أقلام فكرية

دي سوكا.. ومقولات فلسفة القرون الوسطى

كان دي سوكا 1401- 1464 كاردينالا كاثوليكيا من اشهر فلاسفة القرون الوسطى الاوربية. يؤمن بالوحي بعد ان درس القانون والرياضيات والفلسفة وترسخت لديه النزعة العلمية الى جانب اللاهوت. انتقل الى جامعة بادوفا  في ايطاليا وكانت معقل الرشديين – نسبة الى ابن رشد -. هادن دي كوسا البروتستانتية والكالفينية بنوع من التقوى والعلم وحسن السلوك. وصفه معاصروه انه موسوعة (حيّة) لغزارة علمه وتضّلعه باللاهوت والعلم. وكان لا يخفي محاولاته حث الناس على التفكير العلمي والاخذ بمنجزات العلم. خاصة في مجالي الفلك والرياضيات.

وقف دي سوكا بوجه النزعة الرشدية المعاصرة له علما انه من مؤيدي منهج العقل كمثل ابن رشد. كما اعتبر الاحساسات متفرقة ما يجعلنا ندرك الاجسام ادراكا غامضا.وهذه العبارة ترجمة حرفية للمقولة الفلسفية المعاصرة ان الحواس هي تضليل العقل.

امتاز دي سوكا بعبارات فلسفية منها على سبيل الاستشهاد "ان الله خلق العالم عن قصد وليس عن ضرورة" . ما ينفي كل اشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق" ص15 من المصدر. بهذه العبارة اراد دي كوسا تحقيق الغايات التالية :

انه فيلسوف ينتمي الى الافلاطونية الجديدة فهو يرفض مذهب وحدة الوجود الذي زامن جميع الديانات التوحيدية وحتى الوثنية مثل البوذية والزن والهندوسية بفرقها الصوفية العديدة واخرى غيرها. كما رفض دي سوكا الصوفية غير الالمانية دليل تعبيره " خلق الله العالم عن قصد وليس عن ضرورة ما ينفي كل اشتراك بين الخالق والمخلوق.".لكنه لم يتخلّ عن ايمانه بالصوفية الالمانية التي لا تمتلك مواصفات متمايزة عن صوفية الاديان عالميا.

لا اعرف ان الصوفية الالمانية التي يؤمن بها دي سوكا تؤمن بما يقوله ام لديها فلسفة صوفية خاصة تخرج بها عن المنهج الصوفي الديني الطاغي الذي يؤمن بوجود علاقة ترابطية اشراقية بنوع ما يسمى الحلول الصوفي بالذات الالهية تجمع الخالق بالمخلوق نورانيا لا جسديا. من المهم التنويه الى ان دي سوكا لم يكن ايمانه الصوفي خارج الحلول الذاتي بين الله والمسيح. اي كان يفهم الصوفية الصادقة هي التي تنبع من ثوابت معجزات السيد المسيح المثبتة لاهوتيا. وليس من ادبيات تجارب الطرق الصوفية المتعددة الاختلاف والتنوع حتى في الطقسية الدينية منها.

طبيعي ان يكون فيلسوف اسقفا كاثوليكيا مثل دي سوكا لا يفسر كل شيء بمنظار ورؤية لاهوتية ميتافيزيقية ويدافع عن العلم بنفس الوقت في مراوغة تلفيقية. وبغير ذلك يمكننا رفض القصدية والضرورة ان تكونا سببيا في خلق الله العالم والوجود. قصدية الخلق اللاهوتي في الاديان التوحيدية تتلخص بعبادة الخالق الله وليس بضرورة الخلق لما يرغبه الانسان بصفات خالقه.. الحقيقة اللاهوتية الراسخة بالاديان هي ان خلق الانسان والعالم والطبيعة من اجل اثبات الايمان بوجوده. بل كانت الرغبة الدفينة في اعماق انثروبولوجيا وجود الانسان والطبيعة والحياة نابعة من حاجة الانسن لمعبود الهي وليس العكس في ان الرب بحاجة الايمان بوجوده.

علاقة الانسان بالخالق غير موجودة في اي نوع من الافتراضات التي منها القصدية او الضرورة. الصوفية وبالتحديد الالمانية التي يؤمن بها دي سوكا تجعل السعي نحو التواصل بالخالق اكثرلمعرفة صفاته وخلعه بركاته اهمية مقبولية من القصدية او الضرورة الطبيعية في ايجاد علاقة سببية تجمع الخالق بمخلوقه صوفيا دينيا.

عبارة دي سوكا بتغليب القصدية الالهية على الضرورة السببية التي رفضها لا يبقى بعدها رابط بين الخالق والمخلوق وبذلك يمكن تمريرادانة تنسف لاهوت وافكار الاديان التي لا تعتبر الانسان مخلوقا بارادة الهية في الايمان بوجوده وإفشاء السعادة الارضية والسماوية في حياة هانئة.

وما جاء به الانبياء والرسل من كتب مقدسة منزلة عن طريق الوحي تذهب لمثل هذا التسويغ السببي لماذا خلق الله العالم؟..حسب التماهي مع اللاهوت الديني نجد انعدام القصدية المسبقة والضرورة لا تحضران سببيا ابدا. فخلق عالمنا الذي نعيشه هو بداية  طرد ادم وحواء من الجنة في الاسطورة الدينية فهي بمنزلة عقاب لمعصية الخالق لا قصدية ارادة الهية فيها تكون ملزمة ولا فيها ضرورة موجبة في معاقبة الانسان على خطأ ارتكبه بوسوسة شيطانية لآدم وحواء. ما ترتب عليه طردهما من الجنة..

في هذا النص الديني المجمع عليه من الاديان التوحيدية الثلاث لا نجد لا هدفا قصديا اراده الخالق من خلقه الانسان وعالمه الارضي كما لا نجد ضرورة استبعدها الخالق في خلقه العالم في استبعاد مركزية الانسان محور كل شيء بالحياة التي جاءت متاخرة جدا في تطور الوعي الديني عند الانسان.

مقولة بروتا غوراس في القرن الخامس قبل الميلاد (الانسان مقياس كل شيء) كانت سبّاقة لمركزية الانسان في الطبيعة والدين. وقبل طرد ادم وحواء من الجنة لم يكن هناك لا قصدية ولا ضرورة للخلق حيث كانت الطبيعة والانسان بها معطى طاريء شقه الانسان القديم بمنهجه الانثروبولوجي. ونجد من المفيد التاكيد على ان الفلسفة البنيوية وظلتها ما بعد الحداثة كفرت مركزية الانسان في اي منحى من مناحي الحياة لانه يحمل قصوره الناقص معه.

انفرد دي سوكا عن جميع الافلاطونيين الجدد الذين لم يكونوا يؤمنون بالوحي فهم غالبيتهم اصحاب دين طبيعي قائم على توليفة تضم الله والنفس والخلود والحرية حيث ارادوا الافصاح عن الفلسفة انها مسيحية الانتساب. بخلاف دي سوكا الذي كان يؤمن بالوحي المسيحي متاثرا بنزعة التصوف الالماني في عصره. لكنه عارض الصوفية بمعناها في الاديان الاخرى. كما لم يؤمن دي سوكا بمذهب وحدة الوجود ولا بمعنى الحلول والذوبان الروحاني في نور الذات الالهية الا فقط كما جاءت به الاناجيل في العلاقة العضوية بين الله والمسيح..

عبّر دي سوكا انه لايوجد ماهو مشترك بين الخالق والمخلوق وبذلك اصاب الصوفية ومذهب وحدة الوجود في المسيحية والاديان بمقتل.. لكنه اخرج كلا من الفلسفة واللاهوت المسيحي في طوق النجاة من الميتافيزيقا الى ايمان ادراك العقل بالسببية القلبية غير العقلية. التي استمدها منه سورين كيركجورد حينما وجد نفسه يصطدم في استحالة خلق توليفة ثنائية تجمع الايمانين القلبي والعقلي..

كان دي سوكا يمّهد اذهان العوام من الناس القبول بمنجزات العلم خاصة في الفلك والرياضيات وحقوق الانسان . لكنه اتهم الرشدية العقلية بالالحاد ما يشي الى تناقض جلي واضح في جمعه بين العلم واللاهوت. فقد كان ابن رشد فيلسوفا عقليا بامتياز رغم تمكن اللاهوت المسيحي من ادانة افكاره الفلسفية التي تعلي شأن العقل.. الى ان اعادت اهمية ابن رشد في وقت متاخر من عصر الانوار.

امتاز دي سوكا بعبارات غامضة تفصح عن خزين فلسفي لاهوتي ومعرفي غزير يمتلكه. من اقواله (الله اوجد العالم عن قصدية لا عن ضرورة. وهذا ينفي كل اشتراك بين الخالق والمخلوق). ص 16 من المصدرفي الهامش. ناقشت العبارة واعود تسجيل اضافات عليها.

اعود ثانية لمناقشة العبارة بعد ان تناولتها باسطر سابقة:

العبارة غامضة فلسفيا ومن الصعب حصر تاويلها بفهم احادي يقاطع جوانب الاجتهاد المتعدد في زوايا الرصد والتوضيح والمناقشة الهادفة..القصدية بمعناها الفلسفي هي وعي الوصول القصدي سلوكا معرفيا نحو هدف مرسوم سلفا بالفكر العقلي وليس هدفا يتوصله منهج ميتافيزيقا التفكير. عليه ما هو هذا الهدف الذي ليس ضروريا الذي أدان دي سوكا الاخذ به؟. القصدية خارج وداخل الايحاء الديني الصوفي لا تعفي العقل من ضرورة او وجوب انتساب المخلوق للخالق.

يتوجب التنبيه اني في هذه المقالة اناقش خلق الوجود الهيا وليس في نظرية كوزمولوجية علمية فيزيائية فلكية في الذهاب العالم مخلوق لا غائيا ناتجا عن الانفجار العظيم.

اجد في اولوية معنى القصدية هو الغاء الضرورة ان يكون خلق العالم تم تلبية ضرورة جعلت من الوجود المركزي للانسان على الارض وفي العالم محورا قصديا وليس ضروريا لرغبة المخلوق الانسان الذي وضع كل ثقله الوجودي في كامل قضاياه الكارثية في بؤس الحياة على عاتق وجوب وضرورة الخالق حلها من اجل الانسان وتخليصه من مازق وجوده الارضي المسؤول عنه الخالق وليس المخلوق.. كل انواع الطقوس في العبادات الدينية هي مناشدات ايمانية غيبية شعائرية  تتوسل الخالق رفع الكوارث والمآسي والفقر والظلم عن الانسان بقوى الله الخالق الخارقة التي لا يستطيعها الانسان بمحدوديته. المستطاع عمل كل شيءالهيا بلحظات معدودة فالله يقول كن فيكون.

لو نحن راجعنا تاريخ انثروبولوجيا الانسان وتطوره التاريخي لا نجد عصرا لم يكن فيه الانسان مركزي الوجود في أي عصر من العصور. وعاشت الفلسفة تاريخا ضخما جعلت مركزية الانسان بعلاقته بالوجود الفلسفة الاولى. ما بعد الحداثة اليوم هي التي اعتبرت لامركزية الانسان بمثابة تحرير الفلسفة من الدوران حول قضايا ومشكلات لم يعد لها تلك الاهمية في عصر تجاوز الحداثة في جميع القضايا التي كانت مرجعيتها الانسان مثل العقل، العلم، علم النفس، هيمنة السرديات الكبرى بايديولوجياتها التي ادخلت الانسان في نفق التيه الوجودي في بحثه عن الخلاص بلا جدوى. وكل ذلك جرى في وجوب تنصيب المعرفة(الابستمولوجيا) هي الفلسفة الاولى التي كانت من اولويات فلسفة ديكارت في القرن السابع عشر..

ربما يحضرني هنا ما بعد الحداثة في طروحاتها الهجومية اللاذعة على الحداثة انما كانت تتكيء بظهرها على الطروحات الفلسفية الوجودية القريبة جدا منها والاقرب منها هي الفلسفة البنيوية.. حتى المعرفة اعتبرتها ما بعد الحداثة استغفال الانسان تاريخيا بما لا يمكن تحقيقه. النهضة الاوربية التي استطاعت تخليص بلدانها من التعاليم الارسطية وتداخل بعضها تعاليم فلسفة ديكارت معها بما يعزز قيم الحرية وحقوق الانسان الاساسية وتمجيد العقل وفصل الدين عن الدولة وغير ذلك التي سادت اوربا لالفي عام استمرت الى مرحلة ما بعد عصر الانوار الذي استولد من جوفه مختلف الفلسفات مثل بزوغ الماركسية، والوجودية، والبنيوية وصولا الى التاويلية والتفكيكية التي كانت جميع تلك الفلسفات تتغذى طروحات ما بعد الحداثة ليس في مركزية الانسان بل في مركزية التحول اللغوي وفلسفة اللغة ونظرية المعنى منذ منتصف القرن العشرين..

الغاء مركزية الانسان في الفلسفة تبنته باستماتة الفلسفة البنيوية اول نشوئها ثم تخلت عن الاستمرار فيه. واحيت البنيوية طروحات دي سوكا المخلوق لا يشارك خالقه ولا حتى بصفة من الصفات التي اخترعها الانسان في وصفه الخالق بها وخلعها عليه في امنيته العاجزة الوصول لتحقيقها في ذاته كانسان وكذا في الصوفية ومذهب وحدة الوجود(هذه نجدها في فلسفة فيورباخ)، وبهذا الافتراض العقيم الذي لا يمثل قاسما مشتركا بين الخالق والمخلوق يجعل من ضروروة تعالق الانسان بالخالق غير موجودة مطلقا حسب دي سوكا الذي كانت طروحاته الفلسفية قبل ستة قرون من الان.. الفلسفة البنيوية استبعدت مركزية الانسان المادية بتنوع تمظهراتها واستبدلت بهذه المركزية الشائخة مواضيع تتعالق بفلسفة اللغة والعقل ونظرية المعنى وفلسفة العقل واللسانيات...

البنيوية كانت وسيلة هدم كل ما انجزته الحداثة بالهام وتبعية كل ما قالت به ما بعد الحداثة وحتى الذي لم تقله توزعت هذه المهام على كل من شتراوس، فوكو، لاكان، التوسير، بارت، بياجيه،ديلوز، وريكور والعديد غيرهم من فلاسفة البنيوية الذين تناسلت عنهم اجيال من فلاسفة اميركان جعلوا من فلاسفة اوربا جميعا تلاميذ لهم يتعلمون منهم. فكانت عودة فلاسفة اوربا من فرنسيين والمان وبلدان اوربية اخرى الى ديارهم بعدما وجدوا الاميركان مبدعين فلسفيا افضل منهم فيما وجدوه من إفاق علوم اللسانيات وفلسفة اللغة والتحول اللغوي.

كما ان القصدية التي جعلت العالم يخلق لاهوتيا تلبية لها هي الاخرى اصبح شك تبريرها التسويغي امرا واضحا حينما نجد اهم خاصية للاديان التي جعلت من ثنائية الخالق والمخلوق غاية الوجود الانساني الارضي اصبحت رغبة من مخلفات الماضي في تاريخ الانسان. وآراء دي سوكا في خلقه توليفة دينية عقلية علمية يشبكها التكامل المعرفي لم تكن تلائم حتى تفكير اناس عصور القرون الوسطى. وما ذاقوه من ويلات كارثية مصدرها رجال الدين ومحاكم التفتيش الوحشية والفيلسوف دي سوكا احدهم اسقفا في كنيستهم.

كمال التفكير في وقف التفكير

عبارة دي سوكا هذه من اعمق واجمل المقولات الفلسفية التي يجذبك فيها ليس عبقرية الصياغة اللغوية وحسب. بل تجد فيها مديات كبيره من مدخّرات في معرفة مناحي التوضيح الالتباسي الذي يبقى ناقصا على الدوام بما تحمله اللغة من فائض معنى مدّخر يجعل تعبير اللغة ناقصا على مدار تعدد القراءات.. ولذا شاعت القراءة الجديدة بصلب الفلسفة البنيوية واعتماد خلفية الحفريات الاركيولوجية ليس بالتسليم بها بل في نقدها علميا بضوء تاريخيتها.

اولا لا يوجد تفكير كامل تحده نهاية تفكير يقاطع التفكير السابق عليه ويوقفه عند حد ذاتي او موضوعي ليبدأ من الصفرالشروع بالتجديد. جاستون باشلار يعتبر التصفير المعرفي ليس معناه دفن كل ماض علمي سابق ليبدأ العلم من بداية شروع جديدة في اماتتها ما سبق ماضيا. بل اعتبرباشلار التصفير المعرفي هو بداية علمية لا يمكن تجاوزها بالنفي وكان يقصد تراث كل امة تحاول مطاولة الزمان في ايجادها هوية متجددة ومتغيرة على الدوام في المستقبل وترك المتهالك منها.

وليس شرطا ان يقف التفكير بقواه الذاتية التي لم تعد تستطيع الاضافة التفكيرية في الاستمرار او يقف التفكير حين يلاقيه فكرا يجانسه بالماهية والصفات وهذه المجانسة النوعية هي خصائص انفرادية بكل شيء مستقل وجودا.. كما ان التفكير وجود مفتوح النهايات لطموح تفكيري غير موجود ممثلا بالسعي نحو الحقيقية التي هي تجميع تراكمي خبراتي. لافائدة من تكرار ما قيل بل الاهم اختراع تفكير ما هو جديد لم يسبق تداوله معرفيا..

اجد في وقف التفكيرعند نهايات مقفلة غير مفتوحة لا تقبّل الاضافات المتجددة يعني جعل  كمال التفكير السابق على وقف التفكير ناقصا لامعنى له. كما ان كمال التفكير هو انك لا تراه بالتوقف مرحليا في وضع حد للتفكير. كما ان التفكير حين يتوقف يعني انه وصل منتهى ما يستطيع التعبير عنه باستمرارية معرفية متجددة تواكب الحياة التي توصلها ويعيشها بلا توقف ولم يتبق لديها ما هو جديد يستوجب الاستمرارية في عدم التوقف..

ثم توجد زاوية نظر اخرى ان ايقاف التفكير بقواه الذاتية الارادية يعني الايمان بأن التفكير مطلق لا نهائي لا يحده شيء من التفكير المتجدد الطموح.. وبهذا لا يفقد التفكير القديم قيمته الزمانية وربما ابعد من ذلك قيمته التاريخية. فلو ادعى اصحاب التفكير بالوقوف الذاتي وأنه لا جديد لما يضاف له باستمرارية متجددة.  عندها فقط نستطيع التسليم أن نهاية التفكير تعني مطلقه النهائي بمنطق لاهوت جميع الاديان وليس بمنطق الفلسفة. وجود الانسان هو وجود التفكير الذي يلي وجوده الانطولوجي باستمرار في ملازمة ليس لها حدود. المعرفة مفهوم علمي وفلسفي وفي غالبية مناحي الحياة لا يلازمها لا وقف التفكير بعدم الاضافة ولا وقف التفكير بالوصول الى كمال افتراضي مزعوم.

الحركة والسكون

يعدم دي سوكا التضاد الحركي في الاشياء معتبرا الحركة سكونا مضمرا داخليا يعرب عن نفسه في متواليات من الحركة غير المنظورة ادراكيا التي تكون مدخّرة في فائض معنى مستمر واضافة معرفية في نهاية كل سكون قوله (الحركة اذا كانت سكونات متتالية اتفقت مع السكون وهكذا في جميع الاضداد).

هنا تخطئة العبارة يكمن بأي شيء ندرك الحركة فيه تكون سكونا متقطعا على مسار دوام استمرارية وقفات سكونية للحركة وبذلك تكون الحركة هي اتفاق يلاقي  سكون يشمل جميع الاضداد على حد تعبير دي سوكا..

ما يجمع الاضداد هو الحركة بلا سكون يفصل بينهما، والحركة المتتالية في جمع ضدين لا يدخلان نفق تكامل الحركة مع السكون وتنتهي بذلك الحركة التضادية بين الاضداد. ثم كيف لسكون يمثل احد قطبي التضاد يمتلك سكونا يوقف حركة التضاد في الطرف الاخر من ثنائية التضاد ويحتويه سكونيا؟. حركة التضاد في شيء يستوجب بالضرورة حركة تضاد اخرى تناوئها الحضور.

لا اعتقد دي سوكا الفيلسوف اللاهوتي كان قد عرف معنى التضاد الجدلي الديالكتيكي المادي او المثالي الهيجلي الذي ظهر بالقرن الثامن عشر.في حين دي سوكا عاش في القرن الخامس الميلادي.

آخر المواعظ اللاهوتية التي القاها دي سوكا قوله (اوصي وجوب الابتعادعن شخصنة الله انه متعين فوجود العالم (لاوجود) بالقياس الى وجود الله الذي يحتوي كل شيء). قبل الدخول في مناقشة العبارة اقول اثبت علم الفيزياء ان وجود العالم هو نقطة في سديم لانهائي من الكواكب والمجرات فاين تكون المجموعة الشمسية وليس الارض وحدها في خضم هذا السديم الفضائي الذي لا يمكن تصوره؟. طبعا لا قيمة لوجود مخلوق مقارنة بقدرات الخالق.

الشخصنة الالهية لا يسلم منها دين من الاديان الوثنية او الاديان التوحيدية فصفات الله هو ما يردده المخلوق في قراءته لكتاب ديني مقدس. وهذه الصفات الالهية هي صفات مدركة من قبل المخلوق لانه هو خالقها وخالعها على الخالق والا بطلت شروحات ادبيات الاديان للمجموع الذي يتشيث في تقليده صفات الخير الموجودة بالخالق التي تعد بالمئات ويتوجب على المخلوق الاقتداء بها.(على سبيل المثال يوجد 99 اسما وصفة للخالق الله تسمى الاسماء الحسنى في الدين الاسلامي).

اما ان الله يحتوي كل شيء ولا يحتويه شيء فهي بديهية ان الله يحيط بوجود الطبيعة والانسان والكون ولا يحتويه ايّا من هذه الاشياء ولو بصفة الهية مدركة عيانيا يكسبها قدسية الهية مباشرة يعيشها الانسان بالحياة. حين نقول الله يحتوي كل شيء ولا يحتويه شيء فهذا يبيح لنا ان الزمن يحتوي كل شيء ولا يحتويه شيء ندركه لكن ليس معنى هذا مشروعية الخلط بين احتواء الزمن المحدود للعالم مقارنة بالاحتواء الالهي للعالم.. وكذا نفس الحال مع قوانين الطبيعة الثابته التي تحتويها الارض ولا ندركها قبل اكتشافها مثل قانون الجاذبية والذبذبات الكرومغناطيسية، والهواء والضوء والصوت. وكذا مع العديد من القوانين الطبيعية التي يكتشفها الانسان وينسبها للخالق الذي اوجدها في عملية انتظام كل شيئ في الطبيعة والوجود والكون.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

..................................

المصدر: العبارات المشار لها بين هلالين هي من كتاب يوسف كرم / تاريخ الفلسفة الحديثة 2

في المثقف اليوم