أقلام فكرية

من قيم الإسلام التاريخي الى إسلام القيم المطلقة

الاسلام التاريخي: بسبب حالة التأزم التي يعيشها المسلمون بعد صدمة الحداثة تولد الحديث عن الاسلام التاريخي الذي يمثل الحالة المقابلة لمقتضيات التحديث، ويمكن الكشف عن بعض من مدلولات الاسلام التاريخي من خلال رصد نماذج بارزة للتجربة الاسلامية بصفة عامة، من حيث المجال الديني والسياسي والاجتماعي، وطبيعة القيم التي تشكلت بفعل عامل تاريخي بعيداً عن الاصل الوحياني للدين الاسلامي، ويمكن اطلاق مفردة (الاضافات) على كل ما ألصق أو ألحق بالدين، لتغدو إسلاما تاريخيا، وهي احدى مشكلات الأديان بنحو عام، والتي تكاد أن تفضي الى انتاج دين مغاير من خلال تحولات مفصلية يمر بها الفكر الديني مما يجعل من القيم -التي يفترض أن تكون هي الأخرى مطلقة- مخرجات لاحقة ومتفرعة عن رؤى بشرية حاولت أن تتصدر المشهد الفكري الديني من خلال قراءات عقدية أو فقهية أو حتى ثقافية وأدبية، حتى غدت تلك القراءات -وهي ضمن وضع تاريخي محدد- جزءاً وفرعا من الأصل، في حين كان ينبغي أن يتحقق الوعي بالأصل من جهة، والطارئ من جهة أخرى، على مدى التطورات والتحولات التاريخية، اذ يغلب أن يُلبس ابتكار او رؤية جديدة ثوب القداسة ومن ثم إحلاله محل الأصل على الرغم من كونه نتاجاً بشرياً طارئا له الظروف الخاصة المولدة له.

لذا كان الاسلام التاريخي ما يعبر عن تراكم للرؤى التي تم توظيفها إما دينياً أو سياسياً لتأخذ مكانها في عمق وجود الفرد والمجتمع.. وتكتسب طابعاً دينياً أصيلاً، يجلّي مفردة الاسلام التاريخي.

قيم الاسلام التاريخي

إن قيم الاسلام التاريخي تابعة للوضع التاريخي لبعض إضافات الإسلام، من كونها قيماً متولدة عن قراءات ورؤى خاصة، وتمت أدلجتها سياسياً لتأخذ مداها الاجتماعي والديني، مما يتعسر لاحقاً اكتشافها وتحديدها من جهة، وحتى نقدها أو فصلها عن الأصل من جهة أخرى، ومن أمثلة ذلك ما استشرى لدى مختلف الاتجاهات والمذاهب من عقدة الكراهية للآخر المختلف أو المخالف، بحيث أصبحت تلك العقدة من صفات المتقين الذي باتوا يشعرون بالحرص على تلك الفرعيات التي أضيفت إلى الأصل أو حلت محله، فظهرت سلوكيات السب والازدراء مثلا على انها احدى القيم التي تميز الفرد المسلم، والاسلام منها براء.

فمثلا آية السيف حسب قول بعض فقهاء الاسلام قد أبطلت حكم أكثر من مئة وعشرين آية أخرى تأمر المسلمين بالحكمة والرحمة والإحسان في علاقتهم بأهل الكتاب. فكان من نتائج هذه المقولة أن ظهرت جماعات الإسلام الداعشي التي ألحقت بالمسلمين والإسلام أضراراً فادحة، من أبسط صورها ظهور موجة إلحاد وتنصّر لم يشهد مثيلها العالم الإسلامي منذ ثمانين عاما على الأقل.

لذا فإن الأخطر في تجليات العنف هو العنف الطائفي والعنف الأيديولوجي، إذ كثيرًا ما يتحول هذا العنف إلى ظاهرة اجتماعية، وإلى عنف له شرعة دامية تمارسه السلطة والجماعة، وتتبدى من خلال تضخمه وتغوّله، وكثرة ضحاياه الكثير من الهويات القاتلة، والهويات المقتولة، بسبب قيم الاسلام المفهوم فهماً تاريخياً.

القيم المطلقة

في حين ذابت القيم المطلقة في واقع الممارسة والتطبيق لتغدو مجرد شعارات توظف حين الحاجة فقط، على مستوى انتاج الايديولوجيات، أو تصغر تلك القيم وتؤطر في حدود ضيقة جاءت صنيعة العصبيات المذهبية أو غيرها من الاتجاهات التي تحصر الدين في زواياها الضيقة فحسب.. القيمة المطلقة قيمة اعتبارية قائمة بذاتها من خير وعدل وكل فضائل الأخلاق، ولم تكن ضمن أولويات الخطاب الاسلامي على مدى الاسلام التاريخي، بل كانت مجرد اطار عام وفضفاض ينظر له نظرة المسلمات المهملة، اذ يدرك الانسان كثير من المسلمات وفي ذات الوقت يهملها اذا لم تجلب له منفعة عاجلة او شخصية مثلا.

وأزمة القيم مشكلة عامة تكاد تواجه أغلب المنظومات الفلسفية والفكرية فضلا عن الدينية، وبالأخص في عصرنا الراهن، وذلك بسبب مشكلات بنيوية تتعلق بتلك المنظومات من ناحية طبيعة تشكلها وبناءها والاسس التي تستند إليها، ومشكلات أخرى قد تكون طارئة أو خارج بنية تلك المنظومات.

اسلام القيم المطلقة

لذا كان من الجدير العودة الى إسلام القيم المطلقة، ذلك الاسلام الذي تجلّيه نصوص القرآن الكريم، اذ المشكلة ليست في تحريف النصوص كما حدث في الديانات السابقة بل المشكلة في تحريف الوعي، والفهم، والاستنتاج، والقيم المطلقة التي حث عليها الإسلام لم تكن غائبة على مستوى النص، بل على مستوى الممارسة والواقع، وفعل الثقافة هو ما ولد تلك المشكلة، أي تثقيف المفهوم الديني، وصياغة ثقافة قائمة على فهم يبتعد عن المحور ويلصق بالمساحات التي تعد على الهامش لا أكثر.

ان تفعيل القيم المطلقة في الخطاب الديني الاسلامي يستدعي استحضار الكليات او المفاهيم والقواعد الكلية التي يمكن أن تمثل مرجعية عليا في إنضاج الخطاب الديني ضمن حدود القيم العليا، وهذا الاستحضار ليس من العسر بمكان سوى حاجته الى فعل ميداني واقعي على مستوى فهم النصوص الدينية وتوظيفها في تحقيق المقاصد الكلية للإسلام من خلال إرساء تلك القيم على كونها مرجعيات معرفية ثابتة، والتجرد عما سواها من زوايا حادة تفضي الى الإقصاء وتفتيت السلم المجتمعي، بهدف اثبات أن الاسلام دين يحث على تكريس القيم المطلقة التي تتمتع بعمومية وشمولية ومقبولية عامة.

***

د. أسعد عبد الزراق الاسدي

 

في المثقف اليوم