أقلام فكرية

النزعة النسويَّة ومنطلقاتها في نقد المعرفة الفقهيَّة

يواجه الباحث في شؤون المرأة مشكلتين، تتمثل الأوّلى بالتيار النسويّ باتجاهاته المتعددة والذي يفرض المشكلات على واقعنا، وتتمثل الثانية بفهم المسلمين للدِّين، الذين يكتفون بعرض المنظومة الدِّينيَّة كما جاء بها القرآن الكريم والسُّنَّة ويلتزمون الصمت تجاه الواقع وممارساته، لذا يضطر الباحث إلى تجشم العناء في انتقاء ما يفكِّر فيه تبعًا لاستحقاقات المرحلة بعيدًا عن الترهل في الطرح.

من غير اليسير اليوم إجراء موازنة بين مكتسبات واستحقاقات المرأة من جهة ومسؤولياتها ودورها الحضاريّ من جهة أخرى، فقد تعقدت قضية المرأة عبر محطات فكريَّة مختلفة من قبيل وضعها التكوينيّ ومكانتها في الديانات ومشكلة التمكين على مستوياته الفكريَّة والسِّياسيَّة والإجتماعيَّة والاقتصادية، وبقدر ما تشغله المرأة من أغلبية المجتمع بقدر ما كانت مشكلات المرأة غير حاضرة بنحو كافٍ في مدونات التحليل التَّأريخيّ والسِّياسيّ، وهي مشاركة بنحو أساس في كلِّ ما يجري من أحداث سواء بشكلٍّ مباشر أم غير مباشر.

كذلك من غير اليسير التفكير حول ابتعاث المرأة حضاريًا واستنهاض دورها في غرس القيم، بسبب الإشكاليَّات العالقة عبر التَّأريِّخ حول وضع المرأة واستلابها الفكريّ والجنسيّ والاقتصادي..، فمن شاء أنْ يتحدث عن مسؤوليَّاتها ودورها لم يشأ يكون بمنأى عن تساؤلات (قضية المرأة)، وإذا كانت ثمَّة أطر دِّينيَّة للقيم التي ينبغي أنْ تتحرك من خلالها، فلن تخبو الإثارات والتساؤلات حول مكانة المرأة في نفس تلك الأطر الدِّينيَّة، وكيف خوطبت في النصّوص الدِّينيَّة، وما هي طبيعة النظرة إلى المرأة في الفكر الدِّينيّ؟، وهل ثمَّة إعادة نظر في فهم بعض تلك النصّوص وما تستتبعه من تَّشريِّعات سلوكيَّة تتعلق بالمرأة؟

لذلك فالحديث عن المرأة شائك بالقدر الذي يحتِّم على دائرة البحث أنْ تستجلب كلَّ ما له علاقة بوضع المرأة سواء دِّينيًا أم سِّياسيَّا أم اقتصاديًا؛ لأنَّ التداخل قهري، والارتباط أمر واقع.

لكن هذا لا يجعل من الموازنة بين الحقوق والمسؤوليَّات أمرًا مستحيلًا، كما لا ينبغي أنْ يجعل من الموازنة أمرًا مؤجلًّا أو مسكوتًا عنه، والجدير بالمنظومات الفكريَّة أنْ تعي حجم الأثر الذي تتركه مشكلة المرأة في المأزق الحضاريّ.

والمرأة المعاصرة مرتبكة الكينونة، وتعاني أزمة الذات، بفعل تبدد القيم، والتبدد لا يعني الزوال هنا، بقدر ما يعني التشتت والتبعثر في أولويات القيم من جهة، واختراقها من جهة أخرى، ذلك أنَّ الذات الإنسانيَّة لا يمكن أنْ تعي هويِّتها ما لم تتوفر معايير حاكمة على الواقع بكلِّ ما يتضمنه من سلوك ونشاط بشري، فما لم توجد قيم لا يمكن أنْ تتشكل الكينونة؛ لأنَّها لها أساسها القيميّ، ومن دونه تبقى مرتبكة أو مضمحلة.

الذين يسلبون المرأة بفكرهم وتفسيرهم للحقائق يعتقدون بثبات الواقع والمرأة من جهة، وثبات القيمة والحقيقة من جهة أخرى، والذين على الجانب الأقصى ممن يهدر كرامة المرأة بمفاهيم الميوعة والخلاعة يعتقدون أنَّ كلًّا من المرأة والقيم في تغير من دون ثبات، إنَّ التغيير من سنن الكون والحياة، والتطور سمة التَّأريِّخ البشري، لكن ثمَّة أطر ثابتة، فلم يكن تَّأريِّخ القيم متغيرًا عند البشر، مهما تبدلت القيم أو تبددت، فما يزال هناك الثابت العقلانيّ الذي يقيس مدى فاعلية القيم في حياة المجتمع، نحن كبشر عقلاء، لا يمكن أنْ تتغير معاييرنا بل تتطور في حدود معينة، لذا عندما نحكم في قضية ما، فلا بدَّ من ثابت ننطلق منه، وإلّا زالت مشتركات الحوار الإنسانيّ وزال بزوالها الحوار..

باتت المرأة بين مطرقة الاضطهاد واستلاب الحقوق من جهة وسندان القيم وأزمة الكينونة من جهة أخرى، فثمَّة جدلية بين حلِّ مشكلة المرأة ورصد المرأة المشكلة، فلا بدَّ من رصد المرأة المشكلة، المرأة التي تمثل النموذج السلبي، النموذج الذي يصادر كيانها وهويتها، فلقد عانت المرأة كوجود وكيان مستقل عن الرجل واقعًا مريرًا عبر التَّأريِّخ، فكلُّ منعطف اجتماعيّ أو سِّياسّي نجد ألمًا ووجعًا في نصف الأكبر من المجتمع (النساء)، وبقدر ما يسعى المفكرون إلى حل مشكلات المرأة وما تعانيه، يحاول الكثير منهم إنقاذ المرأة من مشكلات الكينونة والذات، التي ترتبط بسلوك المرأة ووضعها في ظلِّ متغيرات الواقع وانحسار القيم.

إنَّ ارتباط قضية المرأة بالأسرة هام إلى حد كبير، فلم تختلف المنظومات الفكريَّة أيًّة كانت على أهمِّيَّة دور الأسرة في البيت وما لها من أثر هامٍّ في تربية الأبناء، عبر ثنائيَّة الأب والأم، التي تمثِّل أهمَّ مصادر إدارة السلوك للفرد قبل بيئة الدراسة والعمل والبيئات الثّقافيَّة الأخرى ووسائل الإعلام، وفي ظلِّ تطورات العصر، تعددت مصادر الوعي بنحو معقد خلق حالة من التناقض في القيم، والمرأة اليوم تعيش ذلك الإنشطار بين موقفين:

الأوّل: موقف إثبات الذات وتحديد الموقع من خلال استثمار فرص الحضور في المجتمع خارج المنزل، وشغل الوظائف والمشاركة في فعاليَّات المجتمع، على حساب وظيفتها في المنزل أحيانًا، وهو تحدٍ واضح تعانيه المرأة في الظروف المعاصرة.

الثاني: موقف الحفاظ على سلطتها ومكانتها في المنزل ووظيفتها في إدارة سلوك الأبناء وصناعة الإنسان الذي يتحرك وفق القيم العليا...

بين هذا الموقف وذاك تتضِّح معالم المشكلة، في تجاذب مستمر بين مسؤوليَّة التربية من جهة وصخب الشارع الذي يدعو المرأة إلى التحرر من قيود المنزل من جهة أخرى، إنَّ إدراك وظيفة المرأة في المجتمع يحتِّم على الجميع تحديد الأوّلويات والتفكير بقدر عالٍ من المسؤوليَّة والواقعيَّة، وعلى الرغم من اختلاف المدارس والإتجاهات بين منظومة الدِّين ومنظومات فكريَّة متعددة حول وضع المرأة أضحت المرأة في دوامة من التصورات المختلفة حول تحديد هويِّتها الفاعلة وتسمية دورها الحقيقيّ في المجتمع على مستوى الأسرة وخارج الأسرة، فمن الثابت أنَّ دور الأسرة في صناعة الفرد لا يستغني عن المرأة المربية، حيث تجتاح الواقع الأسري جملة من التحديات التي تذوب كيان المرأة في الأسرة ممَّا يؤدي إلى غياب واضح لأثرها الإيجابيّ في إدارة السلوك، وهنا تبرز مشكلة القيم، كونها الحاكمة على وضع المرأة، بين قيم تدعو إلى تحررها من وظائفها الأزليَّة في شغل البيت وتربية الأبناء، وأخرى تدعو إلى عزل المرأة عن البيت ورميها في أحضان المجتمع تحت ضغط من عناصر كيانها البايلوجي التي تحدِّد من ظهورها بالنحو الذي يظهر عليه الرجل ممَّا يزيد في حدة المنافسة مع الرجل باتجاه إثبات الذات والقدرة على مجاراة الرجل في نشاطه خارج المنزل.

إنَّ أهمِّيَّة حضور المرأة في الوضع الأسري لا تلغي أهمِّيَّة حضورها ومشاركتها في الوضع الإجتماعيّ خارج الأسرة، وهو ما يستدعي حالة من التوازن بين متطلبات الظرفين (الداخل والخارج) وحالة التوازن هذه تمثِّل تحديًّا آخر أمام وعي المرأة المعاصرة؛ بسبب فقدان مصادر وعي قادرة على رصد وتشخيص التوازن بصيغة عقلانيَّة بعيدة عن مؤثرات التشدد الدِّينيّ من جهة، والتطرف الذي انتجته بعض النزعات النسويَّة التي أصبحت تعمل على مسخ بعض عناصر كينونة المرأة، وتتمثل المشكلة في الجانبين عبر الأنموذج الذي يقدِّمه الجانبان، فالأنموذج الدِّينيّ المتشدد منه يتمثل بالمرأة المحرومة من التعليم والمعزولة عن تطلعات الحياة، في حين يتمثل الأنموذج الذي تقدَّمه بعض حركات النزعة النسويَّة بالمرأة التي تتجاوز أطر الأنوثة باتجاه التميع والإنخراط في بيئات الفساد المرئي على مواقع التواصل الإجتماعيّ، فبين هذا وذاك أجد من الصعب أنْ يبرز خطابٌ معتدلٌ، يستند إلى العدالة لا المساواة؛ لأنَّ الأخيرة لا يمكن قياسها في ضوء معايير قيمية واضحة، فلم تكن المساواة تساوق العدل دائمًا، لذا ينبغي تحقيق المساوة من خلال العدل لا بصيغتها المجردة عن العدل، ومهما تمَّ تحري العدل ومراعاته كانت المساواة العادلة في ضمنه وتحت إطاره.

لقد كان من الضروري أنْ تنعقد الحلقات العلميَّة الجادة في اتجاه تحديد أولويات الأنموذج النسوي ورسم محددات الهويَّة النسويَّة على مختلف الصعد، في ظلِّ واقع يشهد تبددًا في القيم وأزمة حقيقيَّة في معايير السلوك وفقدان الفضيلة بجوهرها الحقيقيّ، وحتى تزييف القيم ومسخ جوهرها، وضياع أصلها، كلُّ ذلك يعبِّر عن مشكلة حقيقيَّة تكتنف الواقع الإجتماعيّ العربيّ بين تجاذبات فكريَّة تشحنها نوازع سِّياسّية وإقليميَّة، ليست محلًّا لبحثنا، لكنها ذات الأثر الواضح في ارتباك كينونة المرأة وضمور دورها الحضاريّ، وبدلًا من أنْ تكون المرأة إحدى مفاتيح الحل أصبحت في قلب المشكلة المعاصرة، فما تزال المرأة تدفع ثمن أنوثتها إلى ما ينتج عن أقصى اليمين وأقصى اليسار...

لذا تتضِّح ضرورة إعادة فهم المنظومات الناظرة في شأن المرأة سواء كانت دِّينية أم وضعيَّة بشريَّة، وإشراك المرأة في عمليَّة الفهم، وتمكينها فكريًّا من وعي حقوقها ومسؤولياتها، على أنني أدعو إلى الانتقال في التفكير من حقوق المرأة إلى وعي المرأة بالحقوق ومن تمكين المرأة إلى وعي المرأة المتمكنة، ومن المساواة إلى العدالة.

لم تكن للمرأة المساحة التي تستحقها من المكانة والحقوق طيلة تَّأريِّخ البشريَّة، سواء من قبل الأنظمة والتَّشريِّعات الوضعيَّة أو من قبل العادات والتقاليد البشريَّة، وحتى في مجال تطبيق الديانات السماويَّة وغيرها، لم يتم إنصاف المرأة بل تداخل بين ما هو دِّينيّ مع ما هو تَّأريخيّ لتلتصق بعض السلوكيَّات المتموضعة تَّأريخيِّا بالمنظومة الدِّينيَّة، وهذا الإدعاء قد يواجه نقاشًا من البعض من منطلق دِّينيّ يحاول أنْ يبرز دور الدِّين في الحفاظ على مكانة المرأة وحقوقها، لكن المساحة التي شغلها دور الدِّين ضئيلة قياسًا بحجم التَّأريِّخ  البشري الذي يختزل الكثير من التجاوز والغبن لحق المرأة، ولم تغطِّ الديانات إلّا أجزاء قليلة من التَّأريِّخ ممَّا لا يسوغ نفي الواقع الذي يكشف حجم المعاناة التَّأريخيِّة لوضع المرأة.

يمكننا أنْ نشهد بعضًا من مواجهات المطالبة بحقوق المرأة في عهد النبيِّ (ص) عندما جاءته إحداهن: (أتت إمرأة النبيِّ صلّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا نبيَّ الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة إمرأتين برجل، أفنحن في العمل هكذا إنْ عملت إمرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة؟ فأنزل الله هذه الآية {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} فإنَّه عدل مني وأنا صنعته)1، مما يعني أنَّ نزوع المرأة نحو حقوقها حاضر حتى في عصر التَّشريِّع، وهي إشارة تكرِّس أهمِّيَّة الاهتمام بوضع المرأة العام، وتحديد مشكلاتها.

تعلِّق (الدكتورة كاميليا حلمي) مسؤولة اللجنة العالميَّة للمرأة والطفل في القاهرة معلقة على أهداف هذا التيار (النزعة النسويَّة): «إنَّ حركات التمركز حول الأنثى قد تمادت كثيرًا في المطالبة بحقوق المرأة والتركيز عليها حتى بدا الموضوع يتعدى المساواة إلى الإستغناء عن الرجل، وإنَّ حركات (feminism) أي النسويَّة أو الأنثويَّة تدعو للاستغناء التام عن الرجل، يعني الإستغناء الاقتصادي والسِّياسيّ والإجتماعيّ والجنسي، فبعد أنْ كانت حالات الشذوذ بين النساء “السحاق” حالات فرديَّة أصبحت ظاهرة اجتماعيَّة مرتبطة بالنسويَّة»2، يرى المسيري أنَّ البديل عن هذه الحركة التي تغزو مفاهيمها مجتمعنا فتنقصه من أطرافه، هو دراسة قضايا المرأة العربيَّة المسلمة داخل إطارها التَّأريخيّ والإنسانيّ؛ لأنَّ مشكلة المرأة بالنهاية مشكلة إنسانيَّة لها سماتها الخاصَّة، وكذلك ينبغي أنْ نجترح حلولًا لمشكلاتنا متولّدة من نماذجنا المعرفيَّة ومنظومتنا القيميَّة والأخلاقيَّة، وإيماننا بالمشترك الإنسانيّ بيننا؛ الإنسانيّ الذي يسبق الفرد، كما يسبق الإنسان المادة، وبهذا يمكن أنْ نستبدل الحديث عن "حقوق الإنسان" الفرد، و "حقوق المرأة" الفرد، و "حقوق الطفل" الفرد، بالحديث عن "حقوق الأسرة" نقطةَ بداية يتفرّع عنها "حقوق الأفراد" داخل منظومة الأسرة، وبهذا نتجاوز فكرة تحقيق الذات بشكل فردي مطلق إلى تحقيق الذات داخل إطار الأسرة3.

من هذا المنطلق تطالب النزعة النسويَّة بحضور المرأة على مختلف الميادين، لكن النزعة تلك لم تكن على منوال واحد ولا على مستوى واحد من الظهور والحظور، فهي بين اتجاه معتدل وآخر متشدد، لذلك لا بدَّ من تناول بعض أطروحات النزعة النسويَّة ذات العلاقة بالفقه، مما يدعو إلى استحضار أهم النماذج المعاصرة التي تحاور حول الفقه والمرأة، وقد حاز اهتمامي ما كتبته الدكتورة زهية جويرو، في كتابها (الوأد الجديد)، ويمكن عرضه وتحليله بشيء من التفصيل:

مع كتاب (الوأد الجديد) كأنموذج عن واقع الفقه والمرأة:

تقدِّم الدكتورة زهية جويرو مشروعًا عن المرأة في مقالات متنوعة عن الفتوى وفقه النساء بكتابها الذي يحمل عنوان (الوأد الجديد، مقالات في الفتوى وفقه النساء) في طبعته الأوّلى الصادرة عن دار الرافدين العراقيَّة للعام 2019، وقد احتوى الكتاب على مسائل رئيسة تبدأ بـ(مواريث النساء بين النَّصِّ والتأويل، قراءات في أحكام الولايَّة والقوامة، وضع المرأة بين القرآن والفقه...) هذه أهمُّ عنوانات الكتاب التي تتناول فيها جدليَّة الفقه والمرأة، عبر عرض لعدّة مسائل مفصليَّة وهامَّة في رسم ملامح وضع المرأة الراهن إزاء التفكير الفقهيّ، ومع أنَّها ركَّزت على المنجز الفقهيّ الحنبلي أو الذي يكتب طابعًا سلفيًا، لكنها تنتهي إلى مؤشرات ذات عوامل مشتركة إلى حد ما مع بقية الاتجاهات الفقهيَّة الإسلاميَّة.

في مقدِّمة الكتاب تفترض الكاتبة أنَّ الإسلام ظاهرة ذكوريَّة بامتياز، فكلُّ ما يتَّصل بالكلام والفقه والتفسير والتأويل و...، استأثر به الرجال وهو ما يشير إلى خطور ذلك في ما يخصُّ فهم الدِّين، الذي أصبح مصاغًا ضمن رؤيَّة وذهنيَّة ذكوريَّة معبأة بتَّأريِّخ جاهلي،

كذلك تفترض أنَّ للوأد في واقع النساء اليوم أوجه متعددة لا تقتصر على المعنى التَّأريخيّ السائد للوأد، بل هي أوجه تمتد إلى معان لا تقل خطورة عن المعنى المعهود، وبحسب تعبير الكاتبة فإنَّ (مئات النساء اللاتي يلقين حتفهن سنويًا في عدد من البلدان الإسلاميَّة بتهم تتعلق بالشرف ولا يلقى قتلهن العقوبة المناسبة للجريمة هن الموؤودات الجدد، إنَّ عدد البنات اللاتي يزوّجن في سن لا يسمح لهن حتى بمجرد فهم ما يحدث هن أيضًا من الموؤودات الجدد، إنَّ المرأة التي لا يسمح لها بأنْ تقرر بنفسها إجراء عمليَّة جراحيَّة في وضعيَّة استعجاليَّة وقد تفقد حياتها بسبب ذلك وتمنع من أنْ تقرر بنفسها الدخول إلى المستشفى عند الحاجة، والطالبة التي يمنع فريق الإنقاذ من الدخول إلى الجامعة لإنقاذها من أزمة قلبية بدعوى منع الإختلاط، وتموت في مقتبل العمر بسبب ذلك، والنساء اللاتي تشوه وجوههن وأجسادهن بحامض الكلور في مناطق نفوذ الجماعات الدِّينيَّة المتطرفة بآسيا ويتم تسويغ هذه الجريمة مسوغات دِّينيَّة، وتلميذات المدارس اللاتي يختطفن من مقاعد الدراسة وتتم معاملتهن على أنَّهن سبايا حرب ويهددن بالبيع بصفتهن ملك يمين، والشابات اللاتي يزج بهن في حروب قذرة ليكنّ (مجاهدات نكاح) ويشرَّع ذلك بالفتاوى...، هؤلاء جزء من الموؤودات الجدد..) يمثل هذا النَّصّ – أغلب الظن- ذروة الكتاب وإشكاليَّته المتحمسة التي جسدت وجدان الكاتبة في سرد مجموعة من النماذج الجديدة للوأد، وربَّما لا تتسق تلك النماذج لدى بعض القارئين في الشأن الدِّينيّ، إما بسبب رؤيَّة دِّينية مغايرة أو لسبب ذكوري...، لكن القدر المشترك في تلك النماذج هو حجم الألم الوجوديّ الذي تعانيه المرأة، وربَّما لا يروق لبعضهم من ربط ذلك كلِّه بالفقه، وهو صائب إلى حد ما، لكن الواقع يفرض علاقة  بين الفقه وتلك الممارسات بشكل يكاد يكون ثقيلًا جدًّا على الذين بذلوا جهدًا كبيرًا في المعارف الدِّينيَّة وبالأخصِّ علم الفقه، وأخيرًا يشعرون بأنَّ عليهم دفع الثمن إزاء ما تظهر من إشكاليَّات ومناقشات وجدل حول المنجز الفقهيّ.

لا يوجد حقل معرفيّ من دون شوائب تستتبع النقد، وهو ما لا يتم إدراكه غالبًا، لكن الموضوعيَّة تقتضي توخي الدقة في الطرح.

وبالعودة إلى الكتاب مرة أخرى نلحظ أهم المقدِّمات التي أكَّدت عليها الكاتبة في مقدِّمتها من: (أهمِّيَّة المحاولة في كشف الطبيعة الذكوريَّة لنشاطات التفسير والتأويل والتَّشريِّع التي تمركزت التَّأريِّخ، والتمييز بين القرآن الكريم وكلِّ التراث التفسيري والتأويلي والتَّشريعيِّ الذي تشكَّل حوله، كذلك التمييز في القرآن نفسه بين ما هو ثابت وجوهري وما هو عارض مرتبط بالظرف التَّأريخيّ، ..)، إنَّ أكثر ما يثير الجدل في تلك المقدِّمات الهامَّة لدى الكاتبة هو التمييز الذي تدعو إليه في النَّص القرآنيّ بين ما هو ثابت وما هو عارض، وهو بحد ذاته يتطلب مشروعًا استثنائيًّا يتناول كثيرًا من التساؤلات حول بعض النصّوص القرآنيَّة ومدى إطلاقها الزمانيّ، وهي اليوم إشكاليَّة تتصاعد في الفضاء العلميّ والثَّقافيّ مما يعني ضرورة التفكير الجاد في دراسة إرهاصاتها وتداعياتها في الوقت نفسه.

تنطلق الكاتبة في الكشف عما تسميه (البراديغم التوحيدي) الذي يسمح باعتبار الإنسان هو المقصد الأعلى للهدي القرآنيّ بعيدًا عن الإختلافات الجنسية5، الذي تبرر عن طريقه على الأقل تجاوز بعض المواقع القرآنيَّة من حيث كونها مواقع زمنيَّة، غير قابلة للتعميم، وهو من أخطر ما استندت إليه في خطابها النسوي، إذ لم يحسم بعد ما في السُّنَّة والاحاديث من نصّوص زمنية أو تدبيريَّة فكيف بالقرآن الكريم..؟، ومن المسائل الهامَّة التي تناولتها في كتابها هي المتعلقة بالميراث، وما تتضمنه من اختلاف في الفروض بين الذكر والأنثى، فناقشت قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) بحجة تتعلق بما سبق من الإصرار على اعتبار جزء كبير من النصّوص القرآنيَّة نصّوصًا زمنية محددة بظرفها التَّأريخيّ والزماني، كذلك الحال في مناقشتها لأحكام الولايَّة والقوامة، وهو ما يظهر جليًّا في صفحات كتابها6 .

إذن هي بصدد تقديم خطاب ورؤيَّة مغايرة للسائد والمشهور في العرفة الفقهيَّة الإسلاميَّة من تباينات في وضع المرأة عن الرجل، وتشير إلى وجود فهم غير منصف عن المرأة ووضعها ومكتسباتها، عبر استشهادها بما ذكره الثعلبي في (عرائس المجالس) من العقوبات الوجوديَّة للمرأة والتي تبلغ خمسة عشر عقوبة أنزلها الله بحواء وببناتها نتيجة خطيئة أمهّم إذ يذكر (وابتليت حواء وبناتها بهذه الخصال وبخمس عشرة سواهن أولاها الحيض... الثانية ثقل الحمل الثالثة الطلق وألم الوضع .. الرابعة نقصان دِّينها الخامسة نقصان عقلها السادسة أنَّ ميراثها النَّصف من ميراث الرجل، السابعة تخصيصهن بالعدّة والثامنة جعلهن تحت أيدي الرجال والتاسعة ليس لهن من الطلاق شيء ولا يملكن ذلك إنَّما هو للرجل، والعاشر حرمن الجهاد الحادية عشرة ليس منهن نبيٌّ الثانية عشرة ليس منهن سلطان ولا حاكم الثالثة عشرة لا تسافر إحداهن إلّا مع ذي رحم محرم الرابعة عشرة لا تنعقد بهن جمعة الخامسة عشرة لا يسلم عليهن)7، هذا التصور السائد في الذهنيَّة الذكوريَّة من النخبة المعنيين بالمعرفة الدِّينيَّة بالتحديد هو ما كرَّس مغبونية المرأة كما تشير إلى ذلك الدكتورة جويرو، فتذكر (أنَّ هذا الفهم هو الذي شكَّل مرجعيَّة عموم التصورات المحددة للوضع الاجتماعيّ والقانوني، وحتى العقائدي للنساء،.. ولو نظرنا في الأحكام التي تروجها الفتاوى المتداولة على امتداد قرون وإلى حد اللحظة نلاحظ بيسر أنَّ تلك العقوبات ما زالت سارية المفعول بل أنَّها تحولت إلى أحكام ثابتة لا تتزحزح..)8 .

هكذا خطاب متكون بدافع من الشعور بالمظلوميَّة لا يمكن صده بسهولة، بل لا يمكن التعامل معه بمنطق الصد، وحتى الحوار سيكون غير متكافئ وغير مساوٍ له ما لم يتساوى منطق التفكير، وطريقة الفهم، كذلك يجب التساوي في معايير التقييم للأفكار، ربَّما يجب أنْ تتحاور مع هذه الكاتبة (المتطرفة في نظر الكثيرين)، إمرأة عالمة مطلعة من الاتجاه المدرسي الذي يتمتع بالكثير من عناصر القوّة مثل المشهور الفقهيّ وغيرها من الحدود المانعة لأنماط عدّة من الحوار والتساؤل.

***

د. اسعد عبد الرزاق الاسدي

.......................

1- الصحيح من أسباب النزول ص 119

2- حقيقة الحركات النسويَّة المعاصرة، مجلة الوعي، العدد 238 - العدد 328 – السنة الواحدة والعشرون، ذو القعدة 1427هـ، الموافق كانون الأوّل 2006م

3- ظ: المسيري، عبد الوهاب، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى: 38، ط2، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2010

4- زهية جويرو، الوأد الجديد، مقالات في فتاوى وفقه النساء: ص 9

5- ظ: المصدر السابق: ص 14

6- ظ: المصدر السابق: 29و 47

7-  الثعلبي النيسابوري، قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، مطبعة الحيدري، المنبئ 1295هـ، ص57

8- المصدر السابق: ص86

 

في المثقف اليوم