أقلام فكرية

متطلبات العقل الديني - الأخلاقي الخالص

اذا ما استلهمنا من كتاب كانط من نقد العقل المحض عنوانًه لننظر في متطلبات وشروط العقل الديني الخالص فيكون هدفنا التأكد عمًا إذا كان يساعد فهم البنى العقلانية الأساسية الكامنة وراء المعتقد الديني على تفسيرالجوانب المهمة للأعتقاد وتطور تقاليدها الرئيسة. يتطلب هذا الغرض أن تكون بنية العقل الديني واضحة في أذهاننا بدايًة، لذا ساقوم بتحديد هذه البنية الأساسية.

للأمتثال الصارم لمتطلبات العقل الديني الخالص:

1. على النظام الديني أن يطور ويحافظ على المعتقدات التي تؤدي إلى طاعة القانون الأخلاقي بحيث:

أ. تقديم الطاعة الأخلاقية لهذا القانون قبل كل شيء، وأن يكون هذا القانون بالشكل الذي قدمه لنا عقلنا المحايًد؛[1]

ب. أن تمتد الطاعة إلى جميع جوانب القانون الأخلاقي بما في ذلك واجباته الصارمة (سواء كانت شخصية، أو مؤسسية، أو دولية)، ومعيارها للقيمة الأخلاقية (الفضيلة)، وقواعدها بما يتطلبه الواجب؛

ج. يمكن توقع أن تكون طاعة المؤمن الديني صارمة مثل طاعة الفرد الأخلاقي غير الديني على الأقل وربما أكثر صرامة.

2. أن يطور النظام الديني ويحافظ على المعتقدات التي تحل مشكلة الطاعة الأخلاقية من خلال الذات الأخلاقية العليًا بـ:

أ. يتفوق على الطبيعة والتاريخ؛

ب. مدفوع على نحو كامل بالأخلاق؛

ج. مستجيب مباشرة للإرادة البشرية الداخلية؛ و

د. قادر على إضفاء السعادة، وليس فقط رضا الذات (الرضا الشخصي الناتج عن الفضيلة)، بما يتناسب مع القيمة الأخلاقية للفرد.

3. أن يطور النظام الديني ويحافظ على المعتقدات التي تحل مشكلة عدم الكفاءة الأخلاقية للبشر وهي تلك التي تقول أن إرادة الفرد الأخلاقيًة العليًا لا تحتاج دائمًا إلى التصرف أو الحكم كما يجب، وبالتالي، لا نحتاج بالضرورة إلى تحديد مصير أو قيمة الأفراد الأخلاقيين وفقًا لأحكامهم الأخلاقية.

4. أن يطور النظام الديني ويحافظ على المعتقد الذي يدعم أنثروبولوجيا أخلاقية صالحة تعترف بـ:

أ. أن البشر قادرون على ممارسة الحرية الأخلاقية، وهم مسؤولون أخلاقياً، ويمكن الحكم عليهم على أنهم مستحقون للوم أخلاقياً؛ وذلك

ب. أن البشر عرضة للأعتقاد الخاطئ بشأن غاياتهم الخاصة التي تتطلبها الأخلاق.

5. أن يطور النظام الديني ويحافظ على المعتقدات التي لا تتعارض مع العقل النظري سواء في المعرفة العلمية الطبيعية أو التاريخية.

6. أن يطور النظام الديني ويحافظ على الاعتقاد في حده الأدنى عندما يريد أن يتجاوز المعرفة القائمة على الخبرة أوالتجربة.

7. أن يطور النظام الديني ويحافظ على جميع المعتقدات التي يتطلبها العقل، مهما كانت التوترات بينهما، ودون قمع المعتقدات الضرورية من أجل القضاء على هذه التوترات.

اذا أردنا فحص متطلبات العقل الديني الواردة في هذه النقاط فعلينا أن نضع في الأعتبار أن العقل يفترض في توظيفه الديني الجوانب المؤثرة على المؤسسة والمساعي الدينية، من بين وظائفه الأخرى سواء كانت نظرية أوتدبيرية أو أخلاقية.

ونشير الى نقطة أخرى هيً: أن المعتقدات المتعلقة بالعقل الديني يتطلبها العقل. وهذا يعني أن جدول برنامج العقل الديني هو بيان لتلك المعتقدات التي ينبغي أن يعتنقها كل فرد إذا كان يرغب في أن يكون عقلانيًا. تعرض النقاط المشار اليها أعلاه متطلبات مَهمة صياغة نظام للمعتقد الديني. وغني عن البيان أن هذا الإطار الذي يعمل على فحص واختبار التكهنات الدينية التقليدية يحتوي أيضًا على تلك المعتقدات الأساسية التي ينبغي على كل فاعل عقلاني أن يحملها إذا كان يرغب في أن يكون أخلاقيًا وعقلانيًا.

يعبر المطلب الفرعي الأول من المتطلب الأول، على سبيل المثال، عن حقيقة أن كل فاعل أخلاقي يجب أن يُقاد من قبل القانون الأخلاقي، بالشكل الذي قدمه له عقله المحايًد، بوصفه الأساس المُحدًد لإرادته. يحظر هذا المطلب تمامًا وضع أي حافز خاص أو محدد فوق القانون الأخلاقي، أو فرض أي معتقدات يكون لها هذا التأثير. ينشا هذا المطلب من مطالبة العقل المحايًد بأن يكون لتوجيهاته الأولويًة على جميع التوجيهات الأخرى. ويعبر هذا المطلب، على هذا النحو، عن الفكرة الأساسية للمفهوم الكانطي حول الاستقلالية الأخلاقية.

نريد أن نشير من أجل فهمنا للعقل الديني الى نقطتين في هذا السياق. أولاً، لايستدعي هذا المطلب إزالة جميع الدوافع الأخرى للسلوك الأخلاقي. فيُسمح لي، على سبيل المثال، من خلال عقل محايد للوفاء بوعد أن يكون لدي العديد من الدوافع للقيام بذلك بصرف النظر عن مدى اعتبار هذا السلوك صحيحًا: مثل الخوف من اللوم، أو أي شيء آخر. فكل ما يتطلبه العقل الأخلاقي هو أن لايكون أي من هذه الدوافع الأخرى سلطة على الواجب نفسه وتهدد بأن تحل محله كأساس نهائي للإرادة. وعليه، يجب أن أقوم دائمًا بما يتطلبه الواجب، سواء كانت لديً أسباب إضافية للقيام بذلك أم لا.[2]

ثانيا، لا تعني فكرة الاستقلالية كما تم التعبير عنها في هذا المطلب الفرعي بوجوب الأعتراف بالقانون الأخلاقي بوصفه نتاج العقل الأخلاقي بالضرورة. فمن الجائز تمامًا، عن سبيل المثال، أن يطيع الفرد القانون الأخلاقي دون الاعتراف أبدًا بأن القانون نفسه هو نتاج العقل. ومن الممكن أن ترتكز سلطة القانون على معتقدات أو احتياجات أو رغبات لا علاقة لها بمراعاة العقل. فكل ما هو مطلوب: أنه مهما كان سبب إطاعة الفرد للقانون الأخلاقي، ومهما كان يعتقد بخصوص مصدر سلطة القانون، إن لايؤدي  إلى عصيان القانون الأخلاقي بأي شكل من الأشكال.[3]

فإذا كان لدى الفرد، مثلا، أهتماما بالإرادة المحايدة لكل كائن عقلاني وإذا كان، بناءً على لذلك، ملتزمًا بعدم القيام بأي شيء لا يمكن الأتفاق عليه بشكل محايًد من قبل أيً كائن عقلاني، فأنه لايقوم بانتهاك القانون الأخلاقي وسيكون لديه السبب لذلك في كونه ذو أخلاق مقبولة للعقل تمامًا. إن هذا صحيح رغم أنه لا يعترف بسلطة القانون الأخلاقي، ويصر على أن سلوكه لا علاقة له بتصرفه بعقلانية، وأن أسباب تصرفه شخصية للغاية. بعبارة أخرى، لا يتطلب العقل أن يعترف المرء بسلطته ولكن أن يقوم المرء دائمًا بما يتطلبه-هذا العقل- فقط، مهما كانت أسبابه الخاصة للتصرف.

تكشف الأنظمة الدينية في التاريخ مدى أهمية هذا الفهم، لأن الاتجاه العام لمعظم هذه الأنظمة هو تقديم أسباب نهائية للتصرف- حب الله الأخلاقي مثلا- على الرغم من عدم وجود أي علاقة ظاهريًا بالعقل البشري، إلا أنها ذات طبيعة تحفز على الامتثال لأوامر العقل بالضرورة. نحن ندرك جيدًا الآن الصعوبات الناتجة عن الاعتراف بالأساس الأخلاقي الإنساني والعقلاني فقط - كما بينا ذلك في مكان آخر.[4] أن هذه الصعوبات بالذات هي التي تجبر العقل على إيجاد دعم فوق تجريبي للحياة الأخلاقية. ولكن من جهة أخرى، لا عجب أن تسعى الأنظمة الدينية التي تبدأ بفرض هذا النوع من الدعم للأخلاق إلى حجب الأساس العقلاني للأخلاق أيضًا. بينما الواجب عليها أن  توخي الحذر من القيام بذلك - إذا كانت ترغب في الامتثال للعقل - وألا تسمح أبدًا لأيً أسس جديدة تقدمها للحياة الأخلاقية بتقويض الأولوية الثابتة للقانون الأخلاقي. ومن هنا تأتي الظاهرة الغريبة ولكن الشائعة في الأنظمة الدينية حيث تنكر سلطة العقل بينما تؤدي بنيتها العقائدية إلى التوافق مع متطلبات العقل بكل طريقة.

تعبر الشروط المتبقية من هذا المطلب الأول عن مطالب العقل الأخلاقي إلى حد كبير. إذا عرفنا أن العقل قد أُجبِرَ على توظيف الدين من أجل تسهيل الطاعة الأخلاقية، فمن الطبيعي أن يطلب معتقدات دينية لا تقوض المسؤولية الأخلاقية، بل تعزز الامتثال الأخلاقي إن أمكن. وأن ألا يكون المؤمن الديني أخلاقيًا فقط، ولكن أن يجد أسبابًا ودوافع إضافية من بين المعتقدات التي تجعل تبني حياة أخلاقية صارمة ممكنًا. يجب أن تنطوي مثل هذه الحياة على الامتثال الكامل للقانون الأخلاقي وذلك لتأثيره الكبير على العلاقات الشخصية والاجتماعية والسياسية (المؤسسية) والدولية. وأن يعكس التطور الأكمل للأساس الأخلاقي المتمثل في الفضيلة، وأن يتسم بتشجيع أفعال قد لاتكون مطلوبة من قبل العقل بشكل صارم.[5]

تطرح المتطلبات الثانية والثالثة من النقاط المذكورة بعض الصعوبات أيضًا. يعبر كل منها عن الاستنتاجات التي حاولت تطويرها على مدار الدراسات السابقة عن السؤال الأخلاقي الأول (اشرنا الى المصدر في هامش رقم1). فيوصف الفرد الأخلاقي الذي يفترضه العقل هنا بأنه مستجيب مباشرة للنزعة الداخلية للذات عوضًا عن الفعل الأخلاقي الذي يمكن ملاحظته خارجيًا. هذا التركيز على النزعة والإرادة له أساسه معروف لكل فاعل أخلاقي هو أنه يوجه إرادته وليس عواقب أفعاله في نهاية المطاف حيث يتحمل المسؤولية الأخلاقية عنها. فلا يمكن تحميل أي فاعل أخلاقي مسؤولية عمًا هو خارج عن إرادته أو سيطرته عادةً. وهكذا، نعلم، أنه لا يمكن أن نتحمل المسؤولية الكاملة إلا عمًا نريد ونفعل. لا يعني هذا أنه يمكننا تجاهل عواقب أفعالنا. ولا أتحدث هنا عن موقف يكتفي بالنزعة أو الميل ويترك العواقب. فنحن نعرف أن إرادتنا تأخذ في الحسبان العواقب الواقعية لأفعالنا.[6] لكن مع ذلك، تتحمل هذه الإرادة وحدها  المسؤلية التي تقع على الفرد. وبالنظر إلى مركزية الإرادة للأحكام ذات القيمة الأخلاقية فمن المتوقع يُنظر الى مهمة الفرد الأخلاقي في تحقيق السعادة بما يتناسب مع الفضيلة على أنها مدفوعة بما يحدث في صميم كل شخصية. لكن كيف يمكن لمثل هذه الإرادة،  أو ذات الفرد الأخلاقيًة العليًا، اختراق ضمير كل شخص هذا أمر لا يتطلب العقل معرفته بدقة. قد لا يكون من الضروري أن تدخل هذه الإرادة الفردية من الخارج (باعتبار أن لها أساس دائم داخل الذات). ومع ذلك، فمن الصحيح أيضًا يمكن لكل فرد، (أن يعرف نفسه من الخارج أيضًا) تجاوز الحواجز العادية للمعرفة الشخصية نتيجة مراقبته لإرادته وخبرته في اصدار الأحكام. توحي هذه  الخبرة في نظر الفرد إلى نفسه من الخارج والداخل بإمكانية قيام ذات فردية أكثر كمالًا وتقوم بالشيء نفسه مع الأشخاص الآخرين.

يمتد استعداد العقل للبقاء غير مطلع على جميع شروط مطالبه إلى عدة بنود أخرى في القسمين الثاني والثالث أيضًا. لا يتطلب معرفة كيف يمكن للإرادة (ذات الفرد الأخلاقيًة العليًا) أن تتوسط أو تسوي خلاف السعادة مع الفضيلة ايضًا. فالسعادة، كما نعلم، تلك الحالة التي يتم فيها إشباع الرغبات الحقيقية للفرد؛ وهي تختلف تمامًا عن الرضا الذاتي الذي ينشأ من قدرة الإرادة على قمع قوة الرغبة أو السيطرة عليها. والآن، في ضوء خبرتنا بأن ليس الفاعلين الأخلاقيين سعداء دائمًا، كيف يمكن لإرادة  الفرد العليًا أن تجعلهم كذلك، خاصة إذا كان من الممكن أن تعمل في عالم يتجاوز تجربتنا؟ أي نوع من السعادة يمكن لمثل هذه الإرادة أن تتوسط؟  تُطرح كل هذه الأسئلة بشكل طبيعي من قبل كل فرد عاقل. يبرر تفوق الذات الفردية الفاعلة المفترضة بشكل كافٍ ثقة العقل بأن ما يتطلبه قد يكون ممكنا جدا. فلا توجد إمكانية مغلقة أمام مثل هذه الذات الفردية العليًا باستثناء الرضا الذاتي وماهو متناقض معها تمامًا.

وأبعد من ذلك، إذا سعى الفرد العقلاني إلى فهم كيفية توقع السعادة خارج الحدود العادية للتجربة الحسية، فيمكنه مراعاة تجربته الخاصة ككائن عقلاني وأخلاقي. ويمكنه هنا أن يدرك الرضا الحقيقي الناتج عن العقل نفسه عن طريق حب الأشخاص الأخلاقيين أو عن طريق أشكال عديدة من المعرفة. تشير هذه التجربة إلى أن احتمالية السعادة خارج نطاق التجربة الحسية ليست مستحيلة، وهذا ما يوفر مزيدًا من الدعم لثقة العقل بنفسه. يتضمن هذا استخدام جوانب من خبرتنا العقلانية والأخلاقية كأساس لتطوير عناصر المعتقدات فوق التجريبية التي يتطلبها العقل. وتبدو هذه سمة ثابتة للأنظمة الدينية الفعلية.

يحدد المطلب الرابع بعض التقديرات التي يفترضها العقل الديني حول الطبيعة البشرية. لقد رأينا كيف تنبثق السمات المحددة لهذه الأنثروبولوجيا من التدقيق الذاتي للعقل. إن ما تؤكده النقاط المذكورة هنا ليس صحة هذه المعتقدات حول الطبيعة البشرية فقط، ولكن ما يجب  من مراعاتها من قبل أي نظام ديني يسعى إلى الانصياع لمتطلبات العقل الديني بصرامة. بالطبع، لا يعني هذا أن النظام الديني يجب أن يثبت أو يؤكد هذه المعتقدات، فيمكن أن يظل دائمًا صامتًا بشأن الأمر برمته. وبالتحليل الأخير، فإن العقل الديني هو الأكثر اهتمامًا بممارسة الحياة الأخلاقية، وهذا يعني أن الافتراض المسبق للحرية وعدم كفاية الأخلاق البشرية يجب إثباته في البنية الكلية للإيمان، وليس بالضرورة في التعاليم الصريحة الحرفية.

نظرًا لأن المتطلبات الخامسة والسادسة من هذه النقاط معروفة جيدا، فأنتقل إلى المتطلبات النهائية التي تعتبر من أهم متطلبات العقل الديني في بعض النواحي. لقد كانت متضمنة في ما تناولناه حتى الآن لذا سوف اشرح واسوّغ وجودها ما بين النقاط. قد أبدأ بالقول إن طبيعة العقل الأخلاقي يتوج عمليته الاستنتاجية بسلسلة من المفارقات اللافتة. يستحق اثنان منهما الاهتمام على وجه الخصوص. أولاً، يتطلب العقل الأخلاقي من كل فرد أن يكون مستعدًا لقمع سعادته في الوقت نفسه الذي يسمح فيه لكل فرد أن يجعل سعادته هي غايته. ثانيًا، يتطلب العقل الأخلاقي ثباتًا واطرادًا في النزعة أو الميل الأخلاقي في الوقت نفسه الذي يتطلب فيه من كل فرد الاعتراف بعدم قدرته على الحفاظ على مثل هذه النزعة. توصف هذه المعتقدات بالمفارقات بدلاً من التناقضات الصريحة لأن العقل قادر على جعل هذه المعرفة أو الإدراك المتعارض متماسكًا ومنسجمًا بمساعدة بعض المعتقدات فوق التجريبية؛ على الرغم ما يبدو من تعارض بينها في مجال التجربة الأخلاقية بشدة.

نظرًا لأن العقل الديني يهدف إلى حل نهائي وفوق تجريبي لهذه التناقضات، وبما أنه لا يقود إلى حلول مناسبة لها ما لم يتم الاعتراف بالتناقضات علانية، فعليه رفض السماح بحلها بأي جهد يتنازل عن جانب أو آخر من التناقض. بعبارة أخرى، يجب اثبات وتأكيد حقيقة كل منها، مهما كان عدم الترابط الذي يظهر بينهما. وهكذا، يرفض العقل الديني الجهود المبذولة لتخفيف التناقض الأول من خلال الادعاء بأن البشر لا يحتاجون إلى السعادة حقًا. ويرفض الجهود المبذولة لإزالة التناقض الثاني ايضًا بالقول بما أن البشر لا يمكن أن يكونوا أخلاقيين بشكل ثابت، فلا داعي لأن يجتهدوا ليكونوا كذلك. كل هذه الأفكار التي تبدو متناقضة يتم جلبها من الخارج الى العقل الديني ولاً يُسمح له بإزالتها. ولأن يمثل كل مصطلح من كل تناقض مطلبًا مهمًا ودائمًا للعقل، ويجب الحفاظ عليه حتى مع إزالة الطابع المتناقض للكل؛ فلا يتم ذلك الأً في إطار العقل الديني الذي يجمع  بين كل المتناقضات في وصف بعض  الأشياء أوالحالات  فوق التجريبية. وهكذا، يتم التأكيد على أن قدرة الفرد التي يفترضها العقل هي أخلاقية تمامًا رغم معاناة الاستقامة والأنصاف الواضحة في العالم. ويوكد، مرة أخرى، على أنه أخلاقي تمامًا حتى عندما يقال إنه غير متأثر بأوجه القصور الأخلاقي أو إخفاقات الأفراد الأخلاقيين العاديين. يكشف النظر إلى هذه الأنواع من التأكيدات والأصرار بعناية إنها تمثل نشاطًا عقلانيًا دقيقًا ومهمًا للغاية. ينجح العقل برفضه التخلي عن إصراراته المتناقضة المختلفة وحفاظه عليها من خلال ضم جميع المتناقضات في مجال معين حيث لا يمكن القول أنها متناقضة فيه. أي يمكن أن يكون لطبيعة الأشياء أو الأفراد أو العوالم التي تتجاوز خبرتنا صفات غير واردة في  فيها، فيستخدم العقل هذه الحقيقة لتأكيد ما لا يمكنه اثباته وتأكيده دون تناقض.[7]

لذلك لا ينبغي أن نتفاجأ عندما نجد التقاليد الدينية تقدم بشكل متكرر ادعاءات حول الموضوعات التي تهمها وتبدو متناقضة مع التجربة العادية. تخضع هذه التقاليد لمتطلبات أو شرط مهم للعقل الديني مستمد بدوره من العقل الأخلاقي. إنه الشرط الذي يمنعها من أزالة الحقائق الأساسية للتجربة الأخلاقية أو القضاء عليها  لمجرد تخفيف التناقضات التي تخلقها. لدينا هنا، أذن، طريقة مهمة لوصف وفهم المشروع الديني بأكمله. يمكننا أن نفكر في الدين بوصفه محاولة لاستخدام مجال ممكن ولكن غير معروف خارج خبرتنا كطريقة للانسجام العقلاني مع احتفاظ تلك المطالب في عقلنا باثباتها ونزاهتها دائمًا ولكنها تظل متناقضة في إطار تجربتنا العادية المألوفة.[8]

نحن، على ضوء ذلك، في وضع أفضل لفهم الطبيعة المتناقضة والغامضة للخطاب الديني في كثير من الأحيان. إذا كانت تشير الأنظمة الدينية إلى الحالات أو الأشياء ذات الصفات التي لا يمكن الجمع بينها في تجربتنا، فذلك ليس لأنها موجودة بالفعل أو تم اختبارها، بل لأنه يجب اثبات وتأكيد وجودها في المقام الأول. ربما يمكنني أن أوضح هذه النقطة من خلال الإشارة إلى ما أعتقد أنه ليس كذلك في المعتقد والخطاب الديني؛ حيث يتم التأكيد من حين لآخر على أن للخطاب الديني أساس في بعض التجارب غير العادية وذلك بالنظر إلى الطبيعة المبهمة لبعض العبارات أو الادعاءات الدينية. اورد هنا كنموذج وجهة نظر أوتو القائلة بأن هناك تجربة لـ "الخلق" في قلب كل دين وأن هذه الصفة الروحية القوية تتجاوز كل المقولات الطبيعية لخبرتنا.[9] وعليه كما يؤكد أوتو، أن الخطاب الديني فريد من نوعه وغالبًا ما يكون مفهومًا بوصفه محاولة لوضع تجربة الأشياء أو الحالات التي تتحدى هذه المقولات في مصطلحات عادية أو طبيعية. إذا كان ما قلته صحيحًا، فإن أوتو قد قلب الأمر. فليس التجربة الواقعية هي التي تؤدي إلى إثبات وتأكيد شئ غامض بصفات متعارضة في المقام الأول. ولكن متطلبات العقل هي التي تؤدي إلى حاجة إثبات وتأكيد وجود أو تجربة موضوع غامض. وبالتالي، إذا اثبت وجود حالة "تتجاوز الأخلاق"أو أو عابرة الى مابعدها في بعض النواحي، فليس لأنني اختبرت مثل هذه الحالة بالضرورة ولكن لأنني يجب أن أثبت وجودها. لا أريد أن أنكر، بالطبع، أن العديد من المؤمنين المتدينين قد ذكروا- وربما خاضوا- تجارب غامضة كما وصفها أوتو. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فلا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه التجارب تقع في قلب التجربة الدينية (أم انها انحرافات معزولة) أو حتى ما إذا كانت لا تنطلق من احتياجات العقل وأنشطته. وبالتالي، قد يكون هذا هو السبب في أن يخصص العقل تجارب متنوعة لاستخدامه الخاص. كل ما يمكننا التحدث عنه بمسؤولية ومهما كانت الحالة هو ذلك الجانب من هذا الخطاب الذي يمكننا فهمه، أيً، الجانب الذي ينبثق من احتياجات العقل نفسه.[10]

تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن التقليد الفلسفة التحليلية قد أكد على أن الخطاب الديني له منطق خاص به، وأنه يتضمن "لعبة لغوية" (أو "شكل من أشكال الحياة") تختلف تمامًا عن تلك التي الموجودة في الخطاب العادي أو في العلم. لقد حدد الفلاسفة التحليليون، من خلال ملاحظة الطريقة التي يقاوم بها المؤمنون الدينيون بعناد الأدلة التي يبدو أنها تعرض معتقداتهم للخطر في بعدها "التفاعلي" ووعود الخطاب  الديني ودوره في التعبير عن الالتزامات بدلاً من مجرد ذكر الحقائق.[11] لكن يبدو لي أن ما فشل الفلاسفة التحليليون فيه هو تقديم  نظرة ثاقبة عن المنطق الأخلاقي الكامن وراء الخطاب الديني أو الطريقة التي يعمل بها لتلبية متطلبات العقل العملي.

ليس هذا الضعف أو الفراغ  في البرنامج التحليلي عرضي في اعتقادي. إنه يعكس افتراضًا موجودًا في كتابات فيتجنشتاين بالفعل حيث يرى أنه ليس من الممكن فهم الادعاءات الدينية بأي طريقة افتراضية على الإطلاق. كما سعى فلاسفة التقليد التحليلي الى انكار المكانة المعرفية  للعبارات الأخلاقية وأختزال أهميتها في تعبيرها عن المشاعر والألتزامات فقط، وهكذا أتاح فلاسفة الدين التحليليون مجالًا للأعتقاد الديني من خلال وضع تكون فيه خارج نطاق التسويًغ العقلاني أو النقد من حيث المبدأ. لكنني سأجادل بأن هذا النهج غير مناسب لفهم الخطاب الديني والأخلاقي.[12] فلكل من العبارات الأخلاقية والدينية أساسها في الحجج العقلانية العملية المبررة وهذا هو الأساس الذي يفسر قوتها الإقناعية المشتركة.[13] وهكذا، على الرغم من بعض أوجه التشابه الظاهري بين  محاججتي والتقليد التحليلي الأً أن مقاربتي للدين التي أعرضها هنا، بتأكيدها على العقلانية الكامنة حتى لأكثر التعبيرات الدينية إرباكًا، تختلف جوهريًا عن النهج الذي يتبعه التقليد التحليلي.

تستخف التقاليد الدينية بالعقل والأخلاق كثيرًا على الرغم من الأساس العقلاني والأخلاقي للدين وفقًا لهذا الموقف الذي اقول به. ولكن لايمثل هذا الاتجاه للتقاليد الدينية سببًا حقيقيًا لإنكار توافق هذه التقاليد مع متطلبات العقل الديني، لأن يمكن للعقل الديني أن يساعد في تفسير أقوال من هذا النوع. لكن يشير هذا الأتجاه إلى شيء علينا أن نضعه في الاعتبار عندما ننظر إلى التقاليد المختلفة. فلا يكفي أبدًا اعتبار أحد المعتقدات المعزولة أو الهامشية للدين كأساس لتأكيد أوإنكار توافق هذه التقاليد مع العقل. فلأختبار فهم من هذا النوع  على المرء أن يأخذ جميع جوانب التقاليد معًا. وأن يسأل "هل يتوافق النظام الديني بأكمله مع متطلبات العقل بالفعل ؟" أو "هل النظام ينتج بأكمله نوع الحياة الأخلاقية التي يتطلبها العقل، وهل تساهم البنية الكليًة للاعتقاد بالفعل في تحقيق هذه الغاية؟"

هناك مشكلة أخرى سنواجهها في اختبار نظرية من هذا النوع وهي: ليس كل البشرعقلانيين ودائمًا، لذا قد لا تكون بعض تقاليدهم الدينية عقلانية تمامًا. أيً، سنواجه في تاريخ التقاليد الدينية الكبيرة فشلًا في التوافق مع متطلبات نقاطنا المذكرة أحيانًا.

هل يعني هذا أن فهمنا للدين غير كافٍ؟ لا، ليس بالضرورة؛ ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن البنية المعقدة التي يتطلبها العقل الديني يصعب فهمها ومراعاتها. وأن حصول الخطأ في الحكم أمر طبيعي. ومع ذلك، إنه اختبار لصلاحية هذه البنية العقلانية التي يكون لها عواقب وخيمة يمكن إدراكها عند ارتكاب الأخطاء. يجب أن تحفز هذه العواقب بمرور الوقت جهود الإصلاح وألا تؤدي إلى زوال النظام الذي رفض تصحيح نفسه. قد لا نتوقع التوافق التام مع متطلبات العقل الديني دائمًا. ولكن عندما نواجه اختلالًا ملحوظًا، يجب أن نتوقع أن نرى في غضون فترة زمنية معقولة سلسلة من الحركات الإصلاحيًة أو التصحيحية. ويمكن أن تأخذ شكل نقاش حاد ونزاع حول المسألة المطروحة داخل مجتمع ديني، أو حركات تنأى بنفسها عن النقطة المتنازع عليها. بعبارة أخرى، علينا أن ننظر إلى التقاليد الدينية ليس بوصفها  إنجازات ثابتة ولكن جهود مستمرة للتوافق مع متطلبات العقل الصارمة.

****

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................

[1] حول العقل المحايد في هذا السياق  انظر:  الربيعي،  دكتور علي رسول:  السؤال الأخلاقي  الأول:

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/964063-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%80%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-1

[2] إن التفسير الخاطئ لتأكيد كانط على الواجب على أنه ينطوي على الاستبعاد الضروري لدوافع أخرى أمر شائع. ساعد كانط نفسه في تعزيز هذا التفسير الخاطئ من خلال التأكيد على الأفضلية الأخلاقية للفعل الذي يتم القيام به من الواجب دون النية الخيرية إلى الأعمال الخيرية التي يتم القيام بها في انتهاك للواجب. أنظر:

Gert, The Moral Rules (New York:  Harper & Row, 1970) p. 397.

 

[3] يشير تعريف كانط للدين على أنه "الاعتراف بجميع الواجبات كأوامر إلهية"

Kant, Critique of Practical Reason, tr. Lewis White Beck (Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1956) p. 129.

إلى استعداد لقبول دوافع للطاعة الأخلاقية على الأقل في مكانة متساوية مع احترام القانون الأخلاقي نفسه، طالما أن هذه الدوافع ليست متعارضة بأي حال من الأحوال لقانون الأخلاق. لا يتعارض هذا التفسير مع تأكيد كانط على أن الأفعال الجديرة بالأخلاق يجب أداؤها ليس فقط وفقًا للواجب ("وفقًا للواجب") ولكن من أجل الواجب. Gr, pp. 390, 398

يبدو أن الإجراءات التي يتم القيام بها "وفقًا للواجب" غير كافية من الناحية الأخلاقية، لأن الدوافع الكامنة وراء هذه الأفعال عادة ما تكون مشروطة ويمكن أن تؤدي بسهولة إلى السلوك غير الأخلاقي. ولكن عندما يؤدي الأساس المحدد بالضرورة إلى التوافق مع القانون الأخلاقي - كما في حالة الطاعة لإرادة الله المعرّف بأنه صالح تمامًا - فلا يمكن أن ينشأ هذا الاختلاف المحتمل.

[4] أنظر: الربيعي، د. علي رسول السؤال الأخلاقي الأول:

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/964299-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%80%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-2-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%AC%D8%A8-%D8%A3%D9%86-%D8%A3%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%8B%D8%A7%D8%9F

[5] للحصول على عرض تخطيطي لمجموعة من القضايا والمتطلبات المرتبطة بالموقف الأخلاقي الكامل، انظر:

Rawls, A Theory of Justice (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, Belknap Press, 1971), p. 109.

[6] W. D. Ross, Fo11ndations of Ethics (Oxford: Clarendon Press, 1939)p. 156.

[7] هذا، بالطبع، هو بالضبط منطق استخدام كانط للإيمان بالله كحل لتناقض العقل العملي الخالص. يتضمن جهده هنا استخدام افتراض فوق تجريبي لتجنب حل (لصالح التجربة) للتناقض الواضح بين العقل الأخلاقي وتجربتنا غير الأخلاقية للعالم. بالاقتراض من وصف كانط لـ noumenon (أي كائن واضح بحت)، يمكننا القول، إذن، أن الأشياء الدينية لها "... وظيفة سلبية فقط" ؛ وظيفتهم الأساسية هي مفهوم مقيد "للحد من ادعاءات الحساسية {تجربة الحس]."

Kemp Smith Critique of Pure Reason, tr. Norman Kemp Smith (New York: St. Martin's Press, 1965) p. 272.

[8] قارن هنا توصيف رينهولد نيبور للأسطورة الدينية على أنها تهدف إلى وحدة المعنى في مواجهة تجربة الواقع المتنوعة والمتضاربة. انظر مقالته:

Reinhold Niebuhr, “The Truth in Myths," in Faith and Politics, ed. Ronald H. Stone (New York: George Braziller, 1968), p. 17.

[9] Rudolf Otto,The Idea of the Holy, tr. John W. Harvey (New York: Oxford University Press, 1958), pp. xxi, 5, IO, 180.  pp. 5, 112.

ينتقد أوتو كانط لإهماله "اللاعقلاني" في مفهوم المقدس.

[10] يدافع ألين وود عن كانط ضد اعتراضات مدرسة أوتو من خلال ملاحظة أنه بالنسبة لكانط "الصحة العقلانية لأي حكم تعتمد على قابليته للتواصل العالمي". وبالتالي، فإن عدم اهتمام كانط بروايات المشاعر الدينية، واعتراضه على وجهات نظر الدين المبنية على أساسها الديني، لا يعتمدان على إنكار الواقع المحتمل لمثل هذه المشاعر، ولكن على عدم تبرير الادعاءات المتعلقة بها.

Allen Wood,Kant’ Moral Religion, p. 202.

[11] يذكر فتغنشتاين في محاضراته ومحادثاته حول الجماليات وعلم النفس والمعتقد الديني العديد من الموضوعات التي ميزت الفلسفة التحليلية للدين، بما في ذلك عدم قابلية المعتقدات الدينية للتزعزع، ودور هذه المعتقدات في تنظيم سلوك الحياة (في توفير "صورة" لـ "شكل من أشكال الحياة")، واشتقاقها من "نوع مختلف تمامًا من التفكير" عن ذلك الموجود في العلم. أنظر:

he Philosophical Investigations, tr. G. E. M. Anscombe (Oxford: Basil Blackwell, 1967), p. 266.

للحصول على مناقشة أشمل لمقاربة فيتجنشتاين للدين، انظر:

W. Don­ ald Hudson, Wittgenstein and Religious Belief (New York: .St. Martin's Press, 1975).

R. B. Braithwaite, An Empiricist's View of the Nature of Religious Belief (Cambridge: Cambridge University Press, 1955),

Peter Winch, "Understanding a Primitive Society," in Ethics and Action (London: Routledge & Kegan Paul, 1972 ), Ch. 2,

[12] دون إنكار المساهمة التي قدمها هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيون الذين اهتموا باستخدامات اللغة الأخلاقية، أعاد الفلاسفة العقلانيون مثل راولز وجيرت تركيز الانتباه مؤخرًا على المنطق المحدد وتبرير الأحكام الأخلاقية.

Rawls, A Theory of Justice, pp. 404-7

Gert, The Moral Rules, Ch. 9.

[13] Roger, Rigg Reason and Commitment (Cambridge: Cambridge University Press, 1973), Chs. 2-5,

 

 

في المثقف اليوم