أقلام فكرية

الماهية البيولوجية والماهية الرياضية

نجد هنا أهمية التفريق مابين معرفة ماهية الشيء رياضيا علميا عنها في معرفته البيولوجية الطبيعية عقليا، أن الادراك في كلتا الحالتين واحدا في الاحتكام النهائي لمرجعية العقل، أذ لا يمكن ادراك أو معرفة ماهية شيء بغير العقل. لكن أدراك ماهية الشيء رياضيا، أي معرفة حقيقتة الرياضية أنما تتم باعتماد رموز المعادلات الحسابية المختبرية التجريدية الثابتة وهو ما لا ينطبق على تجريبية المعرفة البيولوجية.

وهو ما لا يتوفر عليه العقل أدراكه ماهيات الاشياء في وجودها البايولوجي الحي في الطبيعة التي تفترض معرفة ماهيتها حدسا أدراكيا مباشرا من العقل القاصر معرفتها حسيّا ، ولا يحتاج العقل مرموزات المعادلات الرياضية الثابتة كتجريد علمي لا يحتاج البرهنة فلسفيا خارج علم الرياضيات والفيزياء والكيمياء.، بل يحتاج أفكار اللغة في التعبير عن معرفة كيفيات الاشياء في حال أمكانية كشفها ومعرفتها.

كما تذهب فينامينالوجيا هوسرل أنها تلتقي بالعلوم الرياضية في معرفة الماهية لكن بطريقة الحدس العقلي، اذ حسب زعمه أن الفينامينالوجيا هي مثل علوم الرياضيت لا تعالج وقائع عابرة، أي لا تعالج موجودات الاشياء في الطبيعة، وانما تهتم بماهياتها فقط، ولكن بأسلوب غير منطق الرياضيات في المعادلات، بل في أسلوب الحدس العقلي للماهيات وهو ما يحتاج الكثير من الاثبات والبراهين.

من الواضح أن خطأ الفينامينالوجيا زعمها أنها تلتقي مع علوم الرياضيات في معرفة ماهيات وحقائق الاشياء غير ممكنة، فالمنهج المنطقي الرياضي الذي يعتمد معادلات تجريدية في الوصول الى حقائق وماهيات المواضيع، لا تتوفرعليها الفلسفة الفينامينالوجية في أعتمادها الاستدلال الحدسي العقلي غير اليقيني الثابت في الوصول الى ماهيات الاشياء في حال أفتراض وجودها الثابت...

ولا يمكن معرفة الماهيات في حدسها عقليا ظاهريا، لأنه في حالة افتراض التسليم بهذه الامكانية الفينامينالوجية في الحدس العقلي، فأن هذا الحدس يستلزم خبرة أدراكية قبلية موجودة في العقل عن الشيء المراد معرفة ماهيته حدسيا.ثم والأهم من هذا أن المواضيع المراد معرفة ماهياتها رياضيا مختلفة جدا عن مواضيع معرفة ماهيات الاشياء فينامينالوجيا.

فلاسفة عديدون يؤمنون بنظرية فطرية المعارف الادراكية القبلية للعقل. بمعنى اوضح ان العقل يحتاج الى معلومات فطرية مخزنة فيه بمساعدتها يستطيع العقل ادراكه الاشياء. هذه النظرية بمقدار ما تمتلكه من اقناع حقيقي ان العقل لا يستطيع بغير امتلاكه المعارف القبلية الفطرية ليدرك الاشياء الا ان مقتلها ان جميع معارف الانسان الفطرية هي في حقيقتها الاولية معارف مكتسبة. وهو مايذهب له ديفيد هيوم وجون لوك وغيرهما. لا يوجد معارف عقلية قبلية فطرية مخزنة في الدماغ ولا في الذاكرة والسبب ان كل شيء يدركه العقل حسيا او خياليا لا يحتاج فطرة غير مكتسبة سابقا. هناك فرق بين الاستعداد الفطري المعرفي لدى الانسان وبين ان تقول العقل يمتلك حقائق فطرية موروثة وقد اهتم نعوم جومسكي بهذا المبدأ في ميدان كيف يعرف الانسان اللغة وكيفية استخداماتها.

أذا ما أخذنا بالاعتبار أن ماهيات الاشياء البايولوجية في الطبيعة هي في حالة من الاحتجاب الكامن خلف ظواهرها الصفاتية، ولا يمكن للعقل أدراكها أو معرفتها بالمباشر الحسي أو الحدسي. نجد ومن هنا نقول أن الشيء الذي يعجز العقل عن أدراكه ماهويا لا يمكن التعبير عن ماهيته بأي نوع من التعبير الذي يمكننا فهمه.

أن عبقرية العقل وأعجازه تتمثل في أن أدراكه الاشياء ليس فقط لفهمها تفسيريا، بل في وجوب قيام العقل بمهمة تفسير الادراكات بهدفية قصدية تغييرية للاشياء في ظواهرها فقط أي في تخليقها وتجديدها وتغييرها وليس في خلقها. تفكير العقل التجريدي لا يخلق موجودات الاشياء.

أما أن يتداخل ما هو ظاهري مدرك عقليا للشيء في تكامل معرفي متخارج مع ماهو ماهوي كيفي غير مدرك لنفس الشيء، فلا يكون هذا من مهمة العقل وأنما من مهمة الطبيعة المحكومة بالجدل التخارجي وبالحركة الدائمية والتغييرالمستمرللظواهر والاشياء في الزمان والمكان....

تغييرات الاشياء في الطبيعة أنما يحكمها قانون الطبيعة في الديالكتيك حسب الفلسفات المادية على راسها المادية التاريخية في الماركسية. الذي يعمل الجدل باستقلالية تامة عن أدراك أو تدّخل عقل الانسان بها ولا يستجيب لرغائب الانسان...

الانسان منذ وجوده في الطبيعة يشكل جزءا متمايزا عنها فهو يقوم فقط بمعرفة ظواهر الاشياء فيها ولا يتدخل بقوانين الطبيعة سوى فقط التي يجري اكتشافها من قبله، أما القوانين الطبيعية التي لم يكتشفها الانسان لحد الآن فلا سيطرة له عليها ولا معرفة له بها ولا تداخل معها لا بالحواس ولا بالعقل...لذا تكون قوانين الانسان المخترعة عقليا تسري على الطبيعة في الظواهر المكتشفة منها فقط ولا تسري على قوانين الطبيعة غير المكتشفة للانسان من ضمنها قانون كيف يدرك العقل الانساني الوجود في كيفيته وجوهر ماهيته.

كانط وشيلر والمعرفة العقلية

أن فصل الادراك الماهوي للشيء عن وجوده الظاهري المادي المستقل في الطبيعة ،كان أشار له كانط في أن العقل عاجز عن معرفة ماهيات الاشياء، في نفس وقت وآنية أدراكه المادي لها في ظواهرها فقط. والعقل لا يمكنه التمييز بين الشيء في ماهيته والشيء في ظاهرياته بل هو يدركه كينونة موجودية انطولوجيا.

وكما ذكرنا سابقا أن العقل يدرك الاشياء في وحدة وجودية ويتعامل مع ظواهرها تخليقيا جدليا، ولا يخلق وجودها المستقل من جديد، فالافكار لا تخلق الوجود بل الوجود هو مصدر خلق الافكار.

ويبقى أدراك الماهويات عقليا مرتهن بمدى تعالقها مع أدراك العقل لظواهرها، والتخليق العقلي لا يمس كيفيات أو ماهويات تلك الاشياء لأنه لا يدركها، لذا نؤكد أن كل تغيير يطال الاشياء في ظواهرها لا يحتّم بالضرورة تغييرا ملازما في كيفياتها وماهياتها الثابتة، بنفس وقت أمكانية حصول تغيير في كيفية ما عند تغيير العقل ظواهر ذلك المدرك أو غيره...أذ ربما يحصل نوع من التبادل الجدلي التغييري في الشيء المدرك ظواهريا مع ماهيته التي تكون في حكم الثبات بالنسبة لأدراك العقل لها في وجودها الطبيعي المستقل،لكن بعد تدّخل العقل معالجة ظواهرها ربما يستتبع هذا تغيير في كيفياتها غير المكشوفة للعقل.

من  جهة أخرى نجد شيلر في معرض أدانته لكانط في منهج الاستقراء المعرفي، وأتهامه له بالخلط ما بين العقلي والقبلي، وهو خلاف ما سعى له كانط أنه أراد تأكيد تداخل العقلي والقبلي بما لا يمكن للعقل الفصل بينهما، فكل ما هو عقلي يصبح قبلي في المراكمة الخبراتية المكتسبة، عليه يكون العقل قسمة مشتركة بين المفهومين في أدراك المعرفة، كما لا يوجد خبرات قبلية ولا ماهيات يختزنها العقل كمعطى ألهي أو هبة طبيعية في العقل. وأنما كل الخبرات تصبح بديهيات وحقائق عقلية بالتراكم المعرفي التجريبي،التي مصدرها الوجود، ويعجز العقل تخليقه الوجود وأن يجعل من الخبرات القبلية غير الموجودة في حقيقتها بديهيات مسّلم الأخذ بها.

قوانين الطبيعة وقوانين العقل

يذهب ماكس شيلر الى أنه (لا يوجد عقل يفرض قوانينه على الطبيعة، واننا لا نستطيع أن نثبت الا ما يعتمد على الاتفاق والاصطلاح، أما القوانين فلا أحد يستطيع فرضها) (1) لم يوضح لنا ماكس شيلر لماذا لا يستطيع العقل فرض قوانينه على الطبيعة التي نحاول في توضيحنا التالي ، على حد فهمنا لعبارات شيلر الغامضة خاصة قوله ما يعتمد على الاتفاق والاصطلاح وما المقصود منهما:

أن العقل الانساني محدود جدا في فهمه لا متناهي قوانين الطبيعة وقدراتها الفائقة التي تحكم الوجود الانساني بما لا يعرفه الانسان عنها الا في القليل منها، والقول بأن الانسان سيد الطبيعة مصطلح غائم غير صحيح اليوم بالنسبة للطبيعة وقوانينها، لكنه ربما يرضي غرور الانسان في محاولته وطموحه السيطرة على الطبيعة في أكتشافه قوانينها الثابتة كاملة...الطبيعة هي مرضعة الانسان والحيوان والنبات وجميع الموجودات في تأمين بقائها وأدامة حياتها في توفير الغذاء لها، وأن كانت لا تعي ذاتها لكنها لا تسّلم قيادها بيد الانسان، لأن ذلك خارج عن أرادتها الصماء الثابتة أيضا...

والطبيعة تعرف بقوانينها التي تحكم الوجود الطبيعي بضمنها الوجود البشري، وليس فقط بالاشياء المادية الظاهرة والبائنة لادراك الحواس والعقل المباشرمن كائنات حية وغير حية تشاركه الطبيعة. 

الانسان بقدر أحساسه الكبير جدا أنّه لا يستطيع الاستغناء عن الطبيعة، ألا أن الطبيعة لا تدرك حاجة الانسان لها ولا تستجيب هي لرغائبه أكثر مما تجود به هي على الانسان والحيوان والنبات من أسباب البقاء والحياة بلا ادراك منها.

أن الطبيعة هي مصدر خلق قوانين العقل وليس العكس. بمعنى عجز العقل أن يكون مصدرا مهيمنا باختراعه قوانين تمكنه من هيمنته على الطبيعة،فالوجود الطبيعي للاشياء هو الذي يخلق قوانين العقل، وبقوانين الطبيعة القبلية الثابتة التي تمتلكها الموجودات والتي يفتقد العقل أمتلاكها أو بعضها هي التي تحكم الوجود.

وقوانين الطبيعة قبلية متعالية على الوجود والانسان في غموضها وعدم قابلية العقل البشري أدراكها أو أكتشافها كاملة الا في بعضها، وليس بمقدور العقل أختراع قوانينه ذاتيا، قوانين يحكم بها الطبيعة ألا في أضيق نطاق ومجال هو ما يخص الطبيعة في ظواهرها وبعض القوانين المكتشفة من قبل الانسان عنها...لذا يتعذّر على الطبيعة أستقبالها قوانين العقل التي تكون هي مصدرها الحقيقي وليس العقل.

القوانين الطبيعية المكتشفة منها وغير المكتشفة، هي التي تحكم الوجود، وقوانين الانسان المخترعة لا تحكم الطبيعة ولا الوجود بقدر تاثيرها الضئيل في تسخيرها الطبيعة لصالح بقاء الانسان وادامة حياته على الارض ومعه جميع الكائنات الحية.

قوانين الطبيعة لا تستمد مشروعية قبولها من وعي الانسان بها أو حاجته لها، ولا تعمل أو تعي تلبية رغائب الانسان منها، ويمكن لموجودات الطبيعة أن تتقبل قوانين العقل التي تتدخل في ظواهر الاشياء فقط وليس بماهياتها التي يعجز العقل ادراكها.كما أن أختراع العقل لبعض قوانينه، فهو لا يمتلك بها أمكانية ابطال فاعلية قوانين الطبيعة الثابتة أو تحكمّه بها..

أن القانون المستمد عقليا من أدراك الطبيعة لا يتعامل بحيادية التعبير عن تلك الادراكات بلغة التصورات المثالية التجريدية في حيادية زائفة تنسب للعقل، بل أن العقل يتداخل بالفكر والتجربة العلمية في تخليق مدركاته المادية والمثالية على السواء ليس من أجل معرفتها وتفسيرها المجرد، بل من أجل تطويعها لخدمة الوجود الانساني...

إن ملكة العقل الادراكية النقدية تتداخل حتما في تعديل واكتشاف العلل السببية السلبية التي تعمل بالضد من تسهيل حياة الانسان وصعوباتها، والا فلا معنى أن يدرك العقل الانساني الطبيعة واكتشاف قوانينها الثابتة الفاعلة من أجل فهمها وليس من أجل تسخيرها في خدمة الحياة والوجود الانساني.

لذا فأن الطبيعة في الوقت الذي تكون أرهاصا أوليا للعقل في أدراكه الموجودات واكتشافه بعض قوانين الطبيعة، فهي عاجزة غير مكترثة عن أستقبال رغبة العقل الانساني فرض قوانينه المخترعة على الطبيعة ذاتها.

وأن ملكة العقل الاعجازية تكمن في أكتشافه قوانين الطبيعة الثابتة التي تعمل بمعزل عن أرادة الانسان، بنفس وقت أن العقل يخلق قوانينه الجدلية الخلاقة التي يتبادلها في التأثير والتأثر بالطبيعة من جانب أحادي فقط هو الانسان.

الطبيعة في الوقت الذي تحكم الوجود الانساني بقوانين ثابتة مستقلة عن وعي وادراك ورغبة الانسان، رغم كل هذا فالطبيعة لا تعي استقبالها القوانين الانسانية المخترعة في تطويعها لرغائب الانسان وحتى العبث بها.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

....................

الهوامش:

1.أ.م.بوشنكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، سلسلة عالم المعرفة، ترجمة د. عزت قرني ص 192-193

في المثقف اليوم