أقلام فكرية

خواطري حول مشروع كانط في كتابه "نقد العقل الخالصِ"

تخيل أنك ترتدي نظارة ذات عدسات زرقاء.. ماذا ستري؟.. بالطبع ستري كل ما حولك باللون الأزرق.. قد يكون الأمر غريبا عليك في البداية، لكن بالتدريج سيبدو الأمر طبيعيا بالنسبة لك دون أن تدري، لكنك ستبقي تري الأمور من منظور أزرق..

هذا ما اعتقده ايمانويل كانط Emmanuel Kant- 1724-1804.. وحاول أن يجسده في كتابه "نقد العقل الخالص" Critique de la raison pure عندما حاول ما يمكنُ للإنسان معرفته. عاش كانط في قرن تميز بتقديس العلم، لذلك ارتأى أن يُنقذ الفلسفة. وعملية إنقاذ الفلسفة لن تتم إلا بفحص حدود العقل.

ويعدُّ كتاب نقد العقل المحض أو نقد العقل الخالص من أشهر كتب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، نشر هذا الكتاب أول مرة في عام 1781م، ويعدُّ واحدًا من أكثر المؤلفات تأثيرًا في تاريخ الفلسفة، وهو أيضًا أول كتاب نقدي لإيمانويل كانت، إذ نشر بعده كتابين في النقد هما: نقد العقل العملي في عام 1788م، نقد الحكم في عام 1790م.

ويقوم كتاب نقد العقل المحض على مبدأين أساسيين في الفلسفة، هما: ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا ونظرية المعرفة، ويشرح كانط في كتابه " نقد العقل الخالص " السبب الذي يجعل الفلسفة لا تستطيع أن تتجاوز حدود التجربة بتحقيق نفس درجة اليقين التي يحققها المنطق والرياضيات والفيزياء.

إن " نقد العقل الخالص " جعل كانط يضع الذات في مركز المعرفة، متوخيا اكتشاف إمكانات العقل بالاستفادة من تجربة الرياضيات والفيزياء، من خلال دراسة الكيفية التي جعلت هذين العلمين يحصلان على يقينيات "قبلية"، اي يقينيات تم التوصل إليها قبل إجراء أية تجربة.

كان الفلاسفة السابقون على كانط يرون ان الموضوع هو واقع معطى يخضع له العقل. رفض كانط هذا المنظور. وفرض منهجا جديدا يُحدّدُ الموضوع حسب ما يقتضيه العقل. لقد استبدل كانط الواقعية (التي تقول إن الواقع يوجد في استقلال عن الوعي) بالمثالية (التي تقول إن الواقع يبنيه العقل، وبالتالي فالواقع بناء ناتج عن العقل ولا يوجد في استقلال عنه".

إن موقف كانط هذا، أي القاضي بجعل الواقع ثمرة للعقل هو ما يُعتبرُ ثورة في الفلسفة (تعادل أهميتها أهمية الثورة الكوبرنيكية في مجال الفلك): فكما ان كوبرنيكوس اكتشف بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، قام كانط بجعل الذات هي مركز نظرية المعرفة، وليس الموضوع.

ويؤكد موقف كانط (القائل بأن الذات هي مركز المعرفة وليس الموضوع الذي تدرسه) أن العقل يتدخل بطريقة فعالة في إعداد وتكوين المعرفة: أي أن العقل هو الذي يشكل الواقع.

وهكذا فالمعرفة التي تحصل عليها الذات حول الموضوع تابعة لملكة الذات الخاصة بإنجاز فعل المعرفة. (يقول كانط: "لا نعرف من الأشياء معرفة قبلية، إلا ما نضعه نحن فيها").

يبينُ كتاب "نقد العقل المحض" لكانط أن الواقع منظم ومرتب بواسطة الفكر. وهو بذلك يوضح وجود "أطر كونية ضرورية"، يستعملها العقل البشري لمعرفة العالم.

في الحقيقة سنظلم كانط إذا قلنا أنه أراد التوفيق بين العقلانية والتجريبية فقط، أي التوفيق ما بين ديكارت وليبنتز، وبين جون لوك وديفيد هيوم، رغم أن هناك بعض الكتابات المدرسية التي تشير إلى هذه الإشارة، أنه وفق ما بين العقلانية والتجريبية، لا.. صحيح أنه أستوعبهما معا.. نعم.. لكنه أنتج نسقا فلسفيا جديدا.

ويمكن القول أن كانط في مقدمة كتابه " نقد العقل الخالص " يقف وقفة نقدية من الفلسفة بكاملها منذ بدء الكتاب، حيث نقده يقف منبهرا بالفيزياء، حيث يقول :" كيف بلغ العقل العلمي الفيزيائي إلى أن ينتج كل هذه المعارف حول الطبيعة، وكيف للمنهج الفيزيائي وللعقل الفيزيائي أن يتقدم بهذه السرعة، بينما العقل الفلسفي هو أقدم والعقول التي كانت عنده أثمن لن يستطع أن يتقدم بمثل التقدم التي تقدمت به المعرفة الفيزيائية ".

هذا السؤال الأول المحير الذي طرحه كانط ، والسؤال الثاني :" لماذا الفلسفة لم تدرس العقل، بل استعملته فقط دون التفكير في طبيعته، وكان أولي بالفلسفة قبل أن تستعمل الأداة أن تبحث في امكانات الأداة.

إن مشروع كانط في كتابه " نقد العقل الخالص يتمحور حول تعيين الحدود ابتغاء العقل، وما وراء هذه الحدود يصبح قول العقل غير مشروع، وفي هذا كان كانط ينتقد تيارا إلحاديا، كان قد بدأ ينتشي بالفكر العقلاني، وبالعقل كأداة، واستعملت في نفي الألوهية وفي نقد المفاهيم الدينية وغير ذلك، بينما كان كانط شديد التدين والتقي، وهنا حاول كانط أن يضع العقل تحت مجهر التحليل.

أنا لن أدخل في تفاصيل الكتاب، وإنما أصل إلى النهاية ما هو الناتج من هذه العملية النقدية للأداة؟

إن الناتج المعرفي من عملية نقد كانط للأداة هو أنه قال بأن العقل فيه ليس لوحا ثقيلا فارغا أو صفحة بيضاء، كما قالت التجريبية مع لوك وهيوم، كما أنه ليس فيه أفكار فطرية كما قالت عقلانية ديكارت.

إذن هنا نجد كلام كانط محيرا، فإذا أنت خطأت الذين يقولون ليس في العقل أفكارا فطرية، وخطأت الذين يقولون العقل ليس صفحة بيضاء.. إذن ما هو العقل ؟

وهنا نجد كانط يأتي بمفهوم يسمي بالمقولات الترانسندنتالية، وان العقل فيه مقولات قبلية، وليست أفكار فطرية، لأنني عندما أقول في العقل فكرة ندفع باتجاه أن العقل يحمل فكرة جاهزة، وهذا خطا ديكارت حسب كانط، بينما لو قلنا أن العقل يحمل مقولة منهجية قبلية بها سينتج الفكرة، وهنا نتحدث عن الأدوات المنهجية للعقل ولم نتعدي ذلك بالقول بالأفكار الفطرية.

والسؤال الآن: ما هي تلك المقولات ؟

هناك كتاب لأرسطو يسمي كاتيغوري باليونانية، ويعني " المقولات"، حيث حدد فيه أرسطو عشرة مقولات، فيها مقولة أولي وهي الجوهر، وفيه تسع مقولات هي أنحاء الوجود، وكانط رغم اقتناعه بالمنطق الأرسطي، فلم يكن يطلب اختزال المقولات المنطقية، بل طلب شئ آخر، وهي مقولات العقل الترانسندنتالية، فحدد إثنا عشر مقولة، بدل التحديد العشري الذي قال به أرسطو، وهذه المقولات الأثنا عشر أريد أن أشرحها بمثال واضح، حتى نفهم كيف أن المقولة مخالفة للفكرة أو ممايزة للفكرة، فعندما يأتي كانط إلى مفهوم المكان ومفهوم الزمان، فنجد أنه بالنسبة له لا وجود للمكان والزمان، فليس هناك شئ في الوجود اسمه الزمان، وليس ثمة شئ في الوجود اسمه المكان، إذن هما غير موجودين في نظر كانط، فالشمس عندما تشرق لا تصعد إلى السماء وتكتب له يوم الأثنين، ثم تغرب وتصعد مرة وتقول الثلاثاء.. لا.. نحن الذين سمينا اليوم أثنين وغدا ثلاثاء، أما هي هي نفس الحركة، ولا وجود في الوجود إلا للحركة في نظر كانط، وليس زمانا، ولكن العقل البشري لكي يستطيع تنظيم وجوده في الوجود المتحرك احتاج إلى مقولة الزمان، وفي امكانه الذاتي هذه المقولة، فعكس الوجود أو أدخل معطيات الوجود إليها ونظم حركة الوجود وفق الصيرورة الزمنية.. تخيلوا أننا لو انتزعنا أسماء الأسبوع أسمائها، وانتزعنا من شهور السنة كذلك أسمائها، وانتزعنا من حركة السموات أرقامها، واردت أن تضع موعدا مع صديقك بعد خمسة أيام.. لا تستطيع ولا تتمكن، لأنه ما يقي من أيام الأثنين والثلاثاء والأربعاء، ولم يبقي ترقيمات لشهور ولا سنوات.. إذن امتنعت تنظيم حركة عملية الوجود، فهذه الحركة لا بد من القبض عليها لكي يقبض عليها العقل، ولهذا فقد جهزه الله لنا بمقولة الزمان، وهذا التجهيز من المستحيل أن يكون مكتسبا، لأن الوجود لا يعطيك الزمن، فلا بد من القول بأن العقل فيه شئ لم تتنبه إليه الفلسفة التجريبية.

هذه مقولة الزمان من بين المقولات الاثنا عشر التي قال بها كانط وهي موجودة في العقل البشري تنظم حركة الحياة، وهي كالأوعية الفارغة التي تنقل الحواس معطيات من الوجود وتحشرها في كل وعاء من هذه الأوعية فيستطيع الإنسان أن يتملك القدرة الإدراكية البشرية للوجود وينظم نفسه في حركة الوجود.

ويميز كانط في الملكة التي تنجز المعرفة ما بين:

أولا: القدرة على استقبال المعلومة (أي القدرة على استقبال المعطيات الحسية الخارجية (sensibilité)، والتي ترجمت ترجمة رديئة من خلال كلمة "الحساسية").

ثانيا: الفهم: وهو الاشتغال بالمفاهيم.

وعلى سبيل التوضيح: هناك موضوع معين، يتم استقبال معلومات عنه من خلال "القدرة على استقبال المعلومة"، ثم يتم التفكير فيه من خلال المفاهيم (التي يضمها الفهم)، وتشتغل القدرة على استقبال المعلومة من جهة، والفهم من جهة أخرى اعتمادا على أطرٍ قبلية:

1- بالنسبة للقدرة على استقبال المعلومة هناك إطاران هما المكان والزمان. وذلك لأن الذات تدرك دوما الأشياء في المكان، وتدرك حالاتها النفسية في الزمان.

2- أما أطر الفهم فهي المقولات، أي الصيغ التي تمكن العقل الإنساني من إدراك الأشياء، وهذه المقولات تسمى أيضا المفاهيم الخالصة. ومهمتها الأساسية هي ترتيب المعطيات المتنوعة التي يتم الحصول عليها.

ولما تحاول هذه المفاهيمُ الخالصة أن تعرف المطلق، أي ما يوجد خارج العالم الحسي: تشكل ما يسميه كانط بالعقل. ومن بين الأفكار المكونة للعقل (كما يعرفه كانط):

أ- الروح باعتبارها جوهرا موجودا في ذاته.

ب- الله باعتباره جوهر الجواهر وسبب الأسباب

ج- العالم كوحدة كلية.

ولكن بما أن المقولات (المفاهيم الخالصة) تستمد محتواها من "القدرة على استقبال المعلومة"، فإن العقل عاجز عن التحرر منها.

إن كتاب "نقد العقل الخالص" يعيد النظر في الميتافيزيقا. وبما أن الميتافيزيقا (أو العقل التأملي) تولّدتْ عن تجاوز التجربة للفهم، فإنها تبدو كاستعداد طبيعي للعقل. لكن أفكار العقل لا تصلح إلا لضبط سعي الفكر نحو المطلق، أي أنها توجه فقط الجهد الإنساني في مجال المعرفة بمنعه من أن يحقق إشباعا ذاتيا بيُسر كبير.

وتوصل كانط في النهاية ان الميتافيزيقا التي يجب أن يشغل الفلاسفة بها أنفسهم ليست الميتافيزيقا التأملية لأن فرصهم في النجاح هناك صفر. ولكن عليهم أن يشغلوا أنفسهم بالميتافيزيقا العملية. بالميتافيزيقا الأخلاقية التي تهدف إلى الوصول إلى السعادة القصوى. وهذا ممكن عن طريق واحد فقط هو الإيمان بأن هناك اله موجود وأن هناك حياة ثانية بعد الموت!! ولكن هذا نتوصل اليه ليس عن طريق العقل الخالص والميتافيزيقا التأملية ولكن عن طريق العقل العملي والميتافيزيقا العملية!! والغريب بعد كل هذا أن الكنيسة الكاثوليكية وضعت كتاب نقد العقل الخالص فى قائمة الاعمال المحرمة عام 1827 ميلادية.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

........................

المراجع:

1- عمانوئيل كانط: نقد العقل المحض، ترجمة موسي وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان.

2-محمد الهلالي: كانط: نقد العقل الخالص (الأفكار الأساسية للكتاب)، الحوار المتمدن - العدد: 6933 - 2021 / 6 / 19 - 08:16

3- ملخص فلسفة العقل عند كانط | د. الطيب بوعزة.. الهاديات_تيوب.

في المثقف اليوم