أقلام فكرية

تـأملات كانطية في الزمن والذاتية (1-2)

نشر كانط مقالًا موجزًا ولكنه مؤثر بعنوان "ما هو التنوير؟" في عام 1784يشدد فيه على العلاقة المتبادلة بين العقل والحرية. ويؤكد على أن التنوير هو تحرير الإنسان من الوصاية التي تعني عجزه عن الاستفادة من عقله دون توجيه من شخص آخر. لا يكمن سبب هذه الوصاية في الافتقار إلى العقل بل الافتقار إلى العزم والشجاعة لاستخدامه دون توجيه من الآخر. "تحلى بالشجاعة لأستعمال عقلك الخاص!" هذا هو شعار التنوير.[1]

إن الخضوع هو الأنقياد لآخر، الله أو صاحب السيادة أوالأب أو المعلم على سبيل المثال، بينما الاستقلالية هي تقرير المصير أو التشريع الذاتي الذي تمنح الذات من خلاله لنفسها القانون الكلي للعقل. إن الأفعال الحرة عقلانية ومعيارية من وجهة النظر هذه.

يصر كانط على أولويًة العقل العملي على الرغم من تحرك العقل نظريًا وعمليًا. وإن العقل والإرادة لا ينفصلان: العقل هو في الأساس نشاط وإذا كان النشاط حرًا فيجب أن يكون معقولًا. يؤكد كانط، في كتابه النقدي الثاني، على أولويًة العقل العملي قائلًا بأن الحرية هي الحجر الأساس لبنية النظام بالكامل لهذا العقل.[2] مع أنها، أيً الحرية، حجر أساس معقد لأنطوائها على غموض لا يمكن أنكاره. كلما فحص المرء حجة كانط عن كثب، أصبح من الواضح لديه أن الحرية لا تتضمن الاستقلالية فحسب، بل تشمل ما يمكن وصفه بالفوضى أيضًا. لا يعني مصطلح "الفوضى"، في هذا السياق، غياب الشكل مما يؤدي إلى اضطراب أو ارتباك. ولكن يشير إلى غياب أي بداية وبالتالي، عدم وجود أساس. بعبارة أخرى، الفوضوي هو ما لا أساس له. يبدو أن كانط لا يلتفت دائمًا الى الآثار بعيدة المدى لحجته، لكن توضح فلسفته النقدية أن الاستقلالية تفترض مسبقًا وجود فوضى، لكن بدون اساس فيما يخص قانون يمكن ان تمتلكه الذات للتشريع لنفسها. تتقاطع الاستقلالية والفوضى في نشاط الخيال الذي يؤدي التفاعل بين القول والفعل من خلاله إلى تعميق تناقضات الذات. إنه من الضروري لفهم أهمية هذين الجانبين من الحرية التفكير في سبب استحالة الاستقلالية بصرف النظر عن الفوضى.

إن فكرة الاستقلالية هي المبدأ البنيوي الذي نُظمت الأنتقادات الكانطية الثلاثة حوله. يتماثل كلا العقل النظري والعملي فيطبق في كلاهما مبدأ عام للعقل للتأثيرعلى معطيات حسية معينة. فبينما ينظم العقل النظري الحدوس المتنوعة في الأشكال القبلية ومقولات الفهم، يتحكم العقل العملي في الميول الحسية الخاصة من خلال المبادئ الأخلاقية العامة. تم توجيه انتقادات كانط الثلاثة إلى التهديد الثلاثي المتمثل في الشك والحتمية والإلحاد. تمهد فلسفته النقدية الطريق للدفاع عن الدين من حيث النشاط الأخلاقي بدلاً من التكهنات النظرية. يُنظم كل جانب من جوانب حجته حول سلسلة من التعارضات الثنائية، التي يشرحها ويحاول التوفيق بينها.

الاستقلالية /التابعية

الحرية / الحتمية

العقل / الحساسية

القبلية / البعدية

العمومية / الخصوصية

الموضوعية / الذاتية

الالتزام / الميل

الشكل / المادة

أنقسم خلفاء كانط المباشرين بين أتجاهين، أولئك الذين اعتقدوا أنه لم يذهب بعيدًا بما فيه الكفاية وأولئك الذين اعتقدوا أنه ذهب بعيدًا في صياغة نظام فلسفي شامل يمكنه التوسط في هذه التعارضات. جادل الأول بأن مصالحته بين الأضداد ظلت غير مكتملة، وأصر الأخير على أن جهوده لتوليف الأضداد كانت مضللة لأنها حجبت التناقضات غير القابلة للاختزال والمتأصلة في الفكر والحياة والتي لا مفر منها. حددت التوترات غير المحلولة في عمل كانط طبيعة النقاش في القرن التاسع عشر واستمرت في التأثير على التفكير النقدي والممارسة حتى يومنا هذا.

لقد لوحظ بشكل متكرر أن "الثورة الكوبرنيكية" لكانط هي المعادل النظري للثورة السياسية في فرنسا. إن أحد أهم ابتكارات كانط الفلسفية كانت نقل الأنطولوجيا (علم الوجود) إلى الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة). إنه من الضروري لفهم الآثار المترتبة على هذا التطور القيام بتتبع جينالوجي للديني والفلسفي لنظرية المعرفة الكانطية وصولًا إلى أفلاطون والمدافعين الأوائل عن المسيحية. لقد تم أنشاء العالم في أسطورة الأصل عند أفلاطون من قبل مُشكل الكون المادي (Demiurge) الذي يجمع بين الأشكال الثابته مع التدفق غير المتمايز للمادة. إن نشاط االتكوين في هذا الإطار هو عملية تشكيل يتم من خلالها اضفاء النظام إلى الفوضى. اعاد المدافعون المسيحيون الأوائل، المتحمسون لإثبات أن دينهم لا يتضمن خرافات بدائية ومدمرة سياسيًا، تفسير المبادئ اللاهوتية الأساسية من خلال الفلسفة الأفلاطونية. فبدلاً من وجود وسيط يقع بين الخلود والزمن مثل خالق الكون المادي، فإن الإله المسيحي، كما جادلوا، هو الخالق الأبدي للعالم. اصبحت الأشكال الأفلاطونية، بالنسبة لهؤلاء المدافعين، هي روح الله أو الكلمة التي تُفهم على أنها الابن الأبدي للآب الإلهي. بقدر ما يَخلق الأب دائمًا من خلال الابن، فإن العالم هو تعبير عن الكلمة الإلهية (اللوغوس)، وبالتالي فهو منطقي ومعقول أو، في لغة أحدث، متمركز حول اللوغوس. وأن العقل البشري هو انعكاس للكلمة التي يمكن للناس فهم العالم الذي خلقه الإله من خلالها. تصبح الأشكال الأفلاطونية واللوغوس أو الكلمة الإلهية اشكال الحدس- الحسي ومقولات الفهم في تفسير كانط للعقل النظري، ويصبح التدفق غير المتمايز للمادة هو التنوع المعقول للحدس. تمامًا كما أن الأشكال الأفلاطونية والكلمة الإلهية كليًة وعامة وثابته، فإن أشكال الحدس ومقولات الفهم هي قبلية وليست بعدية، وبالتالي فهي كلية عامة. يمكن التعبير عن نظرية المعرفة الكانطية من منظور نظرية المعرفة المعاصرة بالقول أن: العقل مبرمج لمعالجة البيانات. وتنتج المعرفة من تركيب معطيات الخبرة الحسية مع الأشكال الكلية للحدس ومقولات الفهم. تؤدي معالجة المعلومات هذه إلى اضفاء النظام على حالة الفوضى من خلال توحيد المعطيات المتعددة التي نواجهها باستمرار. المَلًكة أو القدرة التي يحدث من خلالها هذا التوليف هي المخيًلة. فيرى كانط بما أن كل مظهر يحتوي على تنوع، وبما أن المدركات الحسية المختلفة تحدث في العقل كل على حدة ومنفردة، فإن المطلوب جمعهما او تركيبهما حيث لا معنى لها في حد ذاتها. لذلك يجب أن يكون فينا قوة ملكة نشطة لتركيب هذا التنوع. أعطى كانط لهذه الملكة اسم المخيلة. يُوجه عملها مباشرة الى الأحاسيس فيكون لديًنا ادراك حسي. ونظرًا لأن الخيال يجب أن يجلب متنوع الحدس إلى شكل صورة، فلا بد أنه قد أخذ الانطباعات من نشاط سابق، أي أنه كان قد فهمها.[3] وبما أن الخيال يعبر عن الأشياء، فهو الشرط الضروري لإمكانية المعرفة وعلى هذا النحو يكون متعاليًا transcendental. يجب أن يعمل الخيال لتحقيق هذه الوظيفة على الحدود بين الفهم والإحساس. فيقول كانط: "انه من الواضح يجب أن يكون هناك شيء ثالث، متجانس مع المقولة من جهة، ومع الظاهرة (الخارجية) من جهة أخرى، مما يجعل تطبيق الأول على الأخيرة ممكنًا. يجب أن يكون هذا التمثيل الوسيط نقيًا، أي خاليًا من كل محتوى تجريبي، ومع ذلك، في الوقت نفسه، بينما يجب أن يكون عقليًا من ناحية، يجب أن يكون حسيًا من ناحية أخرى. مثل هذا التمثيل هو المخطط المتعالي الذي يرتبط فيه مفهوم خالص غير تجريبي بالأنطباعات الحسية".[4] يصف كانط عملية الخيال هذه بطريقة تذكرنا بالخالق المتعالي الذي يضفي شكلًا إلى الفوضى ويخلق من خلال كلماته، أيً، يحرك الخيال النماذج النظرية المتعالية لتنظيم التجربة وبالتالي خلق العالم الذي نعيش فيه.[5]

أدرك كانط أن تفسيره للعقل في كل من عملياته النظرية والعملية يعمق تناقضات الذاتية من خلال أدخال الصراع بين مختلف الأضداد الثنائية. ومع الانتقال من الخضوع إلى الاستقلالية، التي تم فرضها خارجيا، تم تشريع الكلية داخليًا (عقليًا). يحاول كانط في النقد الثالث، المكرس للحكم الجمالي، التوسط بين هذه التعارضات من خلال مفهوم الغائية الداخلية. تتضمن الغائية الداخلية، وعلى النقيض من كل شكل من أشكال المنفعة والأداة التي ترتبط فيها الوسائل والغايات خارجيًا، ما يصفه كانط بـالغرضية بلا غرض حيث ترتبط الوسائل والغايات بشكل متبادل فيصبح كل منها نفسه في الآخر ومن خلاله ولا يمكن لأي منهما أن يكون منفصلاً عن الآخر. يوضح كانط هذه الفكرة من خلال وصف تفاعل الكل والأجزاء في العمل الفني.

تتحد أجزاء الشيء مع بعضها البعض مكونة وحدة تكون سبب ونتيجة بشكل متبادل لتشكيلها. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن تحدد فكرة الكل بشكل متبادل، وتقوم بدورها في تركيب جميع الأجزاء، ليس كسبب - لأن ذلك سيجعلها منتجًا فنيًا - ولكن كأساس ابستيمولوجي- معرفي يمكن على أساسه تكوًن الوحدة المنظمة للشكل و كذلك الجمع بين كل التنوعات الموجودة في المادة المعينة للشخص الذي يقدّرها أويحكم على قيمتها.[6]

تمثل هذه الصيغة للغائية الداخلية نقطة تحول في التاريخ الثقافي والاجتماعي الذي ظهرت نتائجه لاحقا في القرن التاسع عشر بدأ مع صدور كتاب نقد ملكة الحكم عام 1790. فقد ظهر التمييز بين الغائية الخارجية والداخلية بوصفه التعبير الفلسفي عن الانتقال من مخطط ميكانيكي إلى مخطط عضوي لتفسير العالم. فما اكتشفه كانط هو مبدأ العلاقة التكوينية التي تمتلك القدرة على منح الشئ وجود منظم، حيث تكون فيها الهوية متمايزة وليست متعارضة. لقد ظهرت الآثار المباشرة لهذه الرؤية من خلال فنانين رومانسيين وفلاسفة مثاليين خلال العقد الأخير من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر. لكن تبقى أهمية رؤية كانط مستمرة؛ حيث حددت البنية التي تعد شرطًا لإمكانية وجود الكثير من الفنون والأداب والفلسفة الحديثة وكذلك ما بعد الحداثة.

يوسع النقد الثالث مبدأ الاستقلالية من العقل النظري والعملي إلى العمل الفني الذي يُفهم بوصفه عملية الإنتاج والمنتِج المنتَج. لا يتم إنتاج الفنون الجميلة لأي غاية خارجية ولكن يتم انتاجها من أجل ذاتها على عكس الفن المنتج للسوق، والذي يعتبر نفعيًا وله غرض خارجي. لا يشير الفن الرفيع إلى أي شيء آخر غير نفسه أبدًا، فهو فن متعلق بالفن، وبالتالي فهو مرجع لذاته وأنعكاس لها. إن المحور الذي يعتمد عليه هذا التحليل هو تفاعل الخيال والتمثيل في إنتاج الوعي الذاتي.

لقد فتحت فلسفة كانط النقدية بالنسبة للكتاب والفنانين والفلاسفة في السنوات التي أعقبت نشر النقد الثالث مباشرة إمكانية استكمال ما بدأ في فرنسا من خلال تحويل النضال الثوري من السياسة إلى الفلسفة والشعر. كان الكتاب والنقاد يتغلبون على الاغتراب الشخصي والتشرذم الاجتماعي من خلال تنمية أشكال جديدة من التوحيد والتكامل في عالم لا توجد فيه مؤسسات اجتماعية وسياسية واقتصادية مناسبة، ودمرته المراحل الأولى من التصنيع. لقد ألمح كانط إلى إمكانية وجود وحدة تغذي الاختلافات بدلاً من قمعها في تفسيره المعاملة بالمثل للغائية الداخلية، لكنه لم يكن قادرًا على دعم حجته حتى تصل خلاصتها الضرورية. وذلك نظرا لأنه قصر مفهومه عن الجمال على فكرة تنظيمية قد تصف أو لا تصف الطريقة التي تكون بها الأشياء في العالم الفعلي نظرًا لحدود المعرفة التي اسس لها في النقد الأول. يرى الرومانسيون والمثاليون بأنه من الضروري لتحقيق ما تركته كل من الثورتين الفرنسية والكانطية إدراك الفكرة من خلال تحويل العالم إلى عمل فني. عندما تراجعت نهاية العالم عن طريق الثورة فسحت الطريق للخيال والإدراك، وتحول الوعي إلى الداخل وأصبح واعياً بذاته. لكن أصبح الوعي الذاتي المستقل بدفعه لنفسه إلى أقصى حدوده فوضوياً. وهذا يعني أن الذات تكشف أنها تنشأ من أرضية لا أساس لها ولا يمكن فهمها. تفتح هذه الثغرة الباب أمام نقد ما بعد الحداثة للحداثه .

أدرك خلفاء كانط أن تحديد البنية الغائية الذاتية يكشف عن البنية الانعكاسية للوعي الذاتي. تعود الذات لنفسها في الوعي الذاتي وتصبح موضوعا لنفسها. إن الذات كذات والذات كموضوع مرتبطان بشكل متبادل بطريقة تجعل كل منهما نفسها من خلال الآخر ولا يمكن لأي منهما أن يكون منفصلاً عن الآخر. تفترض بنية العلاقة الذاتية المكونة للذات الواعية بالذات نشاط تمثيل الذات.

يبدو الوعي الذاتي مكتملا عندما يقترب من من حدوده البنيوية وقادرا على تأسيس منظم لحدوده. لقد حدد ديتر هنريش السؤال الحاسم في تعليقه على قراءة فيخته لكانط قائلًا: "هل يستفيد الخطاب الأنطولوجي دائمًا من فرضية أنه يمكن قول شيء ما عن العقل ليس من العقل، وأنه يمكن للعقل أن يقول شيئًا ماعن العقل حول ما هو ليس بالعقل، بحيث لا يمكن أبدًا اشتقاق الخطابين من بعضهما البعض- أو حتى تشكيل خطابًا ثالثًا، مما يستبعد أي صياغة خطية معقولة تمامًا؟"[7] يشير هنريش إلى أن استحالة تفسير الوعي الذاتي من خلال النماذج الخطية لا تعني بالضرورة أن انعكاسية الوعي الذاتي على ذاته دائرية. بل على العكس من ذلك، عندما يعود الوعي إلى نفسه، فإنه يكتشف ثغرة يكون بدونها غير مكتمل.

إن النقطة الحاسمة هي أن: تفترض الذات وعي بنفسها يفترض بدوره تمثلًا مسبقًا للذات. بعبارة أخرى، تصبح الذات نفسها من خلال عملية تقوم فيها بتقديم نفسها لنفسها. ولكن كيف يكون هذا ممكنا؟ إذا كانت تعتمد الذات كذات والذات كموضوع احدهما على الآخر، فلا يمكن أن يكون أي منهما السبب الأساس للآخر. فمن أين يأتي ما تَمثُلَ للذات ومن خلال أي فرد ينشأ؟

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................

[1] Kant, "What is Enlightenment?" In, On History, trans. Lewis White Beck (New York: Bobbs-Merrill, 1963), p. 3.

[2] Immanuel Kant, Critique of Pure Reason, trans. Norman Kemp Smith (New York: St. Martin's Press, 1965), p. 144.

[3] Immanuel Kant, Critique of Pure Reason, trans. Norman Kemp Smith (New York: St. Martin's Press, 1965), p. 144.

[4] Immanuel Kant, Critique of Pure Reason, ), p.144.

[5] سوف أنظر في المزيد من الآثار المترتبة على وصف كانط للخيال أدناه.

[6] Immanuel Kant, Critique of Judgment, trans. James Meredith (New York: Oxford University Press, 1973), part 2, p. 21.

[7] Dieter Henrich, Between Kant and Hegel (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2003), p. 287.

في المثقف اليوم