أقلام فكرية

الوجود والعدم في الفلسفة الوجودية

الفلسفة الوجودية الحديثة التي جمعت سورين كيركجورد، سارتر، هيدجر، جابرييل مارسيل، ياسبرز، ومعهم البير كامو، اوجين اونسكو، كافكا، صوموئيل بيكيت من الادباء وغيرهم لم تكن وجودية تحمل نسقا فلسفيا يوّحد هؤلاء الفلاسفة والادباء في رؤية منهجية فلسفية واحدة.

واخترت عبارات سبق  لي كتابتها عن هذا الاختلاف الوجودي:

الاول كان لسارتر قلت فيه: ينكر سارتر أن يكون الوجود في ذاته  وجودا حقيقيا، كما لا يمكنه أن يكون "لا وجودا". والعدم لا يعدم نفسه لكنه يبقى ملازما كل موجود وصولا مرحلة إفنائه. الكلام لسارتر.

هذا التعريف لسارتر حول العدم اثار ارباكا فلسفيا كبيرا. واجده انا صحيحا لا غبار عليه بما يخص العدم الذي قام بتوضيحه سارتر في كتابه الوجود والعدم. لكني اجد في عباراته الفلسفية تناقضا واضحا ان الوجود في ذاته ليس حقيقيا  كما لا يمكنه ان يكون لا وجودا.

سارتر اوضح ان الانسان وجود في ذاته، وجود لذاته، وجود للاخرين. اما الريبة والشك هو هل تمتلك الكائنات الحية ما عدا الانسان وجودا حقيقيا لذواتها او لا وجود لا ينفيه سارتر لعدم امكانية العقل الانساني تثبيت ادراكه بتعبيره ان لايكون (لاوجودا) حسب تخريجنا لمجانبة تناقض سارتر حول الوجود.

الوجود لا يمكن ان يكون حقيقيا بنفس وقت يمتلك خاصية اللاوجود غير المدرك انطولوجيا. لا يجتمع نقيضان يكون الثالث المرفوع بينهما حاضرا اذ لا يصح ان تقول الوجود حقيقيا في تثبيت برهان حقيقته الموجودية في نفس وقت تقول  لا يكون لا وجودا على حد تعبير سارتر.

الوجودية تدعي فهمها الوجود الذاتي بشكل خلاق، فالانسان يخلق نفسه بنفسه من حيث سعيه تكوين ما هيته في كينونة متكاملة. كما تعتبر الوجودية لا فرق بين الذات والموضوع وليس العقل هو الطريق الوحيد في إكتساب المعرفة. ايضا الوجودية تنحاز لمحاربة العقل الذي قاد حسب تفلسفهم الى كوارث بشرية تتقدمها الحربين العالميتين. الوجودية شنت حربها على الحداثة وعلى الماركسية لتتبعها على نفس الخطى الفلسفة البنيوية.

اول بذرة وجودية فلسفية في محاربة العقل والعلم قام بها سورين كيركجورد كي لا يفارق ايمانه الديني الذي عبّر عنه ان مغادرة صرامة العقل بالضد من الايمان الديني يتوجب عليك القفزة نحو عمق الايمان القلبي في تعطيل جذب العقل المادي نحو ما يقوله العلم.. ورغم هذه المثالية الميتافيزيقية فقد كان سورين كيركجورد اول فيلسوف قال ان التطور التاريخي للانسان تتخلله الطفرات النوعية التي اخذها عنه كلا من هيجل ثم ماركس في نظرية جدل المادية التاريخية.

عارض سورين كيركارد العقل كي يتسق نفسيا مع ايمانه الديني، فهو يرى أنه لا يمكن ان نصل لوجود الخالق الاله بوسيلة طرائق الفكر لأن العقيدة المسيحية مليئة بالتناقضات في معاداتها العقل. وبذلك أراد بناء فلسفة وجودية مؤمنة ليس باللاهوت كنص ديني، وإنما أراد وجودية تمزج بين المادي والروحاني في تعطيلهما فاعلية العقل الايماني الميتافيزيقي غير المتحقق. ويتابع سورين كيركجورد كفيلسوف يحترم تفكير المتلقي مهما يكن اختلافه معه في معاداته العلم قائلا: " ان الحقائق والمباديء العلمية التي تلزم العقل بتصديقها – لانه ضرورية وعامة الصدق – لا تلزمني ولا تهزني بما انا وجود فردي وحيد، ولا تجيب عن اسئلتي القلقة عن حقيقتي ومصيري" نقلا عن عبد الغفار مكاوي نقلا عن المصدر الاجنبي.

طبعا هذا التفلسف الوجودي لكيركجارد مقارنة بصاحب الدزاين هناك هيدجر ينفرز ايهما فيلسوف وجودي والاخر متفلسف بلا شيء له معنى. الحداثة اعطت اوربا نظما ديمقراطية تكفل حقوق الانسان بالحرية واشباع حاجاته الانسانية بكرامة ومساواة وتكافؤ. من المؤكد الذي نحاكم به اليوم تورط اوربا وامريكا واليابان وتركيا والعالم اجمع في حروب كارثية لا معنى لها في القرن العشرين لم يكن سببه تطور انجازات العلم في تكنولوجيا صنع اسلحة ابادة جماعية منها القنبلة النووية التي جعلت امم وشعوب العالم يتهددها قلق الفناء النووي.

كيف يتفلسف هيدجر عن الوجود والعدم؟

عمد هيدجر في كتابه الكينونة والعدم إستعماله تعبيرات غامضة لا تحمل أكثر من قشرتها التعبيرية اللغوية مثل قوله " الوجود – في – عالم هو ليس علاقة بين ذات وموضوع". و"الموجود هناك الانسان الديزاين ليس له عمق، بل يأتي من جوف هاوية بلانهاية من العدم" " ونهاية الموجود هناك هو الموت الذي هو نهاية بلا عدم، هو ركض الموت الى العدم، هو المحمول بذاته في داخله نحو العدم"." الوجود الاصيل يكون في الانعزال عن "الهم" الاخرين، وهذا لا يتحقق بقلب العالم ".

كل هذه العبارات وغيرها لهيدجر اهمل العديد من الفلاسفة التصدي لها ونقدها وتوضيح حقيقتها انها هراء يحسب على الفلسفة وهي براء منه ولا معنى فلسفي لها. ولا هو هيدجرنفسه استطاع توضيح عباراته تلك بتفلسف نسقي يحمل المنهجية الفلسفية الوجودية فلجأ امام لا قدرته بالتلاعب اللغوي بما لا حل لمشكلته الفلسفية حظ من القبول انه لم يكن يقول شيئا له اهتماما فلسفيا..

قبل دخولي في نقد صارم لافكار هيدجر المتهالكة التي ضمنها كتابه "الكينونة والعدم" في محاولته مجاراة كتاب سارتر " الوجود والعدم". اتساءل بكل بساطة: كيف يكون الوجود هناك الديزاين (الانسان) ليس له عمق بل (ياتي من جوف هاوية بلا نهاية من العدم)؟ هل هذا تعبير فيلسوف اخذت شهرته تضرب اتجاهات العالم الاربع في حينها؟ كيف يخرج الوجود الانساني من جوف هاوية بلا نهاية من العدم؟ هل العدم يخلق الوجود؟

العدم لا يخلق الوجود بل هو افناء حتمي زمني يلازم الوجود. هل العدم كهف اركيولوجي وهاوية عدمية لقذف الانسان بحتمية ان يولد ويعيش الحياة مترقبا فنائه بالموت؟ كيف يخرج الانسان من هاوية من العدم ليعود الى فناء عدمي ينتظره اخر سني عمره. العدم حسب سارتر لا يتقدم الوجود ولا يتقدمه. انه يزامن الوجود حتى يوصله الفناء العدمي الذي هو الموت.

هل هذا التعبيرالآخر لفيلسوف يحترم مكانته الفلسفية عندما يهذي هيدجر قائلا (نهاية الموجود هناك هو الموت الذي هو نهاية بلا عدم)؟ (هو ركض الموت الى العدم). (ياسلام !!) على هذه التعابير الهذائية باسم الفلسفة. ويمضي الفيلسوف قاهر فلاسفة زمانه هيدجر: الدزاين ويقصد به الانسان هناك هو المحمول في داخله نحو العدم؟ الوجود الاصيل يكون في الانعزال....هيدجر

الدزاين اي الانسان محمول في داخله نحو العدم اسبقية الوجود والفناء لاي منهما الانسان ام العدم؟ اما قوله الوجود الاصيل يكون في الانعزال عن الناس عبارة استهلكت نفسها فلسفيا ولم تعد ذات قيمة فلسفية.

لكن ليس كل انعزال عن الناس غير مرضي يستطيعه بعض الناس يخلق منهم الوصول الى وجود اصيل بالحياة. الم يكن هيدجر هو صاحب مقولة يجب ان يكون الوعي قصديا التي اخذها عن استاذه هوسرل وترجمها هيدجر الوعي القصدي هو الوجود – في – عالم. على حد تعبيره.؟

الوجود الاصيل للاشخاص العاديين لا يكون متحققا في الانعزال عن الاخرين التي هي حقيقة فلسفية تعود جذورها الاولى الى فلسفات الهند والصين وبلاد فارس واخيرا عند فلاسفة عرب امثال ابن سينا والفارابي والكندي وابن النفيس وعند الصوفية الحلاج وابن عربي والسهروردي وابن طفيل وابن رشد وجلال الدين الرومي كل هؤلاء وعشرات غيرهم مروا بتجربة الاغتراب والانعزال عن مجتمعاتهم كفلاسفة فهموا الوجود والانسان بعمق فلسفي لم يجارهم به احد فيه فآثروا العزلة والاغتراب عن مجتمعاتهم.

هؤلاء النخبة لم يكونوا يدعون الناس الى تحقيق وجودهم الاصيل في انعزالهم عن المجتمع. الاغتراب الانعزالي خاصية الفلاسفة والعباقرة والعلماء بلا تعميم وليس خاصية عامة الناس كما يرغب هيدجر في فلسفة فهمه تحقيق الوجود الاصيل بالحياة. 

لا يؤسفني عدم الاعتذار لقاريء لا يدرك مدى ضحالة مارتن هيدجر ممن يمجدون فيلسوف زمانه بكيل من مديح لا يستحقه ليس له بداية ولا يحد بنهاية. يكتب هذا الهراء الذي لا يفرق بين الموت والعدم انهما ترادف لفظي لمعنى واحد.. بأية لغة فلسفية يهرول الموت راكضا نحو العدم. والدزاين – اي الانسان -  هو المحمول بذاته في داخله نحو العدم. هل هذه الفذلكات اللغوية الخرقاء تجري في مارثون رياضي ام في هلوسة لغوية لا معنى لها لو قالها غير هيدجر لما التف لها احد..؟

كل هذا الهراء وغيره افضع موجود في كتاب هيدجر (الكينونة والعدم) الذي اقام عليه الاتباع الامعات والمريدين الشرّاح الدنيا عليه ولم يقعدوها. ولم يجرؤ احدهم القول ان هيدجر في كتابه الفارغ كان يلبس ملابس الامبراطور العارية وهو لا يعلم انهم جعلوا منه اضحوكة بين الناس قطعتها براءة طفل صرخ باعلى صوته لكن هيدجر غبي يهرف بما لا يعرف وليس عنده فكر فلسفي متماسك يحترم ذكاء القاريء. وتمجيده المبالغ فيه من قبل مريدين له منافقين سخفاء ممن ليس له دراية بهراء هيدجر باسم الفلسفة الوجودية.

ردي على هيدجر في مفهوم العدم والوجود

كنت نشرت على صفحتي فيسبوك شذرتي الفلسفية التالية: (الوجود الذي لا يعقبه عدما لا يسبقه عدما والا اصبح الوجود غير موجود) وتساءلت لماذا قال سارتر وهيدجر العدم لا يعدم نفسه. وردني اعجاب ثلاثة او اربعة اسماء هم من النخبة الثقافية العربية الاعزاء بلا تعليق . لذا وجدت نفسي ملزما في رد جميلهم واحترامي وتقديري لهم توضيح شذرتي الفلسفية بما اتصوره انا صاحبها لا بتصور غيري. وهي رد مقارن بين مفهوم هيدجر للعدم ومفهومي الفلسفي له متأثرا برؤية سارتر التي اجدها رغم غرابتها الفلسفية قريبة من الفهم الفلسفي الناضج..

لا يتخلق شيء من عدم، اي لا يتخلق موجودا من عدم يتقدمه. بمعنى لا يمكن خلق شيء من لا شيء. لذا العدم الذي يتقدم وجودا لا يكون ذلك الا ضمن علاقة افنائية حتمية تلازم الموجود ولا تسبقه. فالعدم في ملازمته الكائنات الحية هو دلالة غير منظورة لافناء كل شيء يزامنه العدم غير المدرك الا بعد فناء الموجود الذي يلازمه العدم بحتمية إفنائه. لا ينبثق وجود من هاوية عدم كما في تعبير هيدجر.

العدم لاشيء متعيّن ممكن ادراكه سوى في دلالة خاصيته الافنائية  لموجود فيزيائي او لا فيزيائي ميتافيزيقي، او في ملازمته ظاهرة لا يدركها العقل بغير نتائجها الافنائية للموجودات الحية. العدم هو خاصية الموت التي لا يمكن الانسان ادراكها.

الموجود الذي يزامنه العدم بخاصية حتمية افنائه يكون موجودا فانيا. وهذا الفناء العضوي يمكن ان يكون انحلالا بيولوجيا -  ماديا غير مدرك عقليا. فالوجود الفاني للاشياء ربما يكون انواعا لا حصر لها من السيرورات الحياتية الانتقالية من ظاهرة منحلة لم تعد تمتلك وجودها الصفاتي المدرك الى اخرى مغايرة لها لا تجانسها صفاتها القديمة وبنيتها كاملة التي انحلت منها كاملة بعد ان طالها العدم.

وهذا ينطبق عليه القانون الفيزيائي المادة لا تفنى ولا تستحدث نفسها من عدم. هنا علينا التفريق ان العدم بمعنى الفناء هو العدم بمعنى الموت لا اكثر. لذا من الممكن لفناء الكائن الحي بالعدم ان يبقى محتفظا بمتوالية التحلل العضوي كجسد ميت الى ان يعود الى ذرات يحتويها التراب..

ثانيا لا يمكن ان يكون الشيء موجودا وغير موجود بوقت واحد. فالوجود الذي طاله الافناء بالعدم لا يمكن ان يتكرر وجوده الحياتي مرة ثانية بنفس الصفات والماهية التي ماتت سابقا معه بالافناء العدمي له.

ربما كان نيتشة يفهم العود الابدي يحصل بنفس آلية نهوض الاجداث من قبورها مرة اخرى بنفس صفاتها وماهيتها قبل اندثارها بالموت لتعيش دورة حياة عاشتها سابقا .. وهو ما لا يبقى له اية قيمة الان في الوقت الحاضر كون نيتشة امات الاله فبأي صيغة يكون العود الابدي سوى في تعليق القضية الفلسفية عند نيتشة على مشجب تعليل اعادة دورة الزمان في تعاقبه الوهمي الذي يحمل معه كل مافات واندثر ويعود للحياة ثانية..

الزمان ثبات دائمي في حركة وسكون كل شيء بالطبيعة وحياة الانسان حوله في مركزيته الاحتوائية لكل شيء. الزمان يحتوي كل شيء يدركه العقل ام لا يدركه ولا يحتويه اي شيء. لذا توظيف الزمان على تكرار قيامة العود الابدي حسب فلسفة نيتشة ليست صحيحة مطلقا. ولا يمكن تحققها ابدا. اكثر من انها تهويمات باسم الفلسفة.

لماذا قال سارتر وهيدجر (العدم لا يعدم نفسه ) طبعا من المؤكد ان هيدجر اقتبس العبارة عن سارتر بفارق ان سارتر يعرف جيدا توضيح وتعليل عبارته التي يجهلها فيلسوف الديزاين هناك هيدجر. كون العدم دلالة مزامنة لافناء الموجودات ولا يمكن للعقل ادراكه ولا ادراك آليه تنفيذه الافناء او الموت. لذا من المحال ان تقول لشيء انت لا تدركه انه لا يعدم نفسه او هو يعدم نفسه.

وترجيح ان العدم لا يعدم نفسه هو لأنه لا شيء سوى فناء فماذا يعدم اللاشيء من لا شيئته غير الموجودية وهو لاشيء لا يمكن ادراكه انطولوجيا او حتى لا يمكن ادراكه بالدلالة المستقلة عن موجودات يلازمها إفناءه لها؟ . وهذا ينطبق عليه قولك الموت لا يميت نفسه . فانت لا تدرك ماهو الموت كي تحكم عليه  يميت نفسه ام لا.  كما ولا تدرك آلية موت الجسد وفنائه. لهذا جرى التندر على سقطة هيدجر قوله العدم لا يعدم نفسه بسبب اعتبار الفلاسفة العبارة بديهية ان اللاشيء غير المدرك الا بدلالة الافناء للكائنات الحية هو العدم الذي لا يمتلك قدرة افناء ذاته. والعبارة مقتبسة عن سارتر الذي استطاع المراوغة في معالجتها بمقبولية ملخصها العدم يلازم الوجود فوق ظهره لا يتقدمه ولا يليه.

هنا حسب اعتقادي ارى العدم هو زمانية محدودة تلازم عمر الانسان قبل وفاته لا يمكن ادراكها كقطوعة زمنية مستقلة. وليس العدم بيولوجيا يزامن الوجود جزءا منه غير منفصل عنه.. وطالما العدم ليس عضويا فهو يلازم فناء الانسان بحيادية لا تتقدم حياة الانسان ولا تسبقها. لذا غالبا ما نقرن الموت بالزمن.

فالعدم حسب تعبير سارتر إفناء يركب ظهر الوجود في مسيرته الحتمية بالموت.. بمعنى لا يمكن ان يتقدم العدم الوجود بل يلازمه. كما ينكر سارتر ان يكون الوجود في ذاته وجودا حقيقيا، ولا يمكن ان يكون لا وجودا. والعدم لا يعدم نفسه لكنه يبقى ملازما كل موجود وصولا مرحلة إفنائه. العدم الذي يزامن إفناء الاشياء بالوقت الذي لا يمكن ادراكه الا بدلالة فناء او موت الكائنات الحية يصبح حتمية وجودية ان الانسان هو الفناء بالحياة منذ لحظة ولادته. وهو ما تؤمن به الوجودية بتسليم مطلق.

العدم دلالة افتراضية مغايرة لشيء يفنى اي يموت ونحن لا ندرك الموت الا بدلالة موت الكائنات الحية فقط.. ادراك الزمن في الفضاء الكوني يقوم على دلالة ان جسم ما يتحرك بسرعة الضوء في قطعه مسافة معينة تحددها طاقة ذلك الجسم والكتلة والحجم والاحتكاك بذرات الغازات التي يحتويها الكون.

هيدجر والوجود

يتسم العرض الوجودي لتحقق الذات لدى هيدجر في كتابه (الكينونة والعدم) بالغموض في نحته مصطلحات جديدة غامضة في الفلسفة، وترتّب على هذا الاجتهاد الهيدجري ارباكا من سوء الفهم البعيد عن الوضوح المطلوب. من شطحات هيدجر قوله "الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده" واضح هنا هيدجر لايعتبر تحقيق الذات بمعيارية تعالقها الاختلافي مع ادراكها الموضوع الملازم لها ولا يحققها كبنية مستقلة قائمة متمّيزة.

بمعنى هيدجر يعتبر الانسان كائنا من غير وجود منفصل متمايز عن توزّع وجوده في مدركاته الذاتية كمواضيع تختلف معه بالمجانسة المغايرة وتتحد به في تحقيق ذاتيته الانسانية كينونة مستقلة، هنا يمكننا القول بضوء الفهم الهيدجري أن الانسان هو وجود معطى متحقق غير محتاج إثبات كينونته الذاتية. فهو وجود مدرك بالمغايرة الادراكية للاشياء وعالم الاشياء. بنفس هذا المعنى وأشمل منه تأتي مقولة هيجل (الله هو الوجود) عبارة هيجل هذه لا تشي بتصور صوفي ميتافيزيقي، بل في تقطير وتكثيف عبارته الله هو الوجود الذي يتوزع كل الاشياء وكائنات الطبيعة ويمكن ادراكه عقليا. وأجد بهذا المعنى منتهى المادية وليس المثالية الابتذالية الميتافيزيقية، في موضعة الطبيعة والانسان في وجود الله، ولا توجد موجودات الوجود بذاتها مستقلة بل في ذات تدركها.

يمكننا التعبير بجملة إستنباطية بنفس المعنى حين نقول (العقل هو الوجود) وبذلك لا نكون متناقضين لا مع الله ولا مع الطبيعة المادية للانسان. فما لا يدركه العقل ليس غير موجود في استقلالية مادية، بل تصبح لاقيمة للعقل من غير وجود متعيّن كموضوع يشتغل عليه تفكير العقل. من اروع ما قاله الفيلسوف الامريكي سيلارز عبارته الخالدة التي سبقت زمنها قوله (الوجود لغة). في إحالة تحقق الوجود الى الله دلالة استدلالية في تعميق الموجودات المادية والطبيعة إستقلاليتها الاقتران المباشر وغير المباشر بالله. لا يمكن للذات الالهية أن تكون موزّعة الجوهر أو موزعة الصفات في موجودات وأشياء يدركها العقل في مرجعية وجود الله.. وإلا ترتّب على هذا إمكانية العقل البشري معرفة الخالق في وجوده.

وقد تحاشى اسبينوزا هذا المطب بعبارة فلسفية لم يكن تاريخ الفلسفة يعرف تداولها من قبل هي قوله اننا ندرك الوجود بدلالة اسبقية الجوهر المستمد من جوهر ازلي لانهائي وكلاهما الجوهر باشياء وموجودات الطبيعة والجوهر الازلي الخالق كلاهما لا يدركان عقليا. اذ لو قال اسبينوزا ادراك جوهر الاشياء بالطبيعة يدركها الانسان عقليا لكان التساؤل في امكانية معرفة الجوهر الازلي الخالق بدلالة ادراكنا الجوهر بالطبيعة واردا. كما حين اضاف انشتاين لابعاد المادة الثلاث (الطول، العرض، والارتفاع) هنا جعلنا انشتاين يمكننا ادراك قطوعة جزئية زمنية مستقلة بذاتها من غير دلالة حركة جسم داخلها وهو محال.

فالزمن او البعد الرابع الذي اضافه انشتاين للمادة هو زمن الفضاء الكوني وليس الزمان الارضي الذي اعتبره انا وهما ندركه بدلالة تحقيب تاريخيته وليس بعدم ادراكنا زمانيته . اذا نحن تماشينا بالخطأ اننا باضافة الزمن على المادة في وجودنا الارضي وليس الفيزيائي الكوني انما يصبح بذلك امكانية ادراكنا الزمان بدلالة الزمن الجزئي بالمادة على الارض واردا. اي اننا ندرك الزمن بدلالة المادة خلاف ما اعتدنا عليه اننا ندرك المادة بدلالة زمانيتها.

تعقيب نقدي لهيدجر

اول ملاحظة على فهم هيدجر للوجود أن تذويت الموجودات وإنصهارها في الانسان كوجود وكينونة تعي ذاتها والموضوع لا يحتاج بعدها الى موضوع يغاير به توكيد وجوده. ادراك الذات في تثبيت تعيّن الموجود الانسان لا يتم من غير التفكير بموضوع. ديكارت في قوله انا افكر اذن انا موجود لم يثبت وجوده المادي كفرد مفكر لا يختلف عن عقل الحيوان الذي يفكر ايضا لكن الفرق في نوعية التفكير وبماذا يفكر الانسان وماهي القصدية في وعي الانسان لوجوده في مجرد التفكيرهو ما يجعل اثبات وجود الانسان خاصية عقلية في التفكير الادراكي الواعي لهدفه بخلاف تفكير الحيوان المحدود في ادامة بقائه فقط..

كون الانسان وجود يمتلك مقومات موجوديته الكاملة التي تدخله حسب تفسيرنا لمقولة هيدجر في انفصامية مرضية هي بحث الانسان عن توكيد وجوده خارج وجوده الحقيقي المعطى طبيعيا له، التطابق القائم بين الذات والكينونة، يعني علاقة الذات بالموضوع لا يلغي إنعدام الفروقات الصفاتية غير المتجانسة بينهما رغم حاجة أحدهما الآخر، فالذات بلا موضوع يحقق وجودها لامعنى إفصاحي لها، وكذا المواضيع كموجودات إدراكية لا قيمة تكتسبها في وجودها المستقل سوى بإدراك الذات الانسانية لها.

عبارة هيدجر الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده. الوجود بمعنى الكينونة المتحققة ذاتيا تحتاج تحقيق وجودها الحقيقي بالمغايرة الموجودية (الموضوع). وحسب عبارة هيدجر تحقق الوجود الاصيل للانسان لا يكون إلا ضمن  وجود – في – عالم تؤكد هذه الحاجة ولا تنفي أهميتها.

الانسان لا يحتاج توكيد وجوده الذاتي في وعيه الادراكي بموجوديته الذاتية بمعزل عن معرفة أين يكون وجوده المتحّقق من وجود الآخرين. الاستنكار الذي واجهه كوجيتو ديكارت أنا أفكراذن انا موجود في تحقق الذات الانفرادية بسلبية منعزلة عن المجموع أو عن الكليّة الناسيّة المجتمع إستنسخها هيدجر في تحقيق الوجود في إدراك الذات لذاتيتها المنفردة فقط.

وعي الوجود الضائع الذي يضعه الانسان في جيبه ولا يدركه عقليا، هو وعي الانسان بكينونة متكاملة وإلا يكون الوعي بلا معنى ولا قصدية لاقيمة حقيقية له ترفضه الوجودية ذاتها التي ينتسب لها فيلسوفنا هيدجر.

الوجود الملازم للانسان كظله لا يجعله في غنى البحث عن تحقيق ذاتيته القيمية كانسان في بحثه عن مدركات تعطي وجوده معناه الحقيقي ضمن عالم يعيشه. الوعي القصدي اخذه هيدجر عن هوسرل عن برينتانو في الوعي القصدي الذي اعتمده جون سيرل الامريكي.

الوعي القصدي سلوك نفسي يسير معه الانسان نحو هدف مرسوم ذهنيا مسبقا يراد معرفته وليس ادراكه فقط.الانسان في كينونته الكليّة لا ينقسم الى وجود سايكولوجي منفرد، ولا الى وجود (قيمي) آخر انساني أو أخلاقي منفرد حتى لو جاء على صعيد تباين واختلاف السلوك المجتمعي بينهما. ورغم الإفصاحات السلوكية الانسانية المتباينة عن كلا المحتويين الوجوديين بالحياة.

وفي حال تسليمنا أن الانسان ليس بحاجة توكيد وجوده لأنه هو هو وجوده كما يدعو له هيدجر، فبأي وسيط يمكن للانسان إمتلاك وجوده الحقيقي غير التكويني الملازم له في محاولته إثبات وجوده المتمايز ضمن فعالية مجتمعية تحتويه هو وغيره.؟ بعبارة اخرى بدلالة او معيارية ماذا يمكن تحقق الوجود الاصيل للانسان وهو يعتبر وجوده معطى طبيعي لا يجري التفتيش عن توكيده الادراكي كون ذات الانسان هي وجوده الحقيقي. الانسان ليس موجودا مخلوقا او قذفت به البايولوجيا النسلية نتيجة نزعة وراثية الى العالم من غير ارادة منه يتحدد وجوده الانطولوجي هو ان يدرك ذاتيته والعالم من حوله. تفكير الانسان بوعي ذاته جاءت متاخرة ملايين السنين في اولية تفكير الانسان ليس ادراك الطبيعة بل كي يعرفها ويعمل على التكامل معها من اجل ادامة بقائه وخلاصه من الانقراض الذي كان يتهدده من الحيوانات وشحة الغذاء والتطورات البيئية التي لا يفهم غير التكيف معها.

توكيد الذات لنفسها في موجودية منفردة لا قيمة حقيقية لها بالحياة فألانسان موجود لا يحقق كل رغائبه الفردية بمعزل عن مجتمع يحتويه. فما فائدة عبارة هيدجر لايحتاج الانسان البحث عن وجوده لانه هو هو وجوده.؟ وجود الانسان المادي المستقل بالطبيعة هو معطى طبيعي وليس إكتسابا معرفيا يسعى الانسان تحقيقه لنفسه. ثم ان التحقق في اكتساب الذات لموجوديتها بمعزل عن عالم مجتمعي معرفي يحتويها لاقيمة حقيقية له.

الوجود الانساني الحقيقي الفاعل بالحياة لا يتم بغير إمتلاكه الفعاليات البيولوجية التالية: التعبير عن الحرية بمسؤولية عن حرية الاخرين، إرادة الفعل والحركة في السلوك، السعي نحو هدف قصدي يحتاجه الانسان في تحققه له ولغيره في حياة افضل.

كما ويوجد أمور أخرى عديدة تمّثل خصائص الوجود الحقيقي للانسان. فالوجود الانساني لا يقاس إلا بمعيارية (الفعل) البراكسيس فقط. والوجود لا يعبّر عن أصالته الحقيقية إلا بالعمل وفق الوعي القصدي بالحياة. لا وفق الوعي النرجسي في توكيد انفراد الذات. رغم ان سعي الانسان تاكيد موجوديته النرجسية مشروعة كون حب الذات غريزة فطرية وليست طموحا يكتسبه الانسان في وعي وجوده الاجتماعي.

الوجود الديناميكي للإنسان هو وعي قصدي مدرك أهمية الإمتلاك عندما يكون الانسان مشروع تنمية مستدامة من التطور الفاعل لوجوده. وبحسب سارتر تحقق الوجود المتمّيز الفاعل لا يكون إلا في حالة من التنمية المتصاعدة في تخليق الانسان نفسه بنفسه في إمتلاكه وعيه بالحرية الكاملة، فهي أساس كل إختيار حقيقي في الوجود، كما هي أيضا معيارية أصالة الوجود بالحياة. وممارسة الحرية بمسؤولية لا يكون حقيقيا صادقا بغير وعي الذات لأهميتها في تحقق الإرتباط المثمر بالوجود الانساني في صنع الحياة، لذا الحرية وعي وجودي مدرك بإمتلاء ذاتي ومسؤولية انسانية. وهذا لا يتوفر لكينونة لا تمتلك ذاتيتها الوجودية وتعي إرتباطها بعالم. بتعبير سارتر الانسان محكوم بالحرية ولا يسعى لاكتسابها..

تناقض الوجودية نفسها على لسان هيدجر قوله "الانسان ذاتية خالصة، وليس مظهرا أو تجسيدا لتيار حيوي أشمل منه هو التيار الكوني ". لا أعتقد ونحن نتحدث عن وجود أرضي أن تكون معياريته الحقيقية في ذاتيته الخالصة في تيار أشمل منه هو التيار الكوني.

ولا أعتقد هيدجر لا يعرف الزمن هو إدراك الانسان لوجوده الديناميكي المتواتر، وهذا الإدراك الزمني كتحقيب أرضي هو معيار موجودية الانسان في تحقيق تنميته الانسانية كذات متمايزة غير منفصلة عن محيطها في حالتي المجانسة بالعيش نوعيا داخل مجتمع بشري، وبين عدم تجانسها الماهوي ولا الصفاتي مع موضوعات يدركها في الطبيعة يتقاطع معها.

الانسان كينونة مدركة في تعّين زماني- مكاني غير مفارق لها.، وإدراك كينونة الانسان أو بعض جوانبها الماهوية وخصائصها الصفاتية من خلال إفتراض تعطيل الزمن الإدراكي الذي يحكم قوانين الطبيعة شاملة، هو نفس الزمن الإدراكي الذي يحدسه وعي الوجود الكوني من غير وجود انساني فيه.

الزمن والعدم

ذكرت في اشارة سريعة الى ان ملازمة العدم الافنائي للانسان هي قطوعة زمنية وهمية تكتسب حقيقتها غير الادراكية الحدسية بفناء الانسان بالموت. ولما كان هيدجرلا يعامل العدم بخاصية الافناء الذي يلتقي الموت فيكون الاثنان العدم والموت دلالتين لفظيتان لمعنى واحد.  لا كما حين يقول هيدجر العدم يركض نحو الموت. ارغب الان مناقشة علاقة العدم بالزمن.

سرعة الصوت في الهواء العادي على الارض 340 متر في الثانية، ويبلغ اعلى سرعة له بالفضاء حيث يقدرها العلماء ب63 كيلومتر في الثانية. اما سرعة الضوء فتقدر ب300 الف كيلومتر في الثانية. ولما جاء انشتاين بالنسبية العامة 1915 قال ان الزمن يتمدد وينكمش طرديا مع رصد حركة سرعة جسم داخله في قطعه مسافة معينة. والتمدد والانكماش هما خاصيتي المادة التي يدركها عقل الانسان.

اذن هل اصبح متاحا امامنا ان ندرك الزمان بدلالة خاصية التمدد والانكماش اللتين هما من خواص المادة فيزيائيا.؟ الجواب بالنفي لان الفرق بين مقدار حركة جسم على الارض تقاس مقارنة بسرعة الصوت وليس بسرعة الضوء والفارق بين السرعتين كبير جدا. لذا تبقى احتمالية عدم وجود زمن ارضي حقيقي واردة. والدلالة الارضية للزمان كتحقيب وقائعي تاريخي هي محض اجتهاد للخلاص من فرضية الزمان يحتوي كل شيء وبدلالته الافتراضية ندرك وجود الاشياء.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

في المثقف اليوم