان "علم الاستغراب" وأضحى موضةً ثقافية، بعد أن نسخ عنوانَه بعضُ الذين يكتبون بلا تكوينٍ علمي رصين، ومن دون تدبرٍ عميق وتفكيرٍ صبور، فعملوا ضجة إصدارات، تكدّست فيها ألفاظٌ فوق ألفاظ بلا مضمونٍ معرفي دقيق، وكلماتٌ يمكن أن تقول كلَّ شيء من دون أن تقول الشيءَ الذي يبحث عنه القراء.

لافتة "علم الاستغراب" أغوت المسكونين بالتفسير التآمري لنشأة العلوم والمعارف الحديثة، ممن يعتقدون أن حضورَها في مدارسنا وجامعاتنا وثقافتنا أحدُ أدوات شباك الامبريالية للهيمنة على العالم، وهذا الكلام تلتقي منه كتاباتُ يسارية وقومية وأصولية. أشغلنا "علم الاستغراب" بشعاراتٍ فضفاضة وأحلامٍ غريبة، ترسم خارطةً ذهبية لمستقبل الوعي والتنمية العلمية في بلادنا، خارطة افتراضية تضع مسارَ الحضارة الإسلامية في ثلاث مراحل، كلُّ مرحلة سبعة قرون. السبعة الأولى مرحلة النهوض والازدهار تبدأ بالقرن الأول للهجرة لتنتهي في السابع، الثانية مرحلة الانحطاط تبدأ بالقرن الثامن وتنتهي في الرابع عشر الهجري، الثالثة مرحلة النهضة الحضارية الجديدة تبدأ بالقرن الخامس عشر الهجري وتظلّ تتواصل وتتكرّس سبعة قرون. يتراكم فيها، كما يتنبأ حسن حنفي تقدّمٌ على تقدم، وابتكاراتٌ مبهرة في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون والآداب، وبناءُ الدولة المثالية، والتنميةُ الشاملة. إنها المرحلةُ التي يولِّد فيها الإنسانُ المسلم علومَه الخاصة ويستغني عن علوم الآخر ومعارفه. القارئ الذكي يجد هذه السباعيةَ محاكيةً في قالبها للمادية التاريخية شكليًا، وإن كانت عاجزةً عن البناء النظري للماديةِ التاريخية واشتقاقِها من الرؤية الفلسفية العميقة للمادية الديالكتيكية، بغضّ النظر عن رفضنا للرؤية الفلسفية المادية.

لا معرفةَ مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ مكتفية بذاتها، لا حضارةَ حيّة مكتفية بذاتها. كلُّ حضارة حيّة مركب تنصهر فيه عصارةُ حضارات. الحضارة لا تزدهر إلا بولادة تفاعل خلّاق للخبرات الإنسانية العالمية المشتركة، تلتقي هذه الخبراتُ بمركب أكثف لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالمي في الوقت الذي هو محلي، ومحلي في الوقت الذي هو عالمي. التكنولوجيا، والعلوم الطبيعية والعلوم الصرفة كونية، العلوم الإنسانية الكوني فيها أكبر بكثير من المحلي، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته. حين تنغلق الحضارةُ على نفسها تدخل مسارَ انحطاطها وموتها واندثارها. يقول حسن حنفي: (عندما كتبت "موقفنا من التراث الغربي" في يناير 1971، أحدد فيه معالم الاستغراب، رد عليه فؤاد زكريا في نفس العدد بمقال: "دفاع عن الثقافة العالمية". في حين أنه في ندوة المجلس الأعلى للثقافة عن الكتاب "مقدمة في علم الاستغراب" أتى مهاجمًا اياه مبينًا استحالته. لم يكن من المناقشين، ولكنه حضر خصيصًا، وتكلم من القاعة مع الحضور)1 .

شغلنا حسن حنفي بترويج مصطلح الاستغراب، الذي يدعونا لضرورة الاستغناء عن تفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها على وفق معطيات العلوم والمعارف الحديثة. لافتة الاستغراب ترفض علومَ الفهم والتفسير، ومعطياتِ العلوم المتنوعة في تفسير السلوك الفردي والمجتمعي، وتشدّد على العودةِ إلى التراث والانطلاقِ منه لبناء علومنا المحلية في ضوء هويتنا وذاكرتنا وحضارتنا. استغناء المفكر اليوم عن الثقافة العالمية ومشترَكات الوعي البشري غير ممكن. عجز حنفي نفسه عن الاستغناء عن المعرفة الغربية. استيعابُه للمعرفة الحديثة واسع، وتوظيفُه للغتها ومصطلحاتها وأدواتها كبير،كلُّ مَن قرأ أعمالَه يرى ذلك بوضوح.

الواقع يكذّب فرضيةَ الشروع بالنهضة الجديدة لعالمنا مطلع القرن الخامس عشر الهجري، على وفق مرحلة القرون السبعة الثالثة. الإنسان اليوم يختنق بالواقع المزري للحقوق والحريات في دولنا الهشة، وهكذا تندثر بالتدريج القيمُ الأخلاقية والإنسانية المشترَكة في مجتمعاتنا، وتتفجر هوياتٌ طائفية مخيفة تمزّق مجتماتنا. بلادنا ودولنا في القرن العشرين الميلادي أصلب منها اليوم، وهكذا كان حال مجتمعاتنا ذلك الزمان. نتمنى أن تحدث المعجزةُ وتتحقّق بشرى حنفي.

يسود دعوةَ الاستغراب إفراطٌ في توهم الاستغناء عن الآخر، وإفراطٌ في التفاؤل بمستقبلٍ مجيد لعالم الإسلام في القرون السبعة القادمة. وبدلًا من التدليلِ على ذلك منطقيًا يكدّس صاحبُها شعاراتٍ ويحشد عباراتٍ تهيّج مشاعرَ القراء الذين يقرأون بلا تأمل، ويكرّرها بلغةٍ تثير الوجدانَ وتشحذ العواطفَ وتستفزّ الضميرَ وتستنهض الهوية. يخيل إليك وأنت تقرأه كأنك تقرأ مدونةَ أحدِ الكتاب الأصوليين المتشدّدين، أو أحدِ مشاهير المنجمين المولعين بالتفاؤل. يصف علي حرب ذلك بقوله: (إنها أمبريالية الكلمات والمقولات نحاول فرضها على الواقع، كما يمارسها المثقف الرسولي الداعي إلى الثورة أو القائم بحراسة الهوية والذاكرة. هذا ما فعله حسن حنفي في كتابه حول الاستغراب، خصوصًا في المقدمة والخاتمة، حيث تصرف في تحليله لوقائع العصر كأنه "سيد الحقيقة مالك الوقت"، إلى حد جعله يجزم بأن الحضارة الغربية ستدخل لا محالة في طور من الانحطاط يستغرق سبعة قرون، وأن حضارتنا ستدخل في المقابل في نهضة ستستمر هي الأخرى سبعة قرون.. ويُخشى أن ينطوي هذا التحليل بل التقدير على وهم كبير، على افتئات على الواقع والتاريخ، ثمرته إما الإحباط واليأس المفضي إلى الدمار الذاتي، وإما افتعال الأشياء وترجمة المقولات على الأرض عنفًا وإرهابًا)2 .

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.....................

1- د. محمود محمد علي، شهادة المفكر حسن حنفي في حق فؤاد زكريا، ص 15.

2- حرب، علي، نقد النص، ص 59، 2005، المركز الثقافي العربي، بيروت.

 

في المثقف اليوم