أقلام فكرية

العلمانيّة والإسلام مرة أخرى

لقد قمت بكتابة عدة مقالات عن العلمانيّة متناولها من جوانب عدّة وخاصة في علاقتها مع الدين، ولكن تبين لي أن شدّة التزمت عند الكثير من أصحاب الرأي الديني (السلفي) بفكرهم، جعلهم يقفون وبكل قوة وحزم بوجه العلمانيّة من منطلق جهلهم بالدين ومقاصده أولا، ثم جهلهم بالعلمانيّة ثانياً، ولكونهم هم الأكثر قدرة في السيطرة على عقول الناس المتدينين (استسلاماً وامتثالاً)، لذلك غالبا ما يقومون بتشويه العلمانيّة عند هؤلاء المتدينين وتكفيرها وتكفير حملتها أو دعاتها.

إذن هي معركتنا مع الجهلة الذين لا يقرأون الفكر الآخر، وهم الأكثر جهلاً أيضاً بفكرهم الدينيّ ومقاصده. وهذا ما يدفعني إلى الكتابة عنها في كل مرة أشعر بأن الكتابة عنها واجب أخلاقيّ وعلميّ ومعرفيّ.

في المفهوم:

هي مقولة فلسفية، منلطقها الفلسفيّ، أنها تبحث في عالم الإنسان بمستوياته الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وهي تاريخيّة كونها ليست صيغة واحد من الوعي بعالم الإنسان، أي هي تتطور في مضمونها وشكلها عند التطبيق عبر مراحل التاريخ.

ولكونها مقولة فلسفيّة، فالوعي يشكل الأداة الأساس لها، وخاصة الوعي عندما يمنهج ويتحول إلى وسيلة للبحث عن الحقيقة. لذلك أستطيع القول بكل ثقة: إن العلمانيّة في سياقها التاريخي، تبدأ مع الارهاصات الأوليّة للوعي العقلانيّ النقديّ، الذي راح الإنسان يستخدمه في فهم (القوانين الموضوعيّة) التي تتحكم بآليّة عمل الطبيعة والمجتمع معاً، بعيداً عن أي فكر لا يرتبط بإنتاج الإنسان لخيراته الماديّة والروحيّة، أي بعيداً عن الفكر الناتج عن الذاتيّة والتأمل والحدسيّة والخرافة والأسطورة، رغم أن هذا الفكر ليس بعيداً عن الواقع، أي هو لا يفرخ مجرداً، وإنما ينتجه الواقع المعيش ذاته، ولكن في حالة جهل الإنسان بقوانين حركة وتطور وتبدل هذا الواقع المعيش من جهة، ثم بسبب ضياع الإنسان في منتجاته على اعتباره في سياق إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة معا ينتج علاقات اجتماعية ليس لها حدود ومتداخلة ومعقدة جداً، لا يستطيع الإنسان العادي فرزها وتحديد آليّة حركتها وتكوينها، ومن خلال جهله هذا يلجأ إلى تفسيرها بطريقة أسطوريّة أو لاهوتيّة، وهذا ما يدفعه للاعتقاد بأن ما يحدد هذه العلاقات أو يكونها هو وجود قوى أخرى خارج عالمه الملموس.. خارج حياته اليوميّة المباشرة، وبالتالي هي من يحدد او يفرض عليه أفراحه وأحزانه القائمة في هذه العلاقات الاجتماعيّة. فالإنسان هو من أوجد العملة النقديّة للتداول بسبب تطور العلاقات الاجتماعيّة بكل مستوياته، ثم راحت العملة تتحكم في حياته وقيمته الاجتماعيّة. وعمر بن الخطاب هو من صنع ألهه من تمر، ثم أكله عندما جاع. هذا هو الضياع في المنتجات.

من هذا المنطلق الغيبيّ الأسطوريّ الذي يسيطر على حياة الإنسان، بدأ الفلاسفة يبحثون عن (سر الوجود)، ورغم أن الكثير منهم ولفترات تاريخيّة طويلة استمروا في بحثهم هذا إلى اليوم، غير أن الفكر اللاهوتيّ والميتافيزيقيّ لم يزل يسيطر على بنية تفكيرهم وطرائقها، بيد أن هناك فلاسفة استطاعوا من بداية التفكير الفلسفيّ يفكرون خارج هذه البنية الفكريّة والمنهجيّة، وراحوا يربطون فكرهم بواقهم المعيش، مستخدمين أدوات فكريّة رئيسة على درجة عالية من العقلانيّة للوصول إلى الحقيقة، كاعتمادهم على الحواس والملاحظة، ثم التجربة والعقل، وهذه الأدوات الرئيسة يرافقها أدوات أخرى كالاستقراء والاستنتاج والاستدلال والتحليل والتركيب وغيرها للوصول إلى البرهان.

إن كل وسائل المعرفة العقلانيّة النقديّة هذه هي في الحقيقة وسائل العلمانيّة كرؤية فلسفيّة في فهم الإنسان وعالمه.

لا شك أن العلمانيّة في سياقها العام وفي بنيتها الفكريّة والعمليّة هي مشروع حياة، أي هي تشتغل على بناء الإنسان العقلانيّ الحر في تفكيره وسلوكه وتقرير مصيره في بناء الدولة والمجتمع المدنيين. بيد أن موضوع دراستنا هذه يقف عند موقفها من الدين وعلاقة الإنسان به في حياته المعيشة. أي النظر في أهداف الدين ودوره في حياة الفرد والمجتمع، وأين يصيب وأين يخطئ حملته الاجتماعيين عند توظيفه في هذه الحياة.

أولاً: تقوم العلمانيّة بتحليل الدين والنظر بالدور الذي يلعبه في حياة الفرد والمجتمع.

ثانياً: مدى توافق الجماعات والمؤسسات الدينيّة مع الواقع الذي تتواجد فيه، على اعتبار أن هذه المؤسسات الدينيّة لا يقتصر دورها على الميدان الديني فحسب، بل هي ترتبط بالضرورة بالنشاط الدنيويّ الاجتماعيّ منه والاقتصاديّ والثقافيّ والسياسيّ، وهذا من مقاصد الدين أساساً.

ثالثاً: العلمانيّة تعمل على نزع قدسيّة وتنزيه العالم، أي إبعاد أو تجاهل كل نظرة لاهوتيّة أو ميتافيزيقيّة لا تعطي الظروف الطبيعية والاجتماعيّة مجرها الطبيعي المادي الملموس.

رابعاً: العلمانيّة في أبسط صورها مع الدين، هو فصل الدين عن السياسة، وبالتالي رفض التعامل مع الواقع من منطلق أيديولوجيّة جامدة، تعطى من قبل حواملها الاجتماعيين صفة التقديس، وبالتالي رفض أي تعديل أو الغاء أو مراجعة لنصوصها، إضافة إلى اعتبار الماضي من قبل هذه الحوامل هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل لما هو تال. واعتبار الفكر الوضعيذ فكراً مرفوضاً كونه لا يستمد شرعيته من النص المقدس، وهو بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ملاك القول: إن العلمانيّة في سياقها العام هي انعطاف تاريخيّ في حياة الإنسان، فرضت عليه الضرورة أن يتحول في تفكيره وممارسته من السماء إلى الأرض، أي انتقلت مسألة تحقيق المصير وتحقيق التقدم ونشر العدالة  والمساوة في عالمه من سلطة غيبية إلى سلطة الإنسان ذاته الذي وحده يقف في مركز الكون المحيط به. فالإنسان وفق الرؤى العلمانيّة هو من يعتمد على نفسه، والقادر على تدبير أمور حياته.. وهو الإنسان ذاته المستقل ذاتياً، والقادر على تحقيق نهضته وتسييد فكره التنويريّ. ففي العلمانيّة تحل مملكة الإنسان (المخير) محل مملكة الإنسان (المسير). تحل مملكة القدريّة محل الجبريّة. أي مملكة حرية الإرادة والعقل، بدل حرية الجبر والنقل. وبذلك يسود الفكر التنويريّ العقلانيّ النقديّ في حياة الإنسان ليضبط البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة داخل الدولة والمجتمع.

فعلى مستوى ضبط البنية الاقتصاديّة، يتم هذا الضبط من خلال التقسيم العادل للدخل الاجتماعيّ.

وعلى مستوى ضبط البنية الاجتماعيّة يتم التأكيد على المواطنة والمجتمع المدنيّ في كل ما تقوم عليه الحياة الاجتماعيّة من علاقات، دون إنكار أو إقصاء لمقاصد الدين الأساسيّة التي لا تختلف من حيث جوهرها عن جوهر العلمانيّة فيما يخص حياة الإنسان وعدالته ومساواته وتنميته والدفاع عن حقه في الرأي والملكيّة والعرض والنفس والأرض.

وعلى مستوى ضبط الحياة الثقافيّة يتم التأكيد على الفكر العقلانيّ النقديّ الذي يؤمن بالحركة والتطور والتبدل والنسبيّة، وبالتالي رفض الجمود والسكون والاطلاق. كما يؤمن بأن الفكر نتاج الواقع، وحتى الفكر الدينيّ ذاته جاء أصلاً بسبب علاقات الواقع ولحل مشاكله، لذلك علينا أن نراعي خصوصيات الواقع ولا نقفز عليه تعالياً او انحداراً.

وعلى مستوى ضبط الحياة السياسيّة يتم ذلك من خلال فصل الدين عن السياسية. فالدين عندما تدخل فيه السياسة، أي الحاكميّة، تدخل معه الطائفيّة والمذهبيّة  والحزبيّة، وهنا يتحول الدين إلى وسيلة لتقسيم المجتمع وخلق صراعات داخلية تقوم على تفسير وتأويل النص الدينيّ وفقاً لمصالح من يقوم في هذا التفسير والتأويل، وهذا يدخلنا في ترهات الفرقة الناجية، والحكم على المختلف بالإيمان أو الكفر، وتحديد دار الكفر ودار الإيمان، ومن يدخل الجنة ومن يدخل النار، وكأننا أمام محاكم للتفتيش. لذلك لا بد من ترك الدين بمقاصده الخيرة في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة يأخذ مجراه الطبيعي دون تسيس، فالدين لله والوطن للجميع، والناس يحلون مشاكلهم وفق دولة القانون ومؤسساتها، وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل العربيّ. هذا إضافة إلى إن العلمانيّة تؤمن بالرأي الآخر، وبالمشاركة والشورى أو الديمقراطيّة لا فرق، طالما أن هناك رأياً جماعيّاً ومصالح جماعيّة في اتخاد القرار، ولا مكان لإقصاء الآخر من مكوّنات الدولة والمجتمع، طالما أن هذا المكوّن أو ذاك يؤمن بالوطن والمواطن.

إن من يتابع النص المقدس في القرآن والحديث يجد الكثير من النصوص تصب في خانة العلمانيّة شاء كارهوها أم رفضوا، فالنص يدعو إلى اكتساب المعرفة بالقلم (إقرأ). والدين يعطي الإنسان الحريّة حتى في اختيار دينه (لا إكراه في الدين). والدين يؤمن بالتطور والتبدل في هذه الحياة (سورة أهل الكهف). الدين يقر بدور الإنسان في بناء هذه الحياة فهو (خليفة الله) والناس (أدرى بشؤون دنياهم). وهناك الكثير من النصوص الدينية التي تؤكد على قيم العلمانيّة التي لا تعني كما قلنا الكفر أو الإلحاد.

إن النص المقدس أخيراً يرفع الحرج عن الإنسان. ويوقف التكاليف عند حدود الضرورات التي تبيح المحذورات. ولم يفرض التكليف على من لا حرية وإرادة لديه، إن كانت من داخل الشخص (مرض ما). أو من الخارج. قوة غاشمة مستبدة تمنعه من ممارسة هذه التكاليف بوجهها المقاصديّ الخير.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

في المثقف اليوم