أقلام فكرية

التحديات السياسيّة والدينيّة للحداثة في عالمنا العربي

إن المجتمعات البشريّة عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، لا تقف عند حدود ثابتة، بل هي في حالة تطور وتبدل دائمين. وهذا التطور والتبدل الدائمين يفرزان بالضرورة معطيات حياتيّة جديدة لم تكن موجودة في السابق، تطلبتها حاجات الناس المتنامية، وأن هذه المعطيات تحمل في جوهرها ما يسمى الحداثة التي تفرض على المجتمع أن يُطَبِعَ حياته معها، إن كانت من نتاجه هذه الحداثة، أو من نتاج مجتمعات أخرى فرضتها ضرورة التواصل الحضاريّ مع الشعوب الاخرى وحاجات الناس الماديّة والروحيّة التي لا تنضب.

إذن الحداثة أو العصرنة هي كل جديد من العلاقات الاجتماعيّة التي يكونها الإنسان عند إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة عبر مراحل التاريخ، ممثلة في مفردات علاقاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والأخلاقيّة. وهذا يتطلب بالضرورة التطبيع مع هذا الجديد من قبل المجتمع، وبالتالي فكل مقاومة لهذا الجديد (الحداثة) هي ليست أكثر من محاولات إرادويّة أو ذاتويّة ستفشل آجلاً أم عاجلاً، لأن الحداثة تولدها حتميّة التاريخ.

من هذا المنطلق المتعلق بالحداثة وحتميتها، تأتي المحاولات الفاشلة الرامية إلى إيقاف عجلة التاريخ، فكل جديد لا يمكن أن يكون بدعة كما تقول القوى الأصوليّة السلفيّة الرجعيّة، ولا يمكن للأنظمة الاستبداديّة عدوة الحداثة منع ظهورها أيضاً، بل إن كلا القوتين الأصوليّة الرجعية والأنظمة الاستبداديّة قادرتان على عرقلة الحداثة إلى حد ما، وهي بعملها هذا كمن يحفر قبره بيده.

من هذا الموقف المنهجيّ تأتى محاولتنا هذه لتبيان الدور السلبيّ الذي تمارسه القوى السياسيّة المستبدة والدينيّة السلفيّة الرجعيّة الموالية لها في الأنظمة الشموليّة لعرقة الحداثة والحد من تبيئها في عالمنا العربي.

المواقف السلبيّة للسياسة والدين في دول عالمنا العربيّ من الحداثة:

‏يقول المثل الشعبيّ إن الناس على دين ملوكها أو حكامها، فإذا كان الحاكم تنويريّاً، وتهمه مصلحة شعبه، فهو يسعى جاهداً لتكريس قيم الحداثة الايجابيّة في دولته ومجتمعه الماديّة منها والروحيّة بكل مفرداتها من علمانيّة وديمقراطيّة وحريّة للرأي، وتكريس لفكرة المواطنة، ودولة المؤسسات، واحترام المرأة ودورها ومكانتها في المجتمع، ونشر التربية والتعليم، والثقافة التنويريّة العقلانيّة والعمل على تطوير البنيّة الاقتصاديّة والسياسيّة في دولته ومجتمعه. والعكس صحيح أيضاً، فعندما يكون الحاكم مستبداً وتملكه شهوة السلطة، فهو يسعى جاهدا إلى نشر الجهل والتخلف بكل أشكالهما بين صفوف شعبه، كما يمارس التسلط على رقاب أبناء هذا الشعب، من خلال تحكمه بالسلطة والتفرد بها، ومحاربة الرأي والرأي الآخر، وتغييب فكرة المواطنة على حساب تسييد سلطة العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب الواحد والعسكر والفاسدين من المطبلين والمزمرين، مثلما يعمل على نشر الفكر الدينيّ الغيبيّ الامتثاليّ الاستسلاميّ الوثوقيّ ورجالاته الذين يرفضون قيم الماضي ويعتبرون أن الأسلاف لم يتركوا شيئاً لأخلاف. فلو أخذنا مثالاً واحدا من أجل تأكيد هذه الفكرة في عالمنا العربيّ، مع تأكيدنا على نسبيّة القيم التي يتبناها هذا الزعيم أو ذاك ومدى قدرته على تطبيقها في الواقع. ففي مصر على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن ما أسس له "جمال عبد الناصر" في فترة حكمه من قيم ذات توجه علمانيّ حداثي طال الكثير من بنية الدولة والمجتمع، وما قام به يختلف كثيراً عما اشتغل عليه أنور السادات بعد استلامه دفة الحكم، حيث تصدى للقوى التنويريّة، وفسح في المجال واسعا لنشاط القوى الإسلاميّة الأصوليّة السلفيّة التي لم ترضها سياسات السادات نفسه، فراحت تطالبه بأسلمة الدولة نهائيّاً. بيد أن نسبة كبيرة من الشعب بعد سقوط السادات وقفت ضد العقليّة الإخوانيّة السلفيّة ممثلة بـ (الإخوان المسلمون) وأسقطت مشروعهم السياسيّ في مصر. بفعل قوة الحداثة التي لم تمر مرور الكرام في عقولهم. وهذا ما جرى في تونس أيضاً عندما أسقط الشعب النظام الشموليّ الاستبداديّ الفاسد ووصل الإخوان إلى السلطة، وقف الشعب ضد مشروع الإخوان الرافض للحداثة وأسقطوه في الساحة السياسيّة.

من هذا المنطلق تأتي مقولة عثمان بن عفان ("إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".). صادقة تماماً في تطبيق قيم الدين وشريعته، أو تطبيق قيم الدولة العلمانيّة الحداثيّة ومؤسساتها أيضاً. بيد أن قيم السلطان المستبد وكل القوى المناوئة للحداثة لن تستطيع أن تقاوم تطلعات وطموحات الشعوب نحو الحريّة والعدالة والمساواة، هذه الشعوب التي تتشرب بالضرورة قيم الحداثة بشكل يومي، بغعل ما تفرزه الحياة من مستجدات الحداثة أثناء إنتاجهم لخيراتهم الماديّة والروحيّة معا، أو لتأثرهم بالعالم الآخر الأكثر تطورا.

على العموم يمكننا القول: إن الحداثة بكل مفرداتها تفرض نفسها شيئاً فشيئاً حتى على الأنظمة الأكثر قهراً وحصاراً لشعوبها، والحداثة في سيرانها أو جريانها داخل المجتمعات، تشبه برأيي جريان الماء تحت أساسات البناء السيئ، ربما لا تظهر نتائجه لسنوات طويلة، ولكنها تظهر فجأة وبمساحة واسعة لتهدم هذا البناء المتهالك، وهذا ما يحدث في حياة الشعوب عندما تصل الحداثة في اختراقها بنية المجتمعات المتخلفة والمتهالكة، إلى أن تصل في درجة تحولاتها الكميّة إلى حالة التحولات النوعيّة. أي إلى تلك التحولات الثوريّة النوعيّة العميقة في حياة الشعوب، والتي قد تأتيّ لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة، وأن الأكثر نضوجا في هذه التحولات هي التي تأتي وراءها كل هذه الأسباب. فهذه المملكة العربيّة السعوديّة تقدم لنا مثالاً حيّاً عن تلك التحولات التي فرضتها الطبيعة السياسيّة في بنية الدولة مع مجيء وليّ العهد "محمد بن سلمان بن سعود"، الذي استطاع بقرارات سياسيّة شخصيّة لها طابع سلطويّ أن تُظهر كل المستور من قيم الحداثة لدى الشعب السعوديّ فجأة، بعد أن كان هذا الشعب مكبوتاً في حريته وإرادته ورغباته والتعبير عن شخصيته بفعل المطاوعة تلك الأدوات السيئة بيد القوى الدينيّة الوهابيّة السلفيّة والقوى السياسيّة المستبدة معا.، فها هو الشعب السعودي يمارس الحداثة اليوم في الكثير من تفاصيلها الاجتماعية والثقافية بكل مستوياتها، وخاصة الاجتماعيّة منها بحريّة، (بغض النظر عن مدى توافق هذه الحداثة مع قيم الحداثة العقلانيّة) في جوهرها، وهذا دليل على أن الشعوب تعشق الحداثة والتغيير، وهي قادرة على ممارستها عندما تسنح لها الفرصة وَتُوَجَهُ إلى الطريق الصحيح من قبل الحاكم. ولكن الأنظمة الشموليّة المستبدة ومشايخ السلطان هم برأيي من يعرقل تطبيقها وتقدمها في حياة الكثير من مجتمعات دولنا العربيّة، التي تحاصر الحداثة أمام فسح المجال واسعاً للقوى الأصوليّة وفكرها الظلاميّ، ولكل تافه وسطحي من أوجه الثقافة الوضعيّة كي ينشطا بحريّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

 

في المثقف اليوم