أقلام فكرية

هل هناك معيار للحقيقة؟

في الايبستيمولوجي (نظرية المعرفة)، تُعتبر معايير الحقيقة او اختبارات الحقيقة كمقاييس وقواعد تُستعمل للحكم على دقة الادّعاء او البيان. انها وسائل للإثبات، لكن موثوقية هذه الوسائل هي محل خلاف. فهم فلسفة معيار الحقيقة هو أساسي للتقييم الواضح لتلك الفلسفة. هذه الضرورة تنبع من الادعاءات المتباينة والمتضاربة لمختلف الفلسفات. ان قواعد المنطق ليس لها القدرة على تمييز الحقائق بمفردها. الفرد يجب ان يقرر أي المقاييس تميّز الحقيقة من الزيف. ليس كل المعايير متساوية الصلاحية. بعض المقاييس كافية، بينما اخرى عرضة للتساؤل. المعايير المدرجة أدناه تمثل المعايير المستعملة الاكثر شيوعا من جانب الباحثين والجمهور العام.

السلطة

ان آراء الافراد ذوي الخبرة الهامة والمدرّبين عاليا او الذين يحوزون على شهادات متقدمة هي عادة تُعتبر شكلا من البرهان. معرفتهم واطلاعهم في حقل معين او مجال من المعرفة يملي الاحترام ويسمح بأقوالهم لتكون معيارا للحقيقة. قد لايصرح الفرد بنفسه كسلطة، بل يجب ان يكون مؤهلا بشكل مناسب. وبالرغم من الإحترام الواسع الذي يُمنح لشهادة الخبير، فهو ليس معيارا معصوما من الخطأ لأن السلطات قد تتصادم في ادّعاءاتها واستنتاجاتها.

التماسك

يشير التماسك للتوضيح المنسجم والشامل لجميع الحقائق. لكي تكون الحقائق متماسكة، يجب ان يتم ترتيب جميع الحقائق ذات الصلة بطراز منسجم ومتماسك ككل متكامل. النظرية التي توفّق بشكل فعال بين جميع الحقائق تُعتبر صحيحة. التماسك هو الإختبار الأكثر فاعلية للحقيقة لأنه يعالج بكفاية جميع العناصر. العيب الرئيسي هنا يكمن ليس في المقياس وانما في عدم مقدرة الانسان على اكتساب جميع حقائق التجربة. فقط العقل الالهي العالِم بكل الأشياء يكون مطلعا على جميع المعلومات الملائمة.الباحث يجب ان يقبل بهذه المحدودية ويقبل بصحة معظم التوضيحات المتماسكة للحقائق الموجودة. التماسك يصعب مخالفته كمعيار للحقيقة طالما ان الجدال ضد التماسك يثبت اللاتماسك والذي هو غير منطقي بطبيعته.

إجماع الآراء

البعض ينظر الى الآراء التي يؤمن بها كل الناس باعتبارها معيارا صالحا للحقيقة. طبقا لإجماع الآراء، يكون القبول العالمي لدى كل البشرية لعقيدة معينة (كل الناس يؤمنون بعقيدة متميزة)، برهانا على انها صحيحة. هناك بعض القيمة في المعيار اذا كان يعني حقيقة فطرية مثل قوانين المنطق والرياضيات. اذا كان المعيار يعني فقط  اتفاق  كما في التصويت بالإجماع، فان قيمته عرضة للتساؤل. مثال على ذلك،القبول العام الذي حصل مرة في الايمان بحركة الشمس حول الارض.

الانسجام البسيط

الانسجام البسيط  هو عندما لا تتناقض الادّعاءات الصحيحة، لكنها ليست بالضرورة مرتبطة. طبقا لهذا،الفرد هو منسجم اذا كان لايناقض نفسه. هذا لا يكفي كمعيار لأنه يعامل الحقائق بطراز معزول دون تكامل وتماسك حقيقي ، ومع ذلك هو يبقى شرطا ضروريا لصحة الحجة نتيجة لقانون عدم التناقض. ان قيمة البرهان تكمن اساسا في مقدرته على التوفيق بين الحقائق الفردية ضمن كُل متماسك.

الإنسجام الصارم

الانسجام الصارم هو عندما تترابط الادّعاءات بطريقة يكون فيها كل بيان ينطلق من بيان آخر. المنطق الصوري والقواعد الرياضية هي امثلة على الانسجام الصارم. مثال على ذلك: اذا كان A يساوي B  وB يساوي C عندئذ A تساوي C. وبينما هذا المقياس عالي القيمة،لكنه محدود. مثلا، المقدمات هي قبلية (واضحة دون الحاجة الى دليل)، هي تتطلب اختبارا آخرا للحقيقة لإستخدام هذا المعيار. كذلك، الانسجام الصارم قد ينتج نتائج تفتقرللانسجام والكمال. وبينما قد يُظهر نظام فلسفي انسجاما صارما مع الحقائق التي يدرسها، لكن كل الحقائق يجب ان تؤخذ بالإعتبارلأجل معيار كافي للحقيقة بصرف النظر عن ضرره لأي نظام معين.

المطابقة

هي ببساطة عندما يتوافق الادّعاء مع موضوعه. مثلا، الادّعاء بان البيت الابيض هو في واشنطن هو ادّعاء صحيح اذا كان البيت الابيض فعلا في واشنطن. يؤمن العديد من الفلاسفة بان المطابقة هي معيار صالح للحقيقة. الفكرة التي تتطابق مع موضوعها هي في الحقيقة صحيحة، لكن الجزم بان المطابقة تامة ذلك يتطلب اختبارات اضافية للحقيقة. هذا يشير الى ان المطابقة هي تعريف صالح تماما للحقيقة، لكنه بذاته ليس معيارا صالحا لها. مطلوب اختبار اضافي وراء هذا "التعريف" لنقرر المقدار الدقيق من الشبه بين ما يُطرح وما يوجد في الواقع الموضوعي. تأسيس المطابقة بين ما يُطرح وما موجود هو محفوف بالصعوبات.

العرف

معظم الناس بوعي او بدونه يستخدمون العرف كمعيار للحقيقة، مرتكزين على افتراض بان عمل ما مألوف سوف يمنع الخطأ. انه خصيصا يطبق في تقرير الحقائق الاخلاقية ويتضح في القول "عندما تكون في روما،إعمل ما يفعله الرومان". الناس يتمسكون بقوة بمبدأ العرف عندما يستخدمون العامية الشائعة او يلبسون الطراز الشائع وهكذا، بالضرورة،عندما هم يعملون ما هو مرغوب. العرف لا يُعتبر اختبارا جادا او صالحا للحقيقة. مثال على ذلك،تصويت الرأي العام لا يقرر الحقيقة.

العواطف

العديد من الناس يسمحون للمشاعر لتقرر الحكم، عادة في وجه الدليل المعاكس او بدون حتى محاولة جمع الادلة والحقائق . هم ضمنا يقبلون العواطف كمعيار للحقيقة. معظم الناس يعترفون ان المشاعر ليست اختبارا كافيا للحقيقة. فمثلا، رجل الأعمال المخضرم سيضع جانبا عواطفه ويبحث عن افضل الحقائق المتوفرة عندما يعمل استثمارا. نفس الشيء، الأكاديميون مدربون على طرح جانبا الأحكام الذاتية عند تقييم المعرفة. العواطف هي واقعية، لكنها يجب ان تؤخذ بالاعتبار ضمن أي نظام اجتماعي علمي للتماسك.

الغريزة

ان وجود الغرائز نوقش منذ وقت طويل. المؤيدون للغرائز يجادلون اننا نأكل بسبب الجوع، نشرب بسبب العطش، وهكذا. البعض جادلوا ايضا على وجود الله على أساس هذا المعيار، مجادلين ان الهدف من أي غريزة له مرجع في الواقع. المقابل للجوع هو الطعام، المقابل للعطش هو السوائل، الحافز الجنسي  هو التكاثر. الغرائز لا تُقبل كإختبار موثوق لأنها كثيرا ما تكون غامضة ومتغيرة ويصعب تعريفها. كذلك،الغرائز الشمولية هي قليلة جدا لدرجة توفر القليل للفلسفة كمعيار.

البديهة

هي حقيقة مُفترضة وفق مصدر غير معروف او غير مختبر. انها حكم لا يعتمد على الفحص العقلاني للحقائق.انها عادة تُمارس كإحساس مفاجئ او اندفاع للافكار التي تبدو "صحيحة". العديد من الافراد يمارسون الادراك البديهي المفاجئ لمعنى الاشياء والذي ثبت لاحقا انه صحيح. الباحثون توصلوا احيانا الى براهين ونظريات صالحة أثناء أحلام اليقضة او حين انشغلوا فكريا بشيء ليس له علاقة بالحقيقة التي يسعون لكشفها. البداهة في احسن الاحوال هي مصدر للحقائق، بدلا من ان تكون معيارا لتقييم تلك الحقائق. المعرفة البديهية تتطلب اختبارا عن طريق معيار آخر للحقيقة لكي يؤكد دقتها.

قاعدة الأكثرية

هي طريقة احصائية لقبول الادّعاءات والافتراضات . في الانظمة الديمقراطية، تُستخدم قاعدة الاكثرية لتقرير مجموعة من القرارات خاصة تلك المتصلة بالاخلاق الفردية والسلوك الاجتماعي. بعض الانظمة التي انقسمت الى عدة فصائل معارضة تعتمد على التعددية فقط. وبينما قاعدة الاكثرية قد تخدم نظاما ديمقراطيا جيدا، لكنها مقرر ضعيف للحقيقة، وعرضة لإنتقاد طيف واسع من آراء الناس.

الواقعية الساذجة

وتؤكد ان ما هو حقيقي هو فقط ما يُلاحظ مباشرة من جانب حواس الانسان. الملاحظة المباشرة تقرر صدق او زيف ادّعاء معين. الواقعية الساذجة هي معيار غير كاف للحقيقة. عدد من الظواهر الطبيعية تبدو حقيقية، لكن لا تُلاحظ من جانب الحواس التي تفتقر للوسائل المساعدة. مثال على ذلك، الواقعية الساذجة تنكر وجود أصوات وراء نطاق سمع الانسان او وجود اشعة X-Ray. كذلك،هناك عدد من تجارب الحس تبيّن عدم وجود ارتباط بين الاحساس المتصور و سببه.

البرجماتية

اذا كانت فكرة ما تعمل بشكل ناجح فهي يجب ان تكون صحيحة للبرجماتي. نتائج تطبيق المفهوم يكشف قيمته الحقيقية عند فحص النتائج. المعنى التام لفكرة ما يتجلى في تطبيقها. فمثلا، القيمة العلاجية وتأثير البنسلين في العلاقة مع الالتهابات ثبت في ادارة ذلك العلاج. ورغم ان البرجماتية اعتُبرت معيارا ذو قيمة، لكنها يجب ان تُستعمل بحذر وتحفّظ نتيجة لإحتمال ايجابياتها الزائفة. فمثلا، طبيب قد يصف دواءً لمريض  لكنه لاحقا قد يتبين ان علاجا بديلا مساوي له بالفاعلية. وهكذا،المفاهيم غير الصحيحة قد تبدو تعمل بالضد من هدف الاختبار البرجماتي، لكنها لها صلاحية كاختبار، خاصة في الشكل الذي يسميه وليم ارنست هوكنك "البرجماتية السلبية". انها تعلن ان الافكار التي لا تعمل لا يمكن ان تكون صحيحة، مع ان الافكار التي تعمل فعلا ربما تكون صحيحة او غير صحيحة.

الوحي او الإلهام

الفرق الرئيسي بين البداهة والوحي يكمن في أصل مفترض هو الله او قوة عليا اخرى. الوحي ربما يُعرّف كإنبثاق حقيقي  من الله. العديد من الاديان اساسا تثق بالوحي كاختبار للحقيقة. هذا المعيار هو عرضة لنفس النقد كالبداهة. انه ربما يكون مرجعا صالحا للحقيقة بالنسبة للفرد لكنه غير كاف لإعطاء برهان متماسك للمعرفة للآخرين.

الزمن

هو معيار  يتم اللجوء اليه في النقاش، في الحقيقة عادة يُشار اليه كـ "اختبار الزمن". هذا المعيار يقترح بانه بمرور الزمن ستتكشف العقائد الخاطئة والاخطاء المنطقية . اذا كانت العقيدة صحيحة، فان مجرد مرور الوقت لا يمكن ان يؤثر سلبيا على صلاحيتها. الزمن اختبار غير كافي للحقيقة طالما هو عرضة لنفس العيوب كالعادات والتقاليد. العديد من العقائد الزائفة ظاهرا استمرت لقرون او آلاف السنين، انها رُفضت كمعيار صالح .

التقاليد

وهي مرتبطة بإحكام مع العادات، هي مقياس يقول ان ما تم التمسك به لأجيال هو صحيح. اولئك الذين يقبلون التقاليد يجادلون ان الافكار التي تكتسب ولاء عدة أجيال تحوز على قياس للمصداقية. التقاليد تحوز على العديد من نفس مظاهر الفشل كالعادات. من الممكن للزيف ان يمر نزولا من جيل الى آخر طالما ان التقاليد عموما تؤكد على التكرار بدلا من التقييم النقدي.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم