أقلام فكرية

الفاعل التاريخي للتغيير عند هربرت ماركيوز

” إن الناس ينسون ملاحظة سيسموندي السديدة التالية: إن البروليتاريا الرومانية كانت تعيش على حساب المجتمع، بينما يعيش المجتمع الحديث على حساب البروليتاريا، ومع وجود مثل هذا الفارق الجذري بين الظروف المادية والاقتصادية لصراع الطبقات قديماً وحديثاً “ كارل ماركس(1)

إذا كانت البروليتاريا قد ارتبطت تاريخياً باسم ماركس، إلا أننا نجد أن هذه الكلمة قد استخدمت في مراحل تاريخية سابقة على ظهور الماركسية لتشير إلى الفئات الاجتماعية الفقيرة والمحرومة في المجتمع. أي أن ماركس لم يكن في واقع الأمر أول من صاغ هذا المفهوم، ولا أول من التفت إلى المهمة التي يمكن أن تنهض بها الطبقة العاملة في قيادة عملية تحرير البشر من أوضاع الاغتراب. فقد كان الفكر الاشتراكي الفرنسي بالإضافة إلى بعض أعمال المفكرين الألمان من أوائل المتحدثين في هذا المضمار. بحيث يمكن اعتبار أن هذين الرافدين قد مارسا تأثيراً كبيراً فيما يتصل بتمكين ماركس من تكوين أبعاد رؤيته عن البروليتاريا وعن دورها التاريخي(2).

وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهر هذا المصطلح ضمن البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك انجلز عام 1848، للدلالة على طبقة العمال، التي ستتولد بعد تحول اقتصاد العالم من اقتصاد تنافسي إلى اقتصاد احتكاري، ويقصد ماركس بالبروليتاريا الطبقة التي لا تملك وسائل إنتاج وتعيش من خلال بيع مجهودها العضلي إلى مالكي وسائل الإنتاج، بذلك تصبح سلعة شبيهة بأي سلعة أخرى، تتعرض كسائر السلع إلى جميع نتائج المزاحمة وتقلبات السوق. " ففي مؤلفاته المبكرة التي تعود إلى فترة الشباب يصف ماركس الإنسان البروليتاري في المجتمع البرجوازي بأنه الإنسان المحروم من وجوده، يمتلك شخصية ممزقة"(3).

يعتبر ماركس البروليتاريا " نتاج نوعي للمجتمع البرجوازي، أي يرتبط وجودها بطبيعة هذا المجتمع بخلاف الطبقات الأخرى، ويرى ماركس أن البروليتاريا طبقة ثورية إذا تم تنمية وعيها، لأن ازدياد تركز الرأسمالية يؤدي إلى تدعيم قوتها واتساع عددها. وهي ثورية أيضاً لأنها لا تمتلك شيئاً، ومن ثم ليس لها ما تفقده سوى القيود، ولا سبيل لها للتحرر من استغلال المجتمع الرأسمالي سوى إلغاء علاقات الإنتاج الرأسمالية التي توجه هذه القوى المنتجة ضد البروليتاريا "(4). بمعنى آخر "يجب على البروليتاريا، لكي تتحرر، أن تسحق طبقة الرأسماليين، وأن تنتزع من الرأسماليين أدوات الإنتاج ووسائله وأن تزيل شروط الإنتاج التي تولد بروليتاريا "(5).

لذا ترى النظرية الماركسية أن هذه الطبقة يجب أن تملك وتحكم أيضاً لأنها صاحبة القوة والمصلحة الحقيقية في المجتمع(6). وفي النهاية يمكن لنا تعريف البروليتاريا على "أنها الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية، التي لا تملك وسائل إنتاج وتعيش من خلال بيع مجهودها العضلي أو الفكري إلى مالكي وسائل الإنتاج، وهي الطبقة الوحيدة المناقضة تماماً لنمو البرجوازية، وينسب إليها بعض المفكرين الدور الرئيسي في إحداث عملية التحول الاجتماعي بسبب طبيعة تكوينها، وسطوتها، وقدرتها على إحراز النصر في النهاية. ولكننا اليوم نلاحظ أن هذه الطبقة أخذت تتقلص حجماً وتتراجع قوتها السياسية، كما يتناقص ما ينسب إليها أحياناً من تماسك داخلي وإحساس بالهوية. بل إنها فقدت وضعها المسيطر في روسيا".

بناءً على ما تقدم، سعى هربرت ماركيوز Herbert Marcuse وبكفاءة عالية من خلال مؤلفاته النقدية عن المجتمع الصناعي المتقدم إلى رصد كافة التغيرات الجذرية التي حدثت البروليتاريا (الطبقة العاملة) في ظل الرأسمالية. التي جاءت كرد فعل منطقي على التطورات النوعية التي شهدتها المجتمعات الصناعية، فمنذ مطلع القرن العشرين بوجه خاص، أدت تلك التطورات إلى إدخال تغيير جذري على الطبقة العاملة وموقفها من النظام الرأسمالي القائم(7)، فأصبحت غير قادرة اليوم على أن تغير الوضع القائم عن طريق الثورة نتيجة اندماجها في هذه المجتمعات لأسباب عديدة سنناقشها بشيءٍ من التفصيل.

يرى ماركيوز أن القوى الجديدة التي يمكن أن تقوم بالدور التاريخي، وتغيير الوضع القائم هي قوى جديدة لم تندمج ولم تستوعب في إطار المؤسسات القائمة، كما أنها ترفض دوماً عملية الاندماج وتعارضه، وتندرج هذه القوى تحت اسم حركة اليسار الجديد New Left، التي ستضم بدورها القوى النافية للنظام الرأسمالي، وتنقسم هذه القوى عند ماركيوز إلى قسمين أساسيين: القسم الأول يشمل الفئات الهامشية المحرومة من الامتيازات، والتي تتكون من "الطبقات الشعبية المحافظة، التي تضم المنبوذين (اللا منتمين)، والأعراق الأخرى، والملوّنين، والطبقات المستغَلة والمضطهَدة، والعاطلين عن العمل، والعاجزين عنه. إنهم يوجدون خارج الصيرورة الديمقراطية، وحياتهم تعبر عن الحاجة الملحة والواقعية لإنهاء الأوضاع والظروف التي لا تطاق "(8). " وإن معارضة هذه الفئات - حسب ماركيوز - قادرة على أن تسدد الضربات إلى النظام من الخارج، ومن هنا كان عجز النظام عن دمجها واستيعابها لأنها قوة بدائية تخرق قواعد اللعبة "(9). أما القسم الثاني فإنه يتكون من الفئات التي تتمتع ببعض الامتيازات، وتنقسم بدورها إلى مجموعتين وهما كالآتي:

أ- الطبقة العاملة الجديدة، التي تكف عن أن تكون العوامل الرئيسية في عملية الإنتاج المادي(10). وتتشكل من المستخدمين، والتقنيين، والمهندسين، والاختصاصيين الذين ينصرفوا إلى مراقبته وتنظيمه، وهذه المجموعة لها طابع مزدوج، فهي من ناحية دورها في العملية الإنتاجية تبدو وكأنها محور قوى التحول الاجتماعي (الموضوعي)، لكنها في الوقت نفسه تكون بمثابة الولد المدلل بالنسبة للنظام القائم الذي يشكل وعيها. وعلى هذا النحو يرى ماركيوز أن نعت هذه المجموعة بتعبير الطبقة العاملة الجديدة يعد سابقاً لأوانه، فهناك ثمة شك في إمكانية أن تقوم هذه المجموعة الآن بدورها الثوري ضد النظام الرأسمالي القائم. بذلك تسيطر على سير عملية الإنتاج فئة المثقفون التي تزداد سيطرتها يوماً بعد يوم، "فهي فئة مثقفين ذات نزعة أداتية ولكنها مثقفة على كل حال. وسيكون في استطاعت هذه الطبقة العاملة الجديدة بفضل مركزها، أن تقلب أسلوب الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وتعيد تنظيمها، وتعطيها اتجاهاً جديداً"(11).

ب- تضم الطلبة والشباب المتمرد على مجتمع الوفرة الرافض للروح الاستهلاكية السائدة فيه مثل الهيبيز غير أنه ركز اهتمامه، وهو بصدد الحديث عن التغيير، على فئة الطلبة، وهي إحدى القوى الأساسية المؤهلة لتغيير الوضع القائم، والتي يمكن أن يعول عليها لإحداث نقلة نوعية في المجتمعات القائمة واهتمام ماركيوز بالطلبة، كان في حقيقة الأمر مرتبطاً بحركة الطلبة نفسها، وبالأحداث التي عرفتها الجامعات الغربية، وخاصة في ألمانيا، ومن ثم في فرنسا التي عرفت ما يسمى بأحداث مايو/ أيار عام 1968، التي شهدت ظهور احتجاج طلابي راديكالي(12)، قام على " مبادئ (المعارضة الدائمة)، و(الرفض العظيم)، لأنهم يعترفون ضمناً بالطابع القمعي للمجتمع القائم، ذلك المجتمع الذي ينبغي إدانته وتحويله من جذوره "(13).

بذلك يرى ماركيوز أن أعضاء اليسار الجديد يمثلون في احتجاجهم وتمردهم منطلقاً جديداً في العمل الثوري غير البروليتاري، الذي يصر على الرفض التام لمؤسسات المجتمع الصناعي المتقدم، لذا تجد تلك القوى الثورية برأي ماركيوز أسلوب الفوضوية نهجاً لاحتجاجاتهم وتلبية لبعض البدائل التي يطرحونها في تصورهم للمجتمع القائم. بذلك نجد أن الفوضوية تشكل عند هؤلاء المتمردين الجانب النقدي الهدام من العملية الثورية، في سبيل نقد المجتمع القائم وتغييره.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: هل كان ماركيوز محقاً في تنظيره حول قدرة القوى الجديدة على تحمل أعباء عملية التغيير في المجتمعات الصناعية المتقدمة؟، أم كان هدفه الرئيسي إفراغ الرؤية الماركسية من مضمونها حول قدرة البروليتاريا على قيادة عملية التحول الاجتماعي.

إن ادعاء ماركيوز في حقيقة الأمر، يحمل طابع التبريرات الإيديولوجية أكثر من الطابع الموضوعي، والدليل على ذلك أن قوى التغيير التي تحدث عنها ماركيوز لا تمتلك القدرة على قيادة عملية التغيير فهي لا تشكل طبقة بالمعنى التقليدي، كما أنها مندمجة ومستوعبة في إطار مؤسسات النظام الرأسمالي لا حول ولا قوة لها سوى الاحتجاج السلمي في أحسن الأحوال.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..................

(1) كارل ماركس: الثامن عشر من برومير لويس بونابرت، دار التقدم موسكو، بدون تاريخ، ص(6).

(2) حنان ماهر عارف قنديل: الماركسية والتعددية السياسية – دراسة في النظرية والممارسة، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة، القاهرة، 1996، ص(303).

(3) ريمون بوردن – فرانسوا بوريكو: المعجم النقدي في علم الاجتماع، ترجمة: وجيه أسعد، وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الجزء:2، 2007، ص(275).

(4) جورج بوليتزير: المادية والمثالية، ترجمة: إسماعيل المهدي، نشر الملتقى، تطوان ( المغرب )، ط2، 2006، ص(162).

(5) روجيه غارودي: النظرية المادية في المعرفة، تعريب: إبراهيم قريط، دار دمشق، دمشق، بدون تاريخ، ص(301).

(6) إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي: الموسوعة الاقتصادية الاجتماعية، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية، ط1، 2005، ص(85).

(7) فؤاد زكريا: هربرت ماركيوز، دار الفكر المعاصر، القاهرة، الكراسة الثانية، أغسطس 1978، ص(52).

(8) هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988، ص(266-267) .

(9) قيس هادي أحمد: الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيوز، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، قسم الفلسفة، جامعة القاهرة، القاهرة، 1977، ص(138).

(10) هربرت ماركيوز: نحو ثورة جديدة، ترجمة: عبد اللطيف شرارة، دار العودة، بيروت، 1971، ص(86) .

(11) المرجع السابق نفسه، ص(94) .

(12) كمال بومنير: جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت- نموذج هربرت ماركوز، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، الجزائر وبيروت، ط1، 2010، ص(208).

(13) Herbert Marcuse: An Essay on Liberation, Beacon Press, Boston, 1969, p.(IX).

 

في المثقف اليوم