أقلام فكرية

الاستراتيجيات الرواقية الثلاث لمواجهة النكسات والأحزان

كانت الرواقية واحدة من أهم المدارس الفلسفية في اليونان القديمة وروما، وكانت ايضا الأكثر تأثيرا. كتابات المفكرين الرواقيين مثل سينيكا وابكيتوس وماركوس اوريليوس قُرأت واُخذت على محمل الجد من جانب الباحثن ورجال الدولة لأكثر من الفي سنة. في كتابه القصير والممتع (مرشد للحياة الجيدة: الفن القديم لمتعة الرواقية، مطبوعات جامعة اكسفورد، 2009)، يجادل الكاتب وليم ايرفين William Irvine بان الرواقية فلسفة للحياة متماسكة ومثيرة للاعجاب. هو ايضا يدّعي ان العديد من الناس الآن سيكونون أسعد حالا لو اصبحوا رواقيين. هذ الادّعاء مثير للاهتمام. كيف يمكن لنظرية وممارسة فلسفية تأسست قبل الثورة الصناعية بـ 1500 سنة يمكن ان تكون لها صلة بحياتنا الحالية التي نعيشها في عالم متغير تقوده التكنلوجيا؟

ايرفين لديه الكثير ما يقوله في الرد على السؤال. لكن الجزء الأهم في أجوبته هو وصفه لإستراتيجيات معينة نصح بها الرواقيون ليستعملها كل فرد في حياته اليومية. ثلاث من هذه الاستراتيجيات الهامة هي : التصور السلبي، استيعاب الأهداف، وإنكار الذات المنتظم.

التصور السلبي Negative visualization

الرواقي ابكتوس نصح بانه عندما يقول الوالدان لطفلهما تصبح على خير، هما يتوقعان إمكانية ان يموت الطفل اثناء الليل. وعندما تقول وداعا لصديق، فانت تذكّر نفسك بانك ربما سوف لن تراه ابدا. وعلى نفس الخط، انت قد تتصور ان بيتك الذي تعيش فيه قد تحطم بفعل حريق او اعصار، او المهنة التي تعتمد عليها قد ضاعت، او سيارتك الجميلة التي اشتريتها توا قد جرفتها شاحنة مسرعة.

فوائد تصوّر الأسوأ

لماذا استحضار هذه الأفكار غير السارة؟ ما الشيء الجيد الذي نحصل عليه من ممارسة ما يسميه ايرفين "التصور السلبي"؟

هناك عدة فوائد في تصوّر إمكانية حدوث الأسوأ:

1- توقّع المصائب يمكن ان يقودك لأخذ الاحتياطات . فمثلا، حين تتصور ان عائلتك ستموت في تسمم غاز اول اوكسيد الكاربون ذلك قد يحفزك لتثبيت كاشف للغاز السام.

2- اذا كنت تصورت سلفا احتمال حدوث شيء ما سيء، انت ستكون أقل صدمة لو حدث ذلك فعلا وأقل خيبة. التصور السلبي هنا وفي كل مكان يهيئنا ذهنيا وعاطفيا للتعامل مع التجارب غير السارة عندما تأتي – كما لو انها حدثت فعلا.

3- ان التأمل في خسارة شيء ما يساعدنا في الإعتزاز به جيدا. عندما نشتري بيت لأول مرة او سيارة او غيتار او تلفون حديث، نحن نعتقد انه رائع. ولكن خلال وقت قصير، جاذبية الحاجة ستتآكل ويتضائل رونقها ولم نعد نجد فيها أي إثارة او إهتمام. لكن تصوّر خسارة شيء ما هو طريقة لتجديد تقديرنا له. انه تكنيك يساعدنا لإتباع نصيحة ايبكتوس ونتعلم حب الشيء الذي لدينا سلفا.

الحجة الثالثة من بين حجج ممارسة التصور السلبي هي الأكثر أهمية والأكثر اقناعا. وتذهب الى ما وراء الحاجات كشراء تكنلوجيا جديدة. هناك الكثير في الحياة يجب الإمتنان له، مع ذلك نحن نجد أنفسنا نشكوا من نقص الاشياء. غير ان كل من يقرأ هذا المقال هو ربما يعيش نوعا من الحياة يراها معظم الناس سارة جدا. لا حاجة للخوف من المجاعة، الاوبئة، الحرب، الاضطهاد العنيف. هناك في المقابل المضادات الحيوية، التخدير، الأدوية الحديثة، الاتصال الفوري مع أي شخص في العالم، القدرة للذهاب الى أي مكان خلال ساعات، دخول سريع للادب العظيم والفن والموسيقى والعلوم من خلال الانترنيت. القائمة في الامتنان للأشياء تطول. التصور السلبي يذكّرنا كأننا "نعيش في حلم".

استيعاب داخلي للأهداف Internalization of Goals

نحن نعيش في ثقافة تضع قيمة هائلة للنجاح العادي. لذا ترى الناس يكافحون للوصول الى جامعات النخبة، للحصول على الكثير من الثروة، لخلق عمل ناجح، ليصبحوا مشهورين، ليحققوا مكانة عالية في عملهم، ليربحوا الجوائز وما شابه. المشكلة في كل هذه الاهداف، هي ان المرء سواء نجح ام لم ينجح، يعتمد في الجزء الاكبر منها على عوامل خارجية لا يستطيع السيطرة عليها.

افرض انك تريد ان تصبح مشهورا بالموسيقى، لا يكفي فقط عمل موسيقى عظيمة، موسيقاك يجب ان تصل الى آذان الملايين من الناس، وهم يجب ان يحبوها. هذه المسائل لا يمكن السيطرة عليها بسهولة.

قرّر ما يمكنك السيطرة عليه

لهذا السبب، الرواقيون ينصحوننا لنميّز بدقة بين الاشياء التي تقع ضمن سيطرتنا والاشياء التي وراء سيطرتنا. رؤيتهم هي اننا يجب ان نركز كليا على الاولى. وهكذا، نحن يجب ان نشغل انفسنا بما نختار للكفاح من أجله، في كوننا ذلك النوع من الناس الذي نريد ان نكون عليه، في العيش طبقا لقيم صائبة وسليمة. هذه هي كل الأهداف التي تعتمد كليا علينا وليس على العالم وطريقة تعامله معنا.

وهكذا، اذا كنتُ موسيقيا، هدفي لا يجب ان يكون امتلاك الرقم الاول من حيث الشهرة، او بيع مليون كاسيت، او العزف في قاعة شهيرة، او اللعب في نهائي اتحاد لعبة كرة القدم. بدلا من ذلك، هدفي يجب ان يكون عمل أفضل موسيقى استطيع أدائها ضمن النوع الذي أختاره. بالطبع، محاولتي القيام بهذا سوف تزيد فرصتي في اعتراف الجمهور بنجاحي. ولكن اذا لم يوجد هناك تشجيع لهذا، انا سوف لن أفشل، ولا يجب ان أشعر بالخيبة، لأني مازلت أشعر حققت الهدف الذي وضعته لنفسي.

ممارسة إنكار الذات

الرواقيون يجادلون اننا احيانا يجب ان نحرم انفسنا عمدا من متع معينة. مثلا، اذا كنا عادة نتناول حلوى بعد الطعام، نحن ربما نمتنع عن هذا مرة كل بضعة ايام. الرواقيون يشجعون تعريض النفس الى عدم الراحة طواعية. مثلا، احد لا يأكل لمدة يوم، لا يلبس أثناء الطقس البارد، يحاول النوم على الارض، او الإغتسال بماء بارد.

أسباب استعمال هذه الاستراتيجية

الأسباب هنا مشابهة لأسباب ممارسة التصور السلبي.

1- إنكار الذات يجعلنا اكثر قوة بحيث اذا كان علينا التعامل مع الصعوبات اللاطوعية او عدم الراحة، سنكون قادرين على هذا. هناك فكرة مألوفة جدا، وهي لماذا يبني الجيش مخيما صعبا للتدريب. الفكرة هي اذا اصبح الجنود معتادين على المصاعب بانتظام، هم سوف يتكيفون معها بشكل أفضل. وهذا النوع من التفكير من جانب القادة العسكريين يعود الى اسبارطة القديمة. في الحقيقة، الاسبارطيون العسكريون كانوا مقتنعين جدا ان حرمان الرجال من الرفاهيات يجعلهم جنودا أفضل لدرجة ان هذا النوع من الإنكار اصبح جزءا من طريقتهم في الحياة. حتى اليوم، كلمة "اسبارطي" تعني الإفتقار الى الرفاهية.

2- ان إنكار الذات يساعدنا في تقدير قيمة المتعة والراحة التي نتمتع بها كل الوقت. الأكثرية يتفقون مع هذا نظريا، ولكن المشكلة في وضع النظرية موضع التطبيق. بالطبع ان تجربة عدم الراحة الطوعية هي غير مريحة. الاطلاع على قيمة نكران الذات هو جزء من سبب إختيار الناس الخروج والمبيت خارج المنزل كنوع من السياحة.

ولكن هل الرواقيون على صواب؟

الحجج في تطبيق هذه الاستراتيجيات الرواقية تبدو مقنعة جدا. ولكن هل يجب الإيمان بها؟ هل التصور السلبي، استبطان الاهداف، وممارسة إنكار الذات حقا تساعدنا في ان نكون سعداء؟ الجواب الأكثر احتمالا هو انه يعتمد لمدى معين على الفرد.

التصور السلبي قد يساعد بعض الناس في تقدير تام للأشياء التي يتمتعون بها. ولكنها قد تقود الآخرين ليصبحوا قلقين على امكانية خسارة ما يحبون. شكسبير في القصيدة 64، بعد وصفه عدة أمثلة عن تحطيم الزمن، يكتب:

الزمن علّمني ان اتأمل بأن

سوف يأتي يوم ويأخذ مني ما أحب.

هذه الفكرة هي كالموت الذي يأتي بلا اختيار

لكن أبكي على امتلاك ما أخشى ان أفقده

يبدو بالنسبة للشاعر ان التصورات السلبية ليست ستراتيجية للسعادة، بالعكس، انها تسبب له القلق وتقوده ليكون ملتصقا أكثر بتلك التي سيفقدها في يوم ما.

استيعاب الأهداف يبدو معقولا جدا : قم بواجبك وتقبّل حقيقة ان النجاح الموضوعي يعتمد على عوامل لا تستطيع السيطرة عليها. ولكن، بالتأكيد، أمل النجاح الموضوعي في المدالية الرياضية او الحصول على نقود، او الفوز في جوائز ثمينة يمكن ان يكون محفزا جدا . ربما هناك بعض الناس لا يهتمون بمثل هذه العلامات الخارجية للنجاح، ولكن أغلبية الناس يهتمون بها. وبالتأكيد ان عدة انجازات انسانية رائعة كانت متحفزة على الأقل جزئيا بالرغبة بها.

إنكار الذات خصيصا لا يروق لمعظم الناس. غير ان هناك بعض الأسباب للافتراض انه حقا يجعلنا ذلك النوع الجيد من الناس الذي يدعو اليه الرواقيون. التجربة الشهيرة في هذا تمت من جانب السايكولوجيين في جامعة ستانفورد في السبعينات من القرن الماضي والتي استلزمت جعل الاطفال يرون الى أي مدى يستطيعون الامتناع عن تناول نوع من الحلوى من أجل الحصول على مكافأة اضافية. النتيجة المدهشة للبحث ان اولئك الاطفال الذين كانوا قادرين على تأجيل الرضا قاموا بأفضل أداء في أخر سنوات حياتهم في عدد من المجالات مثل الانجاز التعليمي والصحة العامة. من خلال إنكار الذات نبني السيطرة على الذات، وهي العنصر الرئيسي للحياة السعيدة.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم