أقلام فكرية

الخطاب، الهوّيّة، والصّراع

تُعتَبر اللّغة وسيلة لا مثيل لها للتّفاعل في المقاربة المعرفيّة للهوّيّة الاجتماعيّة وتحليل المواقف والتّصوّرات السّائدة زمن الصّراع لأنّها تمتلك وظيفة أدائيّة تندرج في بناء الحياة الاجتماعيّة. فتعبيرات الهوّيّة تربط بالتّشكيلات الخطابيّة والتّمثّلات التّمييزيّة بما فيها الإقصائيّة، ثمّ بعمليّة تحويل الهوّيّات التي قد تقع في زمان ومكان معيّن، وبالمواجهات في الحياة اليوميّة التي تبدو استثنائيّة أثناء الصّراع.

إنّ تصوّر صراع ما كخطاب قائم يجسّد هذا الصّراع ضمن استمراريّة خطابيّة ومؤسّسيّة أوسع نطاقا، فالبنية اللّغويّة المستعملة في توصيفه مستمدّة من أساليب خطابيّة موجودة سلفا تشترك في إطلاق أيّ صراع وإدارته وليست بنية لغويّة خاصّة بذلك الصّراع وحده. وإنّ ما يتنتج عن تلك الأساليب اللّغويّة المحيطة بصراع معيّن من عواقب قويّة ومؤثّرة على أوسع نطاق زمانيّا ومكانيّا من خطابات ومؤسّسات يؤدّي حتما إلى استمرار الصّراع العنيف في نظم اجتماعيّة مشابهة.

إنّ العنصر الأوّل في تصوّر الصّراع كتشكيل خطابيّ وفقًا للتّحليل البنيويّ لا يفترض فصلًا أنطولوجيًّا بين الفرد والبنية، بل يقبل أن يشكّل كلّ منهما الآخر. فالفكرة التي طوّرها غيدنز حول قدرة الأفراد من ذوي المعرفة على توظيف خبراتهم والاستفادة من مهاراتهم المعرفيّة في تفسير التّفاعلات الاجتماعيّة، صارت مقبولة لدى المهتمّين بأبحاث الصّراع بعد أن أصبح في حكم المؤكّد عندهم أنّ تعبيرات الهوّيّة تتحدّد تاريخيّا من خلال عمليّة التّفاعل الاجتماعيّ حيث الأوضاع تحدّد سياق الفعل، وتضفي على سلوك الفرد ما يتمّ إنتاجه من المعنى والشّرعيّة. لذلك، يكون الوعي بالظّروف وبالسّياقات التّاريخيّة هو ما يشكّل خلفيّة الصّراع ومفاهيم الهوّيّة التي يعبّر عنها إمّا "عمليّا" أو "خطابيّا".

إنّ الصّراع بوصفه تشكيلا خطابيّا هو سلوك استثنائيّ تستحثّه تفاعلات الحياة الاجتماعيّة في سياق التّعبير عن مواقف أو "حالات حرجة"،[1] فالرّوتين يوفّر للأفراد الشّعور بالأمن الأنطولوجيّ الذي يمّكن أنشطتهم اليوميّة من "الاستمرار"، وهو بتعبير غيدنز "صورة لاستمراريّة الشّخصيّة في الأنشطة اليوميّة، وفي مؤسّسات المجتمع التي وجدت للحفاظ على تلك الاستمرارية".[2] تعتمد التّفاعلات اليّوميّة الرّوتينيّة وتصوّرات الذّات على المدّة الطّويلة لترسيخ الاستمراريّة من خلال الوعي العمليّ، ولأجل مأسستها في الحياة الاجتماعيّة كي تتكاثر أنشطتها المتنوّعة. لقد أظهرت الأبحاث العرقيّة التي تعنى بالعمليّات الاجتماعيّة أنّ الرّوتين وتيرة تعيد برتابة إنتاج أساليب الحياة اليوميّة،[3] ويشير لورانس ويدر (Lawrence Wieder) في دراسة مقارنة للحياة اليوميّة عند المرضى والنّاس العاديّين إلى طبيعة تعدّد أشكال وأوجه الكلام، حيث لا يمثّل الكلام الرّوتينيّ مجرّد وصف لأحداث أو قواعد السّلوك، وإنّما يُشكّل جانبًا رئيسا لقواعد الحياة داخل إطار محدود. لذلك، يمتلك الحديث طابعا انعكاسيّا يعيد إنتاج الأوضاع أو الظّروف التي تعطيه معنًى[4] وهو ما يجعل النّشاطات اليوميّة لا تحفّز السّلوك بشكل مباشر دائما ولكن التّحفيز يحدث بمراقبة للفعل يقوم بها أهل الخبرة والمعرفة في مواقف مشابهة".[5] أي أنّ الاستمراريّة المؤسّسيّة والخطابيّة للحياة الاجتماعيّة لا تندرج في النّشاطات اليوميّة فقطّ، ولكن يعاد إنتاجها عبر هذه النّشاطات أيضاً.

للرّوتين أهمّيّة في فهم الصّراع كخطاب رائج تقوم الهوّيّة الاجتماعيّة فيه بدور حاسم وإن لم تظهر بوضوح، ففي الشّدائد تُشكّل الذّكريات والأساطير والأوامر الرّمزيّة والصّور الذّاتيّة جزءًا مهمّا من الوعي العمليّ للأفراد الذين لا يُشار إليهم باستمرار في التّفاعل الاجتماعيّ مع أنّهم يُضْفُونَ المعنى على النّشاطات اليوميّة ليصبح العامل البشريّ أساسا لتراكم معرفة تقدّم مبانيها معاني تعيد التّأكيد على الذّات، على هوّيّتها وطابعها الشّخصيّ باستمرار بالإضافة إلى بيان نوع علاقتها بالمحيط البيئيّ والوسط الاجتماعيّ.

لا يتمّ التّعبير عن هوّيّة الأفراد من خلال الوعي الخطابيّ فقطّ حتى وإن شكّل هذا الأخير الخلفيّة الاجتماعيّة التي يختزنها وعيهم العمليّ، فهم يواجهون كلّ ما يتعلّق بتاريخ محدّد من ذكريات وأيديولوجيّات، من أنظمة رمزيّة ولغات ومواقع جغرافيّة. وتستند تعبيرات هذه الهوّيّة المنفتحة بحسب غيدنز إلى مجموعة من السّمات المشتركة مع أعضاء آخرين في مجتمع "يتموضع" فيه جميع الأفراد في شكل ترتيبات رمزيّة، وتوقّعات معياريّة، وعلاقات قوّة، ومواقع محدّدة تبعًا لاستمراريّة بنية النّظام الاجتماعيّ.

تتشكّل المواقف الاجتماعيّة بنيويًّا كتقاطعات تحدّد المضمونَ أو المعنى، تسوّغ الهيمنة أو تضفي على عوامل فرضها شرعيّة. فينطوي الموقف الاجتماعيّ إذن على تحديد "هوّيّة" بعينها في إطار شبكة من العلاقات الاجتماعيّة، إلا أنّ أصحاب هذه الهوّيّة هم "الفئة" المعنيّة بنطاق معين من الجزاءات المعياريّة.[6]

تحدّد الهوّيّة المواقع الاجتماعيّة، الرّموز والمفردات فضلًا عن التّوقّعات الاجتماعيّة حيث يحمل الفرد هوّيّة معيّنة وينشط في مواقع محدّدة على امتداد حياته، غير أنّه من المهمّ إدراك وقوع الهوّيّات ضمن خانة مؤسّسات "المدّة الطّويلة" أو ضمن استمراريّة توفّر "أطرا" هي حاويات للقواعد الاجتماعيّة تستديم النّشاطات أو التّفاعلات وتعطيها مغزًى على حدٍّ سواء.[7]

تستند مفردات الهوّيّة في ظروف الصّراع إلى استمراريّة تتغيّى تعبئتُها بناءَ جماعاتٍ سياسيّةً مترابطةً، والعنف المستمدّ من تصوّر الصّراع كخطابٍ قائمٍ ومتشكّلٍ يشكّل "خطابَ الإقصاءِ" الذي يقوم بوضع القيودِ والحدودِ الصّارمةِ من خلال تمثّلاتٍ عن المؤهّلِ والمذنبِ، عن الصّالحِ والشّيطانيِّ وهكذا... فتكوّن هذه التمثّلاتُ بُنًى اجتماعيّةً مثلَ الدّولةِ القوميّةِ، أو العرقيّةِ القوميّةِ، أو التّطهيرِ العرقيِّ، أو السّيادةِ الوطنيّةِ وجميعُها في الحقيقة ليست سوى تعبيراتٍ عن خطاب الإقصاء المتورّطِ في إضفاء الشّرعيّة على العنف. إنّها صورٌ ونصوصٌ تقسّم هوّيّة المجتمع  بخطابٍ تشكّلت أسُسُه العميقةُ من خلال أنشطةِ الحياةِ اليوميّةِ على نحو لا يَظهرُ نَفَسُهُ الإقصائيُّ على الأقلّ في حالاتٍ محدّدةٍ من الصّراع، بل يترسّخ في الممارسات الخطابيّة والمؤسّسيّة التي يتمّ الاعتماد عليها ويعاد تشكيلها بممارسة الإقصاء.

يقوم خطاب الإقصاء المتورّط في تحريض العنف السّياسيّ وإشعال فتيل الحرب بوصفه استمراريّة اجتماعيّة على هوّيّات إقصائيّة بُنِيَتْ على تمثّلات واهمة عن الذّات في علاقتها بالآخر، لذلك فإنّ فكرة تشكيل الهوّيّة تجد تفسيرها في السّياق الاجتماعيّ التّاريخيّ وليس في الأسس الحيويّة والنّفسيّة من حيث إنّ أشكال التّعبير عن الهوّيّة تُبْنَى على مجموعة متنوّعة من التّجارب يحيل إليها السّلوك العمليّ والخطابيّ. فيدلّ تشكيل الهوّيّة على اختيار نشيطٍ لصيغة خاصّة من التّمثّل وإن لم يدلَّ على حرّيّة اختيار الموقع الاجتماعيّ، لأنّ هذا الموقع تحدّده القواعد الاجتماعيّة المهيمنة، والتّرتيبات الرّمزيّة، والبُنى السّائدة التي تشوّه اختيار الفرد لهوّيّة تمثّله فثؤثّر في اختيار الوكيل الأمثل لهذه الهوّيّة. وبالتّالي تتشكّل الهوّيّة من صيغ تأويليّة ومعاني معقّدة تستخلص بدلالة الهوّية المهيمنة أو النّظام الحاكم من عمليّات الوصف والرّبط والتّعبير، وبالاعتماد على مدى تمكّن الجماعات من مختلف الممارسات الخطابيّة والمؤسّسيّة.

وتعتبر بُنى الهيمنة الموجودة داخل إدارة النّظم الاجتماعيّة المسؤل الأوّل عن نشوء الهوّيّات المهيمنة في المجتمع، وإحدى العناصر الموثوقة في ساسية إصلاح السّلطة وتنظيم الأفراد ضمن رابطة مشتركة، وإلى ذلك يشير غيدنز حينما يعتبر أنّ "تنسيق أعداد من النّاس معًا في المجتمع لتكثير سوادهم مع مرور الوقت هو مورد موثوق به للحلّ الأساس".[8] فالقدرة على توطيد السّلطة ودعم الوثوق بها بتكثير الفئة المستفيدة منها والمساندة لها يعتمد القدرة على التّلاعب بالذاكرة الاجتماعيّة، والسّيطرة على جمع المعلومات والتّحكّم في نشرها، وهو الأمر الذي يولّد وينتج الاستمراريّة الخطابيّة والمؤسّسية التي تشكّل الرّوابط في المجتمعات. والملاحظ أنّ النّظم الخاضعة للإدارة تعتمد التّصنيف والمراقبة في عمليّات التّوحيد وتقويّة السّيطرة وتعزيز السّلطة التّأديبيّة، وهو ما يتطلّبه شنّ الحرب من السّيطرة على الأفراد في الأوضاع الاجتماعيّة، ومن التّحكّم في الجسم السّياسيّ في البيئات الأوسع. من ناحية أخرى، يوضح فوكو عند تحليل المؤسّسات أساليب الرّقابة الإداريّة التي تحقّقت بتقسيم الأفراد زمانيًّا ومكانيًّا، والتي سهّلت تصنيفهم وفقًا لعملية مسح ولمبادئ محدّدة تضمن بفعّاليّة الامتثال لقواعد المؤسّسة. "فالتّقسيم يحدّد لكلّ فرد موقعا خاصّا؛ كما يحدّد لكلّ موقع فرده الخاصّ" لأنّ "السّلطة الإداريّة تقتضي النّظام والانتظام مع القدرة على التّنّبؤ لإزالة آثار التّوزيع غير الدّقيق للأفراد، ودرء عواقب عدم الاكتراث بانتشارهم، ثمّ لتفادي سوء تقدير تداولهم لما هو خطير أو غير قابل للاستعمال".[9] لقد طبّق فوكو هذا النّموذج باعتباره نظام تحكّم يقوم على الامتثال والانتظام في وسط اجتماعيّ صغير كالسّجون والمستشفيات والجيوش فتوصّل إلى خلاصة مفادها أنّ الحرب هي التّعبير الأقصى عن السّيطرة، وأنّ لها ما يوازيها في بنية المجتمع: "قد تكون الحرب كاستراتيجيّة استمرارا للسّياسة، لكن يجب أن لا ننسى تصوّر "السّياسة" كاستمراريّة أيضًا وإن لم تكن للحرب بالضّبط وبشكل مباشر إلاّ أنّها على الأقلّ هي استمراريّة للنّموذج العسكريّ كوسيلة أساسٍ لمنع الاضطرابات المدنيّة. لقد سعت السّياسة باعتبارها أسلوبًا للسلّم والنّظام الدّاخليين إلى تنفيذ آليّة الجيش المثاليّ، والجمهور المنضبط، والقوّات المذعنة للواجب، والأفواج التي تخدم عسكريًّا وميدانيًّا في المناورات والتّدريبات".[10]

فمن مقتضيات الرّقابة أن يتمّ جمع كلّ تلك العناصر معًا لمنع المعارضة ومعاقبتها، لذلك تغدو تعبئة الهوّيّة المهيمنة مرغوبة، وفي سياق الصّراع يصبح تعزيز الشّعور بتلك الهوّيّة بين الجماهير التي دُعِيَتْ لدعمها وقت التّعبئة احتفالا استعراضيّا، وتمثّلا رمزيّا يستلهم أمجاد الماضي في الإشادة بالإنجازات الحالية. ويَعْمِدُ التّحكّمُ إلى التّلاعب بالخطابات العامّة في إدارة الصّراع لضرورة استراتيجيّة و"تنظيما لسلوك القوى الجماعيّة والفرديّة".[11]

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...................

[1] Giddens, A.,The Constitution of Society (Polity Press, Cambridge, 1994), p. 60

[2] Ibid p. 60

[3]  Garfinkel, H., Studies in Ethnomethodology (Prentice Hall, Englewood Cliffs, NJ, 1967);

J. Heritage, Garfinkel and Ethnomethodology (Polity Press, Cambridge, 1984).

[4] Wieder, L., “Telling the Code”, in R. Turner (ed.), Ethnomethodology (Penguin, Harmondsworth, 1974).

[5] إنظر الفصل الثالث.

[6] Giddens, op. cit., p. 83

[7] Goffman, E., Frame Anaysis (Harper, New York, 1974).

[8] Giddens, op. cit., p. 260

[9]. Foucault, M., Discipline and Punish: The Birth of the Prison (Penguin, London, 1991), p. 143

[10] Ibid., 168

[11] Foucault, M., The History of Sexuality, Vol. 1, quoted in P. Rabinov (ed.), The Foucault Reader: An Introduction to Foucault’s Thought (Penguin, London, 1984), p. 307

طبق فوكو هذا التصريح  على تنظيم الجنس من خلال الخطابات التحليلية. إن عملية تنظيم الهوية من خلال الخطابات المهيمنة هي اساسية بالنسبة لفهمي للعنف.

 

في المثقف اليوم