أقلام فكرية

السؤال الأخلاقي الأول (4-3)

يمكننا أن نرى أن كانط، وراء هذه البنية المفاهيمية المفصلة وربما المصطلحات غير الدقيقة (مثلا أن يعتبر القانون الأخلاقي غير مبرر ولكنه ليس "خاطئًا")، قد دفع نفسه وقراءه إلى المأزق نفسه الذي اشرنا اليه في دراستنا السابقة عن السؤال الأخلاقي. يتطلب العقل المحايد الطاعة الأخلاقية والقمع العرضي للسعادة التي لايسمح لها بأن تكون الغاية الأساسية لأي شخص من ناحية. ومن ناحية أخرى، لا يوجد دليل في التجربة على أي علاقة سببية بين الفضيلة والسعادة. فيبدو أن تشير التجربة إلى أن الأشخاص الأكثر سعادة ليسوا بالضرورة هؤلاء الذين يتمتعون بالفضيلة، بل أن الأشخاص الأكثر سعادة ليسوا أولئك الفاضلين بالضرورة ، ولكن أولئك الذين تمكنوا بالمهارة أو الحظ من التلاعب بالبيئات الطبيعية والاجتماعية لإشباع رغباتهم. فيبدونتيجة ذلك أن التبرير الكامل للأخلاق قد فشل.

بدأ كانط مباشرة بعد وصف مأزق العقل بهذه المصطلحات االقوية في تتبع مخرج من ذلك. فيشير إلى المصطلحين في التناقض السابق:

يرى إن أول الافتراضين، أي أن السعي لتحقيق السعادة ينتج أرضية للتصرف الفاضل، خاطئ تمامًا؛ والثاني، وهو أدعاء أن التصرف الفاضل ينتج السعادة بالضرورة ليس خاطئًا تمامًا ولكنه خاطئ فقط بقدر ما يُنظر إلى هذا التصرف على أنه شكل من أشكال السببية في العالم الحسي. وبالتالي، فهو غير صحيح إلا إذا افترضت أن الوجود في هذا العالم (الحسي ولا وجود لعالم عقلي) هو الشكل الوحيد لوجود كائن عقلاني، وبالتالي فهو خطأ مشروط. ولكن ليس فقط لأن مبرر لي التفكير في وجودي على أنه وجود في حد ذاته (noumenon)، متميزًا عن الشيء كما هو معروف من قبل الحواس من خلال السمات الظاهراتية) في عالم معقول ولكن أيضًا بما أنني أمتلك في القانون الأخلاقي أساسًاعقليا محضا يحدد سببيتي (في العالم الحسي)، فليس من المستحيل أن يكون لأخلاق النية علاقة ضرورية كسبب للسعادة كتأثير في العالم الحسي؛ لكن هذه العلاقة غير مباشرة، يتوسطها خالق معقول او مفهوم للطبيعة.[1]

من الواضح أن هذا مقطع معقد. فبادئ ذي بدء، يجب أن نلاحظ أن كانط  وبدون المساومة على الأولوية المطلقة للواجب قدم إجابة إيجابية على السؤال "هل يمكن تحقيق أعلى فائدة ممكنة حقًا؟" وبما أن الإجابة الإيجابية على هذا السؤال تعمل على إزالة اعتراضات العقل الأكثر إلحاحًا على الطاعة الأخلاقي، فقد قدم أيضًا ردًا محددا على السؤال "لماذا يجب أن أكون أخلاقيًا؟"[2]. إن مضمون هذا الرد هو أن الأخلاق لاتتعارض بالضرورة مع السعادة. ولا تكشف تجربتنا عن أي صلة ضرورية بين الفضيلة والسعادة. لكنها قد لا تكون الكلمة الأخيرة في هذ هذه القضية. لأنه قد يكون هناك بالإضافة إلى التسلسلات السببية التي نراها في هذا العالم شكل إضافي للسببية تحكمه النية الأخلاقية الأكثر صرامة.

قد يحكم هذا الشكل من السببية في نهاية المطاف، وبطريقة ما، جميع أشكال السببية الأخرى ويخضعها له. إذا كان هذا يبدو مستحيلًا، كما يقول كانط، فلا يمكننا أن نؤكده منطقياً على هذا النحو، لأنه ليس لدينا ما يبرر إنكار وجود شكل من أشكال السببية غير ذلك الذي كشفته لنا تجربتنا المحدودة. ومع ذلك، وبإجابية أكبر، فاننا في الواقع نتعامل في تجربتنا الأخلاقية مع شكل ضعيف من السببية. نحن نعرف أنفسنا في كل فعل أخلاقي أننا كائنات عقلانية متحررة من التحديد الصارم للأحداث السابقة في الزمان والمكان، ونعرف، ايضًا، أننا قادرون على تغيير التسلسل المستقبلي للأحداث لتتوافق مع الإملاءات أو الأوامر الأبدية لعقلنا من خلال القرار الأخلاقي الحر. ويلاحظ كانط أن هذا اليقين بالحرية  يُمنح لنا في الفعل الأخلاقي، لأن لايمكن للقوة الألزامية لعقلنا الأخلاقي إصدار أوامرها ما لم يتم افتراض هذه الحرية.[3] لذلك، لدينا في الأخلاق أسس ملموسة للاعتقاد بأن شكل من أشكال السببية قد يكون موجودًا.  لهذا لدينا سبب للاعتقاد بأن معاناتنا بأسم الأخلاق قد لا تكون الحالة النهائية التي نختبرها بصفتنا فاعلين عقلانيين، وأن القوة الأخلاقية الكاملة تتفوق بطريقة ما على كل سببية تفرضها  قيود الزمان والمكان.[4]

وكما بينا في بحثنا السابق عن إجابة للسؤال "لماذا يجب أن أكون أخلاقيًا؟"[5] أن إجابة كانط تبدو غريبة وغير مرضية. وذلك لأنه لم يثبت حقًا أنه يمكن الوصول الى الخير الأسمى او تحقيقه  بقدر ما أكد على  أنه ليس بالضرورة غير ممكن الوصول اليه أو أنه غير قابل للتحقيق. ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر إثارة للأهتمام هو الحقيقة، التي أدركها كانط نفسه، وهي أن هذه الإجابة توجد في عالم يتجاوز كل معرفتنا التجريبية فقط. وإذا كان هناك شيء لا يمكن للعقل الحديث قبوله، فهو هذا الذي يتجاوز كل معارفنا التجريبية أو حدود اليقين التجريبي إلى التكهنات الميتافيزيقية. قد يُنسب رضا كانط عن هذه الحجة إلى بقاء آثار ميتافيزيقية أو دينية في تفكيره، ما يؤدي الى أن حله بالكامل غير مقبول. لكن في اعتقادي أن مثل هذا الذي يُنسب لكانط  وحجته قد يكون غير منصف. لأنه ليس غافلًا عن الصعوبات في قبول هذا الحل للمشكلة. لقد كان الهدف من مشروعه النقدي بأكمله هو أن العقل قد لا يتعدى إلى ما وراء حدود التجربة الحسية عادةً. وإذا كان مدفوعًا أو مضطرا لأنتهاك أمره في هذه المرحلة، فلن يكون ذلك لدافع أو لسبب بسيط؛ ولكن لأنه أدرك أن البديل الآخر، وهو الاستمرارية  لهذه المعضلة العقلانية العميقة أمر غير مقبول على الإطلاق.

لقد ذكرت في وقت سابق فيما يتصل بهذه المعضلة، انه لا يوجه عقل الفرد إلى مسارين متناقضين للفعل فحسب، بل يدين في الواقع أيً مساريتخذه من جانب وظائفه المختلفة في النهاية. تأخذ هذه الإدانات في إطار هذه المعضلة شكل تأكيد  في أن أيًا من مسالك السلوك هو غير حكيم وخاطئ أخلاقيًا؛ أي أن العقل الاحترازي التدبيري والأخلاقي، يدينان مسار كل عمل بديل وليس فقط ذاك الذي يعارض إملاءاتهم. نحن نعلم، على سبيل المثال، أن السلوك الاحترازي التحوطي لخدمة الذات يجب إدانته بشكل لا لبس فيه من قبل العقل الأخلاقي. لكن من الصحيح أيضًا أن العقل الأخلاقي يجب أن يدين إلى حد ما الطاعة الأخلاقية لسلطة أخرى. وكذلك حينما يعرف العقل المحايد أنه وقع في التحيز فعليه أن يعتبر وصايته على الفرد مخادعة وفاسدة إلى حد ما، وعليه أن صدر حكم إدانة أخلاقي على كل من  نصائحه وأرشاداته. وينطبق الشيء نفسه عندما يتم اختيار العقل الاحترازي التدبيري كموضع للحكم. اذ يجب عليه أن يعتبر هذا الأحتراز أن هذه الطاعة الأخلاقية بمثابة حماقة.

علينا أن نضع في اعتبارنا أن الفرد الذي يختار سعادته على حساب الأخلاق أنه يختار لجميع الأفراد العقلانيين المشابهين. أي، إذا كانت أفعاله تحددها أسباب معينة، فيجب أن تكون هذه الأسباب موجودة لدى الآخرين الذين هم في  الموقع نفسه. وبالتالي، فإن نتيجة قرار كل فرد بعصيان القواعد الأخلاقية هو الشكل المحتمل لعالم تتعرض فيه الأخلاق للخطر بشكل جذري حيث يمكن للاشخاص العقلانيين في جميع المواقف المشابهة أن يرفضوا فعل ما تتطلبه الأخلاق. قد يفضل الفرد، وبالنظر إلى اختياره المباشر، الخضوع لخطر العيش في مثل هذا العالم (وهو يعلم أن قراره بأن يكون أخلاقيًا لا يضمن وجود عالم أخلاقي). لكنه لا يستطيع أن يكون متأكدًا في لحظة الاختيار من أن مراعاة الذات هذا أمر حكيم. وهكذا، يكون قول "كلب حي أفضل من أسد ميت" منطقيًا بعض الشيء، حيث يجب على الفاعل أن يأخذ في الاعتبار أن قراره قد يجعله أيضًا "كلبًا ميتًا"، ايً شخصًا وصل إلى السعادة ليخسرها ربما في بطريقة غير متوقعة في  هذه الفوضى الأخلاقية الناتجة.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............................

[1] Kant, Critique of Practical Reason, 114.

[2] أنظر: الربيعي، د. علي رسول:

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/964299

[3] هذا هو معنى ملاحظة كانط المعروفة بأن الحرية هي "النسبة الأساسية للقانون الأخلاقي" في حين أن القانون الأخلاقي هو "نسبة إدراك الحرية." مشابه جدًا لقوله  بأن "الحرية والقانون العملي غير المشروط يعنيان بشكل متبادل كل آخر."

Kant, Critique of Practical Reason, p. 5.

[4] Yirmiyahu Yovel, Kant's Practical Philosophy Reconsidered: Papers Presented at the Seventh Jerusalem Philosophical Encounter, December 1986, p. 241.

[5]

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/964299

 

في المثقف اليوم