أقلام فكرية

عذراء الموت والنسيان

تتميز بعضُ النساء بـ (أصالةٍ إنسانيةٍ حُرةٍ) داخل أنفسهن. وهن واعيات تماماً بالحفاظ على ذلك المعنى أمام تقلبات الحياة ومُغرياتها، إذْ تشكّل (الأنثى) الأصيلةُ كياناً خاصاً عبر كلِّ إمرأةٍ بالمعنى الإجتماعي. لدرجة أنَّها قد تُفضّل الموتَ على أنْ يُنتهك أيُ كائن آخر خصوصيةَ وجودها. لأنَّ الموت (حالةٌ عابرةٌ) تأخذ معها الحضور المباشر بين الناس، بينما (المعاني والأوصاف) التي قد تُطلق على الأشخاص أشياءٌ لا تنتهي، وستكون موضّوعاً للذاكرةِ مع توالي الأزمنة والأجيال. كما يُقال خلال المواقف الاجتماعية "العار أبقى من الدار"، إذ بالإمكان أنْ ينتقل الإنسان من موطنٍ إلى موطن سواه أو قد يموت فيزيائياً، فينساه الناس، غير أنَّ ما تُلصق به من (أوصافٍ) في حياته لا تموت ولا تُنْسى أبداً!!

سجل القرآنُ موقفاً نادراً بصدد (السيدة مريم العذراء) مُوضّحاً طبيعةَ هذه الأصالة. تبرز إشارة القرآن " إحساساً مريميّاً " كاشفاً لمعنى الإنسان داخل المرأة... حين جاء على لسان السيدة العذراء:"... يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيّاً " (مريم: 23). والإشارة لطيفة لدرجة الإدهاش، لكونها تعبر عن صدق المرأة أمام نفسها، وكيف يفكر هذا الإنسان البريء داخلها؟ عندما تكون المرأة أصيلةً وحرةً، فلن تخاف من أي شيءٍ، هذا بجانب احتمال علاقتها بالسماء والإصطفاء الإلهي. إنَّه (ندمٌ طاهر-شفاف) يدفع بصاحبته العذراء إلى تمني السقوط في الموت والنسيان، بسبب تبعات المسؤولية عن الحمل بإبنها وسط أوضاع اجتماعية صعبة التبرير. كلُّ ذلك جاء تعقيباً على كونِّ مريماً قد شعرت بالمخاض ووُهِبَت من الله غلامٌ زكيٌّ، مع أنَّه لم يمْسَسْها بشرٌ، ولم تكُن بغيَّاً مثلما ورد بالقرآن أيضاً.

حين تمنّت مريم العذراءُ موتاً كان سببه هو الشعور بجوهرها النقي، وكذلك مخافة الافتضاح على الملأ بسبب" وثيقة المخاض"، ومخافةَ أَلَّا تظل خالصةَ الجانب كإنسانة متسقة مع ذاتها. وهذا شيءٌ حميم جداً لإمرأةٍ تريد (مظهراً وجوهراً) لائقين متطابقين أمام قومها. ولا تشعر بهذا المعنى إلاَّ بعض النساء كما لن يفهمه إلاَّ بعض الرجال. ولذلك اتضح تدريجياً أنَّ الافتضاح ليس بالدلالة المعروفة حين تحبل المرأة دون أبٍ، ولكن ظهرت حالة (مريم العذراء) هنا بموجب ميلاد السيد المسيح داخل هذه المرأة خاصةً. ومن ثمَّ، فإنه باعتبار المسيح آيةً للناس (إذ تحدث في المهد كاشفاً السر) وفقاً للرواية القرآنية، جاءت (تبرئة السيدة مريم) على قدر مفاجأة المخاضِ بلا ذكرٍ.

غير أنَّ النتيجة الأخطر أنَّ العذريَّة ليست صفةً نوعيةً لمن لا تتزوج من النساءِ. لكنها صفة إنسانية تعبر عن (تكوين حر) يحافظ على بكارة الأحاسيس وتقدير الذات والنقاء والإحساس الحي بالكرامة وخُلوص النفس وطهراتها. فالمرأة قد تكون عذراءً وإنْ تزوجت، وقد تكون منتهكةَ الخصوصية والآدمية وإنْ لم تتزوج بعد. تمثل حالة مريم شيئاً من هذا البُعد الإنساني. ولاسيما أنَّ الرواية القرآنية تذكر وجود الملاك الذي تمثل لها بشراً سوياً. وقد بشرها بميلاد عيسى بلا أبٍ، وإلى الآن ظلت كلمة العذراء ترتبط بالسيدة مريم في الثقافة الدينية الابراهيمية.

القرآن الكريم عند المسلمين قال ذلك بوضوح على الملأ. لكن: ماذا لو أنَّ قطيعاً رُعاعياً بـ "دوافع اسلامية" افتضح مريماً أخرى تحت نزوع أهوج للانتقام؟! هل سيكون ذلك حكماً بالموت لهذه المرأة؟ لو نتذكر -على سبيل المثال- حالة (الأم سعاد ثابت) الشهيرة، وهي مجازاً بمثابة مريم العذراء الجديدة في صعيد مصر، عندما وقع (حادث تعريتها) أمام الناس خلال شهر مايو2016 في قرية الكرم- مركز أبي قرقاص بمحافظة المنيا. الأم سعاد مرأة مسيحية تبلغ من العمر سبعين عاماً ومعروفة إعلامياً بسيدة قرية الكرم، حيث تعرّت نتيجة تمزيق ملابسها خلال مشاجرةٍ مع جيرانها المسلمين وكشف الغطاء عن إنسانيتها الحُرّة. وقيل في وقتها إنَّ هناك مشكلةً قد حدثت بين الجيران (المسلمين والمسيحيين) أدت إلى ذلك العمل، وأثيرت الأقاويل من هنا وهناك حول الواقعة في لمح البصر. ولكن حسناً انتهت الواقعة إلى ردِ اعتبار تلك السيدة الأم من القيادات الدينية الإسلامية والمسيحية، وكذلك من قبل السلطات الرسمية للدولة المصرية.

وكان الاعتذار الرسمي في مثل هذه الحالات داعياً لمعرفة جوانب الواقعة رغم فرديتها وقد تدخلت فيها عوامل سوء الفهم والتزيد الأحمق من الجيران تجاه بعضهم البعض. وبخاصة أنّ العراك نتيجة الإشاعات التي لا تقف عند حدود اللياقة ولا حدود الأديان في معظم المجتمعات العربية. وربما لو تكررت تلك الحالة أكثر من مرةٍ، فمن الممكن ألَّا تحدث بهذه الطريقة التي تبدو حالةَ عنفٍ طائفي. وقد لا تخرج بهذه الصورة الماكرة (التعرية الجسدية) بين اتباع الأديان في مجتمع مصري محكوم تاريخياً بقيم الجوار والتعايش والتسامح بين الأديان واللحمة الإجتماعية القوية.

لكن السؤال المهم بصدد الواقعة بعد مرور السنوات: كيف يتأتَّى لهؤلاء المسلمين الوقوع فيما يناقض القرآن بصدد قصة مريم العذراء؟!، وكيف يتم ارتكاب ما يناقض الإحساس الإنساني في عدم التعريض بالآخرين دونما ذنب؟ لأنَّ إحساساً أنثوياً بالخصوصية والنقاء هو إحساسٌ نبيل ومستقلٌّ عن غيره من أحاسيس. وليس أنكي من جعله (استهلاكاً فضائحياً) بمبررات الانتقام الاجتماعي، فتتداوله الفضائيات وتلوكُّه الألسن كعقابٍ إجتماعي مرةً بعد مرةٍ.

إنَّ تجريدَ أنثى حرة من ملابسها هو آنذاك جريمةٌ لا يوازيها إلاَّ القتل. لأنَّه بمثابة هتك ما كان حميمياً لامرأة أخرى تحس ما كانت تحس به مريمُ العذراء. حقيقةً يعدُّ هذا الفعل بمثابة: اغتيال على الملأ لشرفٍ مسلوبٍ بعماء ديني ساذج من البعض. فإحساس العذريّة، ذلك الجانب الإنساني الحُر مثلما نوّهت، لا يجوز اغتصابه ولا التشهير به ولا اقتحام خصوصيته في أية إمرأةٍ كانت. وأنه لا يجوز حتى عمل هذا مهما تكن المقدمات المؤديةُ إليه. ولاسيما أنَّ مريماً إبنة عمران قد تمنّت موتاً محققاً نتيجة الإحساس المترتب على ذلك. بالتالي لو ارتكب بعض المسلمين هذا الاغتصاب الشكلي، لكان حكمُ الموت نافذاً بالمعنى السابق على الضحية. لأنَّ الواقعتين- وعلى الرغم من تباعُد الأزمان والمسافات بينهما- تشرح إحداهما الأخرى: (مخاض مريم العذراء) وتعرية (الأم سعاد ثابت) . الأولى كانت بفعل إلهي كما يقُول القرآن (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ (مريم 23)، بينما الثانية جرت بفعل غرائزي غوغائي نتيجة العراك بين الجيران.

وبالتالي سيُؤثِّم القرآنُ كلَّ من يقذف المسيحيات الصائنات لأصالتهن الحرة. فلئن كانت أمُ المسيح لها تلك المرتبة في تاريخ النساء، وقد رفعها القرآن مكانةً سامقةً بسورة مخصوصة (سورة مريم)، فهذه حجةٌ دائمةٌ على مرتكبي الأفعال اللا أخلاقية تجاه أتباع (مريم العذراء) سلوكاً وموقفاً. والمنطق الذي أشارت إليه العذراء بالموت والنسيان كان خطاباً لكل النساء الحرائر. كأنَّه إنذار مبكر جداً منذ ميلاد المسيح إلى حادثة تعرية الأم سعاد أو غيرها من النساء فوق رؤوس الأشهاد.

وكأنَّ بعض المسلمين المتهورين بالمقابل يكَّذبون القرآن إزاء أمِّ السيد المسيح. ويضربون عرض الحائط بقصة العذراء في دلالتها الكلية تجاه الإنسان. ومنها أنَّهم جُهلاء جهلاً مطبقاً، لا بما يقول القرآن فقط، لكن حتى بنظرتهم العنيفة تجاه المسيحيين. وهذه معضلة يعاني منها أغلب المسلمين في دول العالمين العربي والاسلامي. إذ يضمرون كُرهاً للمسيحيين وغيرهم بثقافة اقصائية مؤسسةٍ تراثياً على التكفير، ترجع إلى شيوع خُطب وأقوال دينية عدائية في الثقافة المتداولة. ولكنها أخذت في التسارع بفضل تواجد الجماعات الاسلامية التي كانت تعتبر (غير المسلمين) وقوداً لتقوية نفوذها وانتشارها بين الناس. وبعض المسلمين فَعّلُوا ذلك العداء سرّاً وعلانيةً في حينه بصدد (الأم سعاد ثابت) عندما انجرفت الجموع وراء انتقامهم الجهول لعلاقة آثمة أخلاقياً كما قيل بين فتاة مسلمةٍ وشاب مسيحي. وكانت الضحية هي أمٌّ مسنة طاعنة في العذرية رغم كبرها ورغم وجود أحفادها بين الناس.

وذلك يعني أنَّ تعرية جسد الأم كان تنكيلاً شرساً بهذه السيدة العجوز لمجرد الإشاعة المُشار إليها بين الفتاة المسلمة والشاب المسيحي. وقد تكون الإشاعةُ إشاعةً كاذبة بالمرة ولا أساس لها من الصحة. بيد أنَّ (سلوكاً جمعياً) لدي بعض المسلمين يولّد كيانات عامة كما لو كانت ظواهر حقيقيةً. وتلك صفة ليست فقط مرهونةً بالمواقف نحو حدثٍ ما، بل كذلك تتعين في المجال العام سياسياً واجتماعياً. والدليل أن أفراد التنظيمات الجهادية كثيراً ما وضعوا أنفسهم ندّا للدول والأنظمة السياسية لمجرد اعتقادهم بضرورة إقامة دولة الخلافة. ومن الحظ العاثر أن الأم سعاد ثابت كانت موضوعاً أخلاقياً لهذا العمل المُشين. فليس أقرب من سب امرأة وجعلها مادة لتصفية الكراهية العالقة في الثقافة الموروثة منذ أزمنة غابرة.

ورواسب التاريخ تثبت أنَّ المغاير عقيدياً في المجتمعات الإسلامية كان علامةً اجتماعيةً في حدِ ذاته. لقد حرص بعض المسلمين على ترك علامات جسدية عليه مثل: حلْق الشعر وزنار الوسط والأزياء ذات الألوان المميزة كما جاء في وثيقة (العُهدة العمرية) . فقد أبرزت الوثيقة في عهد عمر بن الخطاب مظاهر معينةً يلتزمُ بها المسيحيون رهباناً وقساوسةً وأناساً عاديين لأجل تمييزهم وحمايتهم. ولقد وردت العهدة في كتب التاريخ بأكثر من صيغة ونص، وتتراوح من نصوص قصيرة ومقتضبه كنص اليعقوبي ونص البطريق وابن الجوري، أو مفصلًّة كنص ابن عساكر ونص الطبري ومجير الدين العليمي المقدسي ونص بطريركية الروم الأرثوذكس. قد ذكر ابن القيم الجوزية الشروط العمرية في كتابه (أحكام أهل الذمة) وهو ما سأفصلة تباعاً لتوضيح جوانب المسألة. ولكن الأغرب مبدئياً أنْ تأتي شروط العهدة العمرية على لسان المسيحيين أنفسهم. حتى قيل إنهم من طلبوها وكتبوها إلى عبدالرحمن بن غَنْم والي عمر بن الخطاب على أهل الجزيرة قائلين له.

"حين قَدِمت بلادنا، طلبنا إليك الأمانَ لأنفسنا، وأهل ملتنا على أنّا شرطنا لك على أنفسنا: ألاَّ نحدث في مدينتنا كنيسةً، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاّية (بناء كالدير)، ولا صومعةَ راهبٍ، ولا نجدد ما خُرِّب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وألَّا نمنع كنائسنا من المسلمين أنْ ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشا للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليبا ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً - والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين (عيد للنصارى)، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألَّا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألَّا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألَّا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشدُّ الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في مجالسهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا في تجارة إلاَّ أنْ يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيامٍ، ونطعمه من أوسط ما نجد. ضَمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق". (ابن القيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، الجزء الثالث، حققه وعلق عليه يوسف بن أحمد البكري وشاكر بن توفيق العاروري، رمادي للنشر، الدمام، السعودية، الطبعة الأولى 1997. ص ص 1159- 1960) .

علينا إعادة قراءة هذه الوثيقة وشروطها ومرجعيتها كنصوصٍ تراثيةٍ وتتبع المفاهيم والتصورات الدينية التي تستبطنها بشكل نقدي صارم حتى نفيد منها في تدعيم ثقافة التعايش.

وفي هذا الصدد سنُلاحظ ما يلي:

1- أنَّها وثيقة تحمل املاءات قاسيةً جداً بشكل أو بآخر، واتضح من خلالها ممارسة الهيمنة والغلبة على أهل الأديان الأخرى. وقيل يجب أنْ نفهم كونِّها شُروطاً في سياقٍ من السياقات. لكن كيف لمنْ هم تحت الإشتراط (المسيحيين) يضعون على أنفسهم شروطاً (بحرية هكذا أو يفترض ذلك) ؟ لقد أقرَّها عمر بن الخطاب وأضحت الوثيقة واجبةَ النفاذ كما هي، ثم عممها على كل نصارى الشام كذلك (المرجع السابق، ص ص 1161- 1162) . ونحن نعرف أنَّ منطقة الشام كانت تشهدُ أكبر تجمعات المسيحيين آنذاك بحكم التراث المسيحي، وبحكم مولد المسيحية في فلسطين وانتشارها من تلك الرقعة الجغرافية إلى مجتمعات العالم.

2- لماذا كانت الشروطُ شاملةً لكل هذه الاجراءات الدينية والأمنية بلغةٍ معاصرةٍ. ومعها ظهرت جميع القيود الثقافية والاجتماعية وحدود الحياة اليومية والاقتصادية. إنَّ الوثيقة من تلك الجهة تحتاج إلى (تفسيرات بيئية) توضح: لماذا جرت بتلك الصيغة، وكيف تم ذلك الوضع وهل كانت تلك الوثيقة لأسباب اجتماعية وسياسية أم لأسبابٍ دينية؟

3- الشروط المذكورة تمسُ بصورة عنيفةٍ كل ما ينتمي إلى الديانة المسيحية، وجرى التطرق إلى المسيحيين كنسيجٍ اجتماعي واحد. فقد تدخلت العهدة العمرية في حركة الدين المختلف ومظاهره وطقوسه خلال الأعمال اليومية لا الخطوط العامة فقط.

4- أسست تلك المعاني القديمة المتوارثة إلى ضرب وحدة المجتمعات راهناً، لأنَّ المجتمع المعاصر بحسب كل القوانين والأعراف والأديان يعيشُ على الحقوق والواجبات المشتركة لا الهيمنة، وعلى المواطنة لا الراعي والرعية، وعلى العدالة والمساواة لا الأقليات. فإذا كانت المسيحية ثقافةً، وهي جزء لا يتجزأ من الثقافة الشرقية (موطن الاسلام ونشأته وفهم علاقاته بالأديان الأخرى)، ناهيك عن كونها ديانةً من عنقود الأديان الابراهيمية، فكيف تتعايش اجتماعياً على نحوٍ حر بعد تجربة التغطية الأولى هذه. تلك التغطية التي تعبر عنها العهدة العمرية أدق تعبير، وبخاصة أنَّ هناك حتى اليوم من يري ضرورة التعامل مع المسيحيين كما تعامل الخلفاء الراشدون معهم؟!!

5- ثمة تعارض صارخ لهذا الاستشراط (الشروط تحت التهديد) مع آيات قرآنية صريحة..." من شاء فلْيُؤمن ومن شاء فليكفُر"..." وجادلهم بالتي هي أحسن "..." ولتجدَّن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأنَّ منهم قسيسين ورهباناً وأنَّهم لا يستكبرون".

6- ترسّخ الشروط استبعاد أصحاب الديانة المسيحية من دائرة التفاعل الاجتماعي، ناهيك عن التفاعل السياسي بالطبع. وإذا كان ذلك بالنسبة للمستوى السياسي، فما بالنا بردود أفعال الناس العاديين؟!

7- تحُول الشروط السابقة دون تطور المجتمع. لأنَّها تحجب نصف قوته كما في بعض البيئات العربية التي يوجد بها مسيحيون أو على الأقل تعطل الكتلة الفاعلة ثقافياً واقتصادياً لهم. فأين طاقات التسامح التي لا تفرق بين عناصر المجتمع على أية شروط مسبقة؟ وأين ثمرة تلك الطاقات التي يفترض أن تعم على الجميع؟!

8- لا قيمة فعلية لمصدر هذه الشروط، سواء أكان المصدر مسلمين أم مسيحين، لأنها تتجاور فكرة الحق التي تعاملت بها الشريعة الإسلامية مع أهل الأديان الأخرى. كما أن هذه الشروط أوامر تأخذ صفة الالزام المجحف، حتى وإن ارتضى بها أصحابُها. فالمفروض، بل الواجب على اصحاب السلطة والسيادة (المسلمون) حماية الفئات الأضعف لا إظهار القوة والشكيمة. والاسلام دائماً تظهر قوته الحضارية لا من باب ممارسة الغلبة، بل تتجلى تاريخياً من الإعتراف بكافة العناصر والأديان والطوائف وإعطائها مساحةً من الحركة والتطور.

إنه لا مبرر لشروط العهدة العمرية إلاَّ أنْ يكون المجتمع في حالة حربٍ وصراعٍ. وحتى على هذا المستوى، فإنَّها تمثل عنفاً بعيد الأثر إزاء كل تنوع ثقافي وبشري ممكن. ليس نموذج الإنسان (كإنسان كوني) منْ يميز الآخر باللون والعرق والمعتقد والشكل. فهذا تدخل قسري فيما لا يملكه المسلم في أي عصر من العصور، حتى ولو كان حاكماً تحت سماء الله. وهو بذلك يجعل الدين الإسلامي مطرقةً سياسية تهوي على رؤوس المسيحيين فضلاً عن أهل الأديان الأخرى.

إن هذه العلامات الثقافية الموضوعة لمختلفي الديانة تعد نوعاً من الدمغ (الختم) للإنسان بوصفه منبوذاً. الأمر أشبه بعملية (سك العملة) التي تعبر عن هيمنة السلطة وقوتها النافذة. على الأقل تمثل العلامات إشارات تحذير لا مناص منها. وأنَّ على المسلم إذا قابل هؤلاء المختلفين دينيا أنْ يبطن لهم غير ما يظهر، وأنْ يأخذ حذره ويتوجس خيفةً إزاء أعمالهم. وفي المقابل تكون هناك دعوة مفتوحة على مصراعيها لأهل هذه الأديان للتعامل بالمنطق نفسه. وبالنتيجة سيكون الحصاد صراعاً يتأجج من حين لآخر دون داعٍ.

الحادث الآن هو: استمرار جوانب الحياة العربية الاجتماعية التي تخفي قمعاً دون حدود تجاه بعض أهل الأديان الأخرى، إتصالاً بهذه الموروثات التي لم تنتقد ولم تكشف بوضوح. في الأمثال الشعبية هناك عبارات غريبة مثل: "صباح القرد ولا صباح القسيس"..." يا كنيسةِ الربّ اللي في القلب في القلب "..." قالوا يا كنيسة اسلمي" ..."جوازة نصرانية لا فراق إلاَّ بالخناق" (أحمد تيمور باشا، الأمثال العامية، مطابع دار الكتاب العربي القاهرة الطبعة الثانية 1956، ص ص 59، 180) . وهذه الأمثال حين تُحمّل بثقافة شائعةٍ، فلا تقل بأي حال من الأحوال عن (منطق الفضيحة) .

وبخاصة أنَّ أعنف ازدراء هو ازدراء اللغة. لأنَّها ميراث دلالي يعاود الحضور على صعيد المواقف بشكل شبه يومي. وهو يتغلغل في كافة الأوساط الشعبية وغير الشعبية. وإذا كانت بعض العورات الحسية علامات على الفضائح، فإن عورات المعاني القاسية ستظهرها عورات اللغة العامية دونما توقف. فالأمثال لا تُطلق في هذا الصدد على المسيحيين تحديداً، بل ستجري كذلك في أيّة مناسبة ينطبق عليها المعنى. إنها تؤكد تعميم النمط الثقافي السائد تجاه المواقف المشابهة من أهل الأديان. وهذا أنكَّى و أمَّرْ، إذ سيظل المثل الشعبي مجتراً لرواسب المعاني (وهو إزاء المسيحيين) في كلِّ حالة أخرى. فيقر لدى متداولي الخطابات الثقافية كون النموذج المسيحي محقَّراً سواء أكان موجوداً أم لا. حتى يتعيّن على المتلقي الاعتقاد بازدراء المسيحي فعلياً هنا أوهناك.

بينما الإسلام كمرجعية حضارية وروحية لا يقر ذلك على الإطلاق من قريب أو بعيد. بل الإسلام كعقيدة يهمه في المقام الأول خلوص الاعتقاد ونقاء القلب وسلامة السريرة من غير إدخال الآخرين في الموضوع، أي لو أن المسلم أتي بكل أعمال الخيرات وبدت للآخرين أنَّها كذلك من دون سلامة القصد والنية والمسار، فلن تجدي هذه الأعمال فتيلاً. لسبب بسيط أنها تمثل مظهراً فارغ المضمون، وأنها نوع من الممالأة حيث لن تقوى أمام أية مواقف ولن تسنمر في نتائجها الإيجابية. هذا هو قانون الإسلام: أنَّ النفاق سيعري الباطن قصر الوقت أم طال، لأنه عمل بلا أساس حقيقي.

التعامل العنيف تجاه أهل الأديان في بعض المجتمعات العربية الاسلامية لا يتم على أيٍّ أساس من المواطنة ولا الإنسانية. لأنَّ بعض المسلمين في وقائع التعرض لأهل الأديان يتصيَّدُون الآخرين كفرائس عاريةٍ على الملأ بحكم أغلبية اتباع الإسلام. وبالطبع ستكون المعالجة أسوّأ من قبل الناس العاديين ومن قبل السلطات الرسمية. إذ ينتشر تعبير"الفتنة الطائفية" لمناقشة القضية أو بالأحرى لإغلاق ملف القضية بختم فوري. وهذا المصطلح (سيء السمة) إلى درجة التواطؤ الاجتماعي -السياسي. لأنَّه تعبير لا محل له من الإعراب الاخلاقي ولا الإنساني. ولأول وهلةٍ هو مصطلح يُميّع القضية من جذورها حتى منتهاها. ولا يكشف عن الجذور والأبعاد الحقيقية للمشكلة والتي تراكمت تاريخياً وظهرت في غير حالةٍ. إنَّ مصطلح الفتنة مع بعض المشكلات بين أهل الأديان نوع من ترك المسؤولية عائمة دون محاسبة المشاركين في تأجيجها. كما أنه يفترض عبث أيدي خفية غير معروفة وستستمر مجهولةً، بينما المفترض كشف هذه الأيدي ومعرفة من يحركها حتى نعالج جذور المشكلة. والمنطق نفسه وراء مصطلح الفتنة الطائفية يحاول القول: ليصمت الجميع فنحن مهددون في وجودنا الاسلامي- المسيحي. وأنَّه لا إمكانية قريبة للعلاج الفعلي على أساس القانون والحقوق الإنسانية بخلاف أيّة أسس أخرى. كلُّ فتنة إذا ما دخلت من الباب، سيهرب الفاعلون الحقيقيون من شباك المجتمعات. ولذلك ما لم نعالج ثقافة الكراهية والعنف، ستبقى القضايا معلقة في فراغٍ سديمي وصولاً إلى زمن اشتعال قادمٍ.

***

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم