أقلام فكرية

نظرية المادية الثقافية عند ريموند ويليامز

(رائد التحليل النقدي للمنتوج الثقافي)

حول المادية الثقافية... مصطلح صاغه الناقد والمُنظّر الماركسي ريموند ويليامز* (31 أغسطس 1921 -26 يناير 1988) ونشره جوناثان دوليمور وآلان سينفيلد (في مجموعة مقالاتهم لشكسبير السياسي)، تشير المادية الثقافية إلى التوجه الماركسي للتاريخية الجديدة، والتي تتميز بتحليل أي مادة تاريخية في إطار مُسيَس، بطريقة راديكالية وهدامة. تؤكد المادية الثقافية على دراسة السياق التاريخي، والنظر في تلك الجوانب التاريخية التي تم تجاهلها أو إسكاتها في روايات التاريخ الأخرى، من خلال نهج نظري انتقائي، مدعوماً بالالتزام السياسي الناشئ عن تأثير المنظور الماركسي والنسوي، وبالتالي تحليل النص وقراءته قراءة متعمقة تنتقد المقاربات التقليدية، لا سيما تلك المتعلقة بالنصوص المتعارف عليها.

تنبع أهمية ويليامز من كونه أحد الآباء المؤسسين للدراسات الثقافية في الغرب وأبرز من لعب دوراً محورياً في الكشف عن نقائص النقد اليساري التقليدي الذي غرق لسنوات طويلة في التفسير المادي الميكانيكي الأحادي البعد للنصوص الأدبية وللظاهرة الثقافية والفنية بشكل عام. ومن بين عناصر قوة هذا الناقد قدرته على نحت المفاهيم الخاصة به وكذلك تشغيل الجهاز النظري في فضاء الممارسة النقدية الثقافية على نحو متميز. ومن المفاهيم المهمة التي ساهم وليامز في إبداعها مفهوم " المادية الثقافية " الذي يستلهم موروث (مدرسة فرانكفورت، النقدية وغرامشي الإيطالي)، ومفهوم بنية المشاعر الذي يعتبر مفهوماً مفصلياً في حركة النقد الثقافي الغربي.

 حاول وليامز من خلال تطويره لمفهوم المادية الثقافية تجاوز المنطق النقدي التقليدي الذي يدرس أي ظاهرة ثقافية كمجرد نتاج للبنية المادية فقط، وقد برز هذا التوجه في كتابه " الثقافة والمادية ". بذلك تؤكد المادية الثقافية على ضرورة التفاعل بين الإبداعات الثقافية، مثل الأدب وبين سياقاتها التاريخية، بما فيه العناصر الاجتماعية والسياسية والتاريخية.

في حقيقة الأمر، تحتفظ المادية الثقافية باندفاع الماركسية السياسي الراديكالي قديم الطراز، وتتوسع به من القضايا الطبقية إلى القضايا العرقية والنسوية، لكنها تسقط العلم والنظرية الاقتصادية ليس بشكل تام، فتكف قيمتها الراديكالية عن أن تكون قائمةً على أية نظرية عامة في التاريخ الإنساني، كتلك التي تقوم عليها الماركسية. وتتمثل اهتمامات هذه المادية الثقافية الأدبية في البنية الفوقية ونظريتها في القيمة هي نظرية نسبية، ويسعدها أن تتوافق مع تلك الأنماط الشكلانية الصرف من الراديكالية الفكرية مثل ما بعد البنيوية، وتركز على الصراع الثقافي لا الاقتصادي ولا تنظر إلى الثقافة الفنية على أنها شيء ذو أهمية جوهرية بالنسبة إلى الإنسانية عموماً، بل إنها في جوهرها موقع من مواقع الصراع السياسي. بذلك تتعامل المادية الثقافية مع وثائق تاريخية محددة وتحاول تحليل وإعادة إنشاء المجموعة المهيمنة من المثل العليا أو المعتقدات في لحظة معينة من التاريخ.

طوّرت المادية الثقافية مجموعة قوية من الأدوات المفاهيمية والتجريبية لدراسة الطرق التي تظهر بها الثقافات، ويتم إنتاج الهيمنة من خلال التكوينات والممارسات والمؤسسات الثقافية، حيث تعتبر المادية الثقافية الإطار النظري والطريقة الأساسية لبحث وفحص العلاقات بين الجوانب المادية والاقتصادية للإنتاج. كما تستكشف القيم والمعتقدات ووجهات النظر العالمية التي تسود المجتمعات الإنسانية. هذا المفهوم متجذر في النظرية الماركسية وهو شائع في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع ومجال الدراسات الثقافية. بمعنى آخر هي نهج للبحث العلمي يعطي الأولوية للظروف المادية في شرح أسباب الاختلافات والتشابهات الاجتماعية والثقافية. أي باستخدام المادية الثقافية كأسلوب بحث، يمكن لعلماء الاجتماع إنتاج فهم نقدي للقيم والمعتقدات ووجهات النظر العالمية لفترة ما من خلال الدراسة الدقيقة للمنتجات الثقافية. كما يمكنهم أيضاً تمييز كيفية ارتباط هذه القيم بالبنية الاجتماعية والاتجاهات والمشكلات. للقيام بذلك، لذا يجب عليهم أن يأخذوا في الاعتبار السياق التاريخي الذي تم فيه صنع المنتج، وتحليل رمزيته، وكيف يتناسب العنصر مع الهيكل الاجتماعي الأكبر.

بناءً على التحليل السابق يذهب ويليامز أن هدف التحليل الثقافي هو استيضاح وتحليل الثقافة المدونة المسجلة الخاصة بزمان ومكان معينين. وفي ذلك يسعى ويليامز إلى إعادة تشكيل بناء الشعور أو القيم والتوقعات المشتركة غي ثقافة معينة. ويؤكد على فهم الثقافة عن طريق تمثلات وممارسات الحياة اليومية في سياق الظروف المادية لإنتاجها. ويطلق ويليامز على ذلك "مادية ثقافية" وتشمل تحليل كل أشكال الدلالة أو المضمون داخل الوسائل الفعلية وظروف إنتاجها.

وهكذا ينظر إلى المادية الثقافية باعتبارها واحدة من أهم وجهات النظر السوسيولوجية والانثروبولوجية الرئيسية لتحليل المجتمعات البشرية. يتضمن أفكاراً من الماركسية والتطور الثقافي والإيكولوجيا الثقافية، حيث تؤكد المادية الثقافية أن العالم المادي يؤثر ويضع قيوداً على السلوك البشري.

بالمقابل، يعتقد الماديون أن السلوك البشري جزء من الطبيعة، وبالتالي يمكن فهمه باستخدام طرق العلوم الطبيعية. لا يفترض الماديون بالضرورة أن الواقع المادي أكثر أهمية من الواقع الفكري. ومع ذلك، فإنهم يعطون الأولوية للعالم المادي على عالم الأفكار عندما يشرحون المجتمعات البشرية. وكما هو معروف لدينا بدأ التيار المادي وتطور مع أعمال كارل ماركس وفريدريك انجلز. قدم ماركس وانجلز فهماً ونموذجاً تطورياً للمجتمعات قائماً على المنظور المادي. لقد جادلوا بأن المجتمعات تمر بمراحل عديدة، من القبلية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية. لفت عملهم القليل من الاهتمام من الأنثروبولوجيا في أوائل القرن العشرين. ومع ذلك، منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، أصبح علماء الأنثروبولوجيا يعتمدون بشكل متزايد على التفسيرات المادية لتحليل التطور المجتمعي وبعض المشاكل المتأصلة في المجتمعات الرأسمالية. يشمل علماء الأنثروبولوجيا الذين يعتمدون بشكل كبير على رؤى ماركس وانجلز أنصار التطور الجدد والماديين الجدد والنسويين وما بعد الحداثيين.

يحدد الماديون الثقافيون ثلاثة مستويات من النظم الاجتماعية التي تشكل نموذجاً عالمياً: 1- البنية (البناء الاجتماعي) 2- البنية التحتية، 3- البنية الفوقية. فالبنية التحتية هي الأساس لجميع المستويات الأخرى وتشمل كيفية تلبية الاحتياجات الأساسية وكيفية تفاعلها مع البيئة المحلية. يشير الهيكل إلى التنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع ، بينما ترتبط البنية الفوقية بالإيديولوجيا، والقانون، والتقاليد، والرمزية.

ويمثل هذا الاتجاه الماديون الثقافيون على رأسهم مارفن هاريسMarvin Harris  عالم أنثروبولوجيا أمريكي شديد التأثير في تطوير المادية الثقافية (مواليد 18 أغسطس 1927 - توفي 25 أكتوبر 2001)، الذي يؤكد أن البنية التحتية هي الجانب الأكثر أهمية حيث يحدث التفاعل بين الثقافة والبيئة هنا، فجميع المستويات (البنية التحتية والفوقية) مترابطة بحيث تؤدي التغييرات في البنية التحتية إلى تغييرات في الهيكل والبنية الفوقية، على الرغم من أن التغييرات قد لا تكون فورية. بينما يبدو أن هذا هو الحتمية البيئية، لا ينكر الماديون الثقافيون أن التغيير في الواقع والبنية الفوقية لا يمكن أن يحدث دون التغيير الأول في البنية التحتية. ومع ذلك، يزعمون أنه إذا كان التغيير في ذلك الواقع غير متوافق مع البنية التحتية الحالية، فمن غير المرجح أن يتم وضع التغيير داخل الثقافة.

 إلا أن ريموند ويليامز يرى أن الثقافة ليست مجرد انعكاس لتلك القاعدة وليست مستقلة تماماً عنها. هذا لا يستبعد الممارسة البشرية المتعمدة، لكنه يرفض الموقف المثالي في رؤية هذه الممارسة على أنها لا تنفصل عن ظروف تاريخية محددة، بالمقابل مع عدم تحديد الثقافة بالكامل من خلال قاعدة اقتصادية، فإنها تلعب دورها في بناء أو إعادة إنتاج الكلية الاجتماعية، لتصبح بشكل حتمي مسرحاً للصراع الإيديولوجي. بذلك يعتمد ويليامز على ما سماه بـ: (المادية الثقافية) على النسق الذي طرحه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي من ارتباط بنيوي بين هيمنة النخب والأدوات التي تشكل ثقافة المجتمعات.

خلاصة القول يؤكد ويليامز Williams، أن الثقافة نفسها هي عملية إنتاجية، بمعنى أنها تؤدي إلى ظهور الأشياء غير الملموسة، بما في ذلك الأفكار والافتراضات والعلاقات الاجتماعية الموجودة في المجتمعات. تنص نظريته عن المادية الثقافية على أن الثقافة جزء من عملية أكبر تتعلق بكيفية صنع الأنظمة الطبقية وتعزيز عدم المساواة الاجتماعية. تلعب الثقافات هذه الأدوار من خلال تعزيز القيم والافتراضات ووجهات النظر العالمية وتهميش أولئك الذين لا يتناسبون مع القالب السائد. ضع في اعتبارك الطريقة التي تم بها تشويه سمعة موسيقى الراب في وسائل الإعلام السائدة أو كيف يُعتبر أسلوب الرقص المعروف باسم Twerking "من الطبقة الدنيا" (وهو نوع من الرقص نشأ كجزء من مشهد موسيقي بونس في نيو أورليانز أواخر الثمانينات)، بينما يُنظر إلى الرقص في القاعة على أنه "راقٍ" ومهذب.

وهكذا يرى فيه ويليامز أن الأبعاد الروحية والفنية ومجمل ما يدعى بالبنية الفوقية تساهم مجتمعة جنباً إلى جنب مع العوامل المادية في أي مجتمع في إنتاج الظاهرة الثقافية أو النص الأدبي، قد سبق أن درسها بعمق المفكر الفرنسي لوي ألتوسير في مقاله الألمعي "الإيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية" الذي غير الكثير من توجهات النقد الأدبي والفني والثقافي اليساري الغربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وانطلاقاً من هذه الفكرة فإن ويليامز يفهم النقد كممارسة وكنظرية أنه ليس مجرد تحليل نصي فقط وإنما هو "اختبار للبنيات ولأشكال المقاومة في الحياة اليومية".

بذلك نجد أن مفهوم المادية الثقافية أثرى إمكانات الدراسات الثقافية القائم على تحلل تاريخ الثقافة البشرية بأسره بوصفه انعكاساً معقداً أو تمثيلاً لهذا التاريخ المادي. وإنها لكارثة بالنسبة إلى الدراسات الثقافية أن يؤدي أفول الماركسية إلى التخلي عن محاولات تفسير ظواهر ثقافية استناداً إلى الواقع الاقتصادي الأساس، ولعل هذا أن يكون أعمق تبصر لدينا بأساس الثقافة الاجتماعي، مما فتح الآفاق أمام علماء الاجتماع لتوسيع نظرية ويليامز عن المادية الثقافية لتشمل عدم المساواة العرقية وعلاقتها بالثقافة. كما تم توسيع المفهوم لفحص الفوارق المتعلقة بالنوع الاجتماعي والجنس والجنسية، وقبول الآخر والتعايش بين ثقافات المجتمعات البشرية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

- المراجع المعتمدة:

* ريموند هنري ويليامز (بالإنجليزية: Raymond Williams)‏ (31 أغسطس 1921 -26 يناير 1988) منظر ماركسي ويلزي، وأكاديمي، وروائي، وناقد. وهو شخصية مؤثرة داخل اليسار الجديد وفي الثقافة. ساهمت كتاباته عن السياسة والثقافة والإعلام الجماهيري والأدب مساهمة كبيرة في النقد الماركسي للثقافة والفنون. وضع عمله الأسس لمجال الدراسات الثقافية والنهج المادي الثقافي.

1. Ashley Crossman: “ Definition of Cultural Materialism.” , ThoughtCo, Feb. 16, 2021, thoughtco.com.

2. Margolis, Maxine L. “Cultural Materialism.” In Theory in Social and Cultural Anthropology, Vol. 1, edited by R. Jon McGee and Richard L. Warms, 147-149. Thousand Oaks, CA: SAGE Reference, 2013.

3. Johnson, Michelle C. “Symbolic and Interpretive Anthropology.” In Theory in Social and Cultural Anthropology: An Encyclopedia, Vol. 2, edited by R. Jon McGee and Richard L. Warms, 841-846. Thousand Oaks, CA: SAGE Reference, 2013.

4. West, Barbara. “Functionalism.” In Encyclopedia of Anthropology, Vol. 3, edited by H. James Birx, 1012-1013. Thousand Oaks, CA: SAGE Reference, 2006.

5. Hans Bertens:  Cultural Materialism, oxford bibliographies, 26 FEBRUARY 2020.

https://www.oxfordbibliographies.com/view/document/obo-9780190221911/obo-9780190221911-0091.xml

6. ليونارد جاكسون: شكلان من المادية الثقافية (المادية في الانثروبولوجيا وفي الدراسات الثقافية)، ترجمة: ثائر ديب، مجلة تبين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المجلد:1، العدد:1، صيف 2012.

7. حفناوي رشيد بعلي: قراءة في نصوص الحداثة وما بعد الحداثة، دار اليازوري العلمية، عمان، ط1، 2013.

8. أزراج عمر: ريموند وليامز والمادية الثقافية، صحيفة العرب الدولية، لندن، العدد: 10665، السنة 40 16/06، 2017.

9. سيد فارس: نظرية الثقافة المعاصرة تجليات إعادة الإنتاج والاندماج، مجلة الانثروبولوجيا، المجلد:4، العدد:7، الجزائر، 2018.

 

 

في المثقف اليوم