أقلام فكرية

هيجل ومستويات الأخلاق

ان الأخلاق التي نراها والتي يتم التعبير عنها بالاحترام المتبادل للحقوق بين الافراد، هي فقط تعبير محدد عن البعد الاوسع والأعمق للاخلاق التي يسميها هيجل "الحياة الاخلاقية". الحياة الاخلاقية هي نظام من القواعد والاعراف التي تنتمي لهيكل اجتماعي، وتشمل مجالات التفاعل والترابط الاجتماعي التي يشترك فيها كل الافراد. واذا كانت الاخلاق تدفع الافراد بعيدا عن ما هو كائن باتجاه ما ينبغي ان يكون، فان الحياة الاخلاقية هي بالضبط ما هو كائن،اي، مجموعة المعاني والممارسات التي ترشد الناس في نشاطاتهم اليومية سواء كانوا واعين بها ام غير واعين.

ان الحياة الاخلاقية تتجسد في ثلاثة مستويات هامة من الحياة الاجتماعية. في شكلها الاكثر بساطة، هي تتجسد في العائلة وتجد تعبيرات لها في العواطف الاساسية مثل الحب والايثار. وفي المجتمع المدني، يتطابق مجال التفاعل الاجتماعي مع الحياة الاقتصادية او "نظام الحاجات".

المجتمع المدني يشرك الافراد باعتبارهم اصحاب حقوق مطلقة، مثل ذوي الملكية واصحاب الحقوق القانونية. في المجتمع المدني يرتبط الافراد بالاخرين وفق صيغ عالمية عامة. واذا كانت الملكية الخاصة كأساس للحق المطلق والاخلاق كقوة ايجابية في تعزيز الحرية الفردية، فان المصالح المادية الفردية مثل السعي وراء المردود الاقتصادي، هي ربما تزعزع استقرار المجتمع. واذا تُركت بلا رقابة، فان هذه القوى المزعزعة للاستقرار تميل لتقسيم الانسانية الى اغنياء وفقراء.

الفردية في الاكتساب المادي الخاص ايضا تُضعف من التعبير عن الروابط الاجتماعية الاساسية والثقافة المشتركة التي تحافظ على تماسك المجتمع. لابد من وجود مؤسسات معينة كي تمنع نظام الملكية الخاصة وما ينطوي عليه من رؤى فردية من اضعاف المجتمع ذاته. اما الحكومة فهي الى جانب ما تقوم به من توفير البنية التحتية الاساسية والحماية من الجرائم، يجب ان ترسخ وتحمي المجتمع من الفردية الاقتصادية، وتضمن الحماية لمن لا يملك الملكية او العمل.

المؤسسات المشتركة مثل النقابات واتحادات العمال، يجب ان توجد ليس فقط للعناية بالحاجات الاقتصادية للعمال والتجار وانما لمنحهم الشعور بالانتماء والارتباط بالكل الاجتماعي الذي هم جزء منه.

بعد العائلة والمجتمع المدني نأتي الى الشكل الثالث الأرقى والاكثر اهمية للحياة الاخلاقية وهو مؤسسة الدولة. الدولة هي الوسيط الذي من خلاله يدرك الافراد موقعهم في الحياة الاخلاقية للمجتمع، كأجزاء ضمن كل أعظم. الدولة هي تعبير عن روح تتكشف في التاريخ عبر التطور الديالكتيكي، واذا كانت الأشكال المبكرة للدولة هي تعبيرات غير تامة للروح الجمعية، فان الدولة الحديثة تطورت كتكيف عقلاني لهياكل الحياة الحديثة. وفي ضوء صورة الفرد العالمي وظهور الفرد المتمتع بالاستقلال الذاتي، تعمل الدولة الحديثة كأعلى شكل من المؤسسة الجمعية، لدمج هذه الرؤية للحرية الفردية والاستقلال مع التمجيد العالي للروابط الاجتماعية المشتركة كي تمنع هاتين النزعتين المتضادتين من تمزيق وحدة المجتمع ولتسمح للحرية والحقوق ليعيشا جنبا الى جنب ضمن تعبير كامل عن الروح الجماعية.

ان فلسفة الحق هي اكثر أعمال هيجل إشكالية، ذلك ان العديد من القراء عارضوا ما نسبهُ من دور مركزي للدولة في تحقيق التسوية بين الحرية والفردية الحديثة من جهة وبين الحاجة للانتماء الجمعي. لكن نموذج هيجل في الدولة الرشيدة، وان لم يكن ديمقراطيا بحتا، فهو لم يستثمر قوة السلطة لكبح الفردية. هيجل يدرك الدولة بشكل غير مألوف نوعا ما للقارئ الحديث الذي يميل في أعقاب ظهور الدول التوتاليرية خلال القرن العشرين للشك في النظريات التي تعطي المؤسسات السياسية مهمة حل مشاكل المجتمع.

بالنسبة الى هيجل، ليست الدولة مجرد وجود سياسي وسلطوي وانما هي الميدان الاوسع للعلاقات الاجتماعية المتطابقة مع الثقافة المشتركة والحياة الاخلاقية. ولذلك فان التناقضات في الحياة الاخلاقية سوف تكشف وتصلح ذاتها في مؤسسة الدولة. في المجتمع المدني، يتمثل دور الدولة في التسوية بين النزعات الانانية والفردية للمجتمع المدني من جهة وبين الحاجة للانتماء المشترك من جهة اخرى.

ان هيجل يتبنّى الى حد كبير وصف كانط للفرد الرشيد والاخلاق لكنه يعتقد ان فهم كانط للفردية هو تعبير عن حقبة تاريخية محددة تتمثل بالعالم الحديث، ولهذا يُعتبر هيجل من اوائل فلاسفة الحداثة وخاصة الفهم الحديث للتاريخ. اذا كان هناك طموحا موحدا في جميع كتاباته الموسعة، فان هذا الطموح يكمن في محاولته وصف اصول ودلالات هذا الرمز للفرد وكيف يرتبط بالمظاهر الدينية والاقتصادية والسياسية للحياة الحديثة، وهنا هو يبين الكيفية التي تجذرت بها فكرة الفردية في الحياة العملية ولكنها ايضا جسدت تصادما اساسيا مع تعبير الحياة الاخلاقية.

*** حاتم حميد محسن

............................

المصدر: فلسفة الحق، الفصل الثالث: الحياة الاخلاقية. جورج فيلهلم فردريك هيجل (1831-1770)

 

في المثقف اليوم