أقلام فكرية

الحتمية المرنة.. محاولة التوفيق بين الجبرية والارادة الحرة

يُقصد بالحتمية المرنة او الناعمة وجود انسجام بين الحتمية والارادة الحرة. وبهذا هي شكل من التوافقية. اول منْ صاغ المصطلح هو الفيلسوف الامريكي وليم جيمس (1842-1910) في مقالته "مأزق الحتمية".

منطلقات الحتمية المرنة

تنطلق الحتمية المرنة من ادّعائين اساسيين اثنين وهما:

1- ان فكرة الحتمية صائبة وصحيحة. كل حدث، وكل فعل انساني هو مقرر سببيا. لو انت اخترت تناول القهوة بدلا من الشاي الليلة الماضية، فانت لم تختر ذلك طبقا لظروفك الدقيقة، حيث لو ان شخصا لديه المعرفة الكافية في ظروفك الخاصة سيكون قادرا من حيث المبدأ على التنبؤ بما ستختار.

2- نحن نتصرف بحرية عندما لا نكون مقيّدين او مكرهين. لو كنتُ مكبّل الساقين، سوف لن أكون حرا في الركض. ولو أعطيت محفظتي الى أحد اللصوص تحت تهديد السلاح، انا لا اتصرف بحرية. نحن نتصرف بحرية فقط عندما نعمل وفق رغباتنا.

تتعارض الحتمية المرنة مع كل من الحتمية الصلبة ومع ما يسمى احيانا الليبرالية الميتافيزيقية. الحتمية الصلبة تزعم بان الحتمية فكرة صائبة وهي تنكر امتلاكنا لإرادة حرة. الليبرالية الميتافيزيقية (تختلف عن الليبرالية السياسية) تؤكد ان الحتمية هي فكرة زائفة لأننا عندما نتصرف بحرية ستؤدي بعض أجزاء العملية في تصرفنا مثل (رغبتنا، قرارنا، او فعل الارادة) الى فعل غير مقرر سلفا.

المشكلة التي يواجهها فريق الحتمية الناعمة هي في توضيح كيف يمكن ان تكون أفعالنا مقررة سلفا وحرة في آن واحد. معظم اولئك المناصرين، يؤكدون هذا عبر الإصرار على ان فكرة الحرية او الارادة الحرة، ستُفهم بطريقة معينة. هم يرفضون فكرة ان الارادة الحرة يجب ان تستلزم بعض القدرة الميتافيزيقية الغامضة التي يمتلكها كل واحد منا – أي، القدرة على بدء الحدث مثل (فعلنا في الرغبة) الذي هو ذاته غير مقرر سببيا. هذا المفهوم التحرري للحرية هو مبهم، كما يرون، وفي تضاد مع الصورة العلمية السائدة. ما يهمنا، حسبما يرون، هو اننا نتمتع بمقدار من السيطرة والمسؤولية على أفعالنا. وهذا المطلب ستتم تلبيته لو كانت أفعالنا تأتي او تتقرر بفعل قراراتنا ومشاوراتنا ورغباتنا وشخصيتنا.

المعارضون للحتمية المرنة

المعارضة الأكثر شيوعا للحتمية المرنة هي في فكرة ان الحرية التي تتمسك بها الحتمية الناعمة لا ترقى الى المستوى الذي يفهمه معظم الناس في الارادة الحرة. لنفرض ان شخصا قام بتنويم مغناطيسي لشخص آخر، وبينما هذا تحت تأثير التنويم المغناطيسي سيقوم الشخص الاول بزراعة رغبات معينة في دماغه، مثل، رغبة في تناول المشروبات عند حلول الساعة العاشرة. عند الساعة العاشرة هو ينهض من النوم ويستحم. فهل هو بعمله هذا تصرف بحرية؟ اذا كان التصرف بحرية يعني ان يعمل ما يريد، وحسب رغباته، عندئذ الجواب يكون نعم، هو تصرف بحرية. لكن معظم الناس سيرون ان أفعال هذا الشخص غير حرة طالما، بالنتيجة هو كان تحت سيطرة شخص آخر.

المثال يكون أكثر وضوحا عندما نتصور خبيراً يزرع قطبا كهربائيا في دماغنا ومن ثم يثير فينا كل انواع الرغبات والقرارات التي تدفعنا لآداء أفعال معينة. في هذه الحالة، نحن ستكون ليس اكثر من دمية في أيدي شخص آخر، ومع ذلك طبقا لحرية الحتمية الناعمة، نحن نتصرف بحرية.

الحتمية الناعمة ربما تجيب بانه في مثل هذه الحالة سنقول انك غير حر لأنك كنت تحت سيطرة شخص آخر. ولكن اذا كانت الرغبات والقرارات التي تحكم أفعالك تعود حقا لك، عندئذ من المعقول القول انك صاحب السيطرة، ومن ثم تتصرف بحرية. النقاد يؤكدون، انه طبقا للحتمية الناعمة، تكون رغباتك وقراراتك – وكامل شخصيتك – هي بالنهاية تتقرر بعوامل اخرى وبنفس المقدار تكون خارج سيطرتك. مثل، تكوينك الوراثي، تربيتك، بيئتك. وبالمحصلة انت لاتزال لا تمتلك بالنهاية أي سيطرة او مسؤولية تجاه أفعالك. هذا الخط من النقد للحتمية الناعمة يُشار اليه أحيانا بـ "حجة النتيجة".

الحتمية المرنه في وقتنا الراهن

العديد من الفلاسفة بمن فيهم توماس هوبز، ديفد هيوم، وفولتير دافعوا عن بعض اشكال الحتمية الناعمة. لاتزال بعض صيغ الحتمية الناعمة هي الأكثر شعبية بين الفلاسفة المهنيين في الرؤية لمشكلة الارادة الحرة . الرواد المعاصرون للحتمية الناعمة ضموا بين صفوفهم P.F.Strawson، دانيال دينيت وهاري فرانكفورت. ورغم ان مواقفهم تندرج ضمن الخطوط العريضة التي وصفناها أعلاه، لكنهم يعرضون مواقف دفاعية وصيغ جديدة معقدة. دينيت، مثلا، في كتابه (حرية الخيار) Elbow Room يرى ان ما نسمية الرغبة الحرة هو قدرة عالية التطور، اكتسبناها في سياق التطور، لكي نتصوّر إمكانات المستقبل ولنتجنب تلك الامكانات التي لا نرغبها. هذا المفهوم للحرية (كونك قادر على تجنب المستقبل غير المرغوب) هو منسجم مع الحتمية، وهو كل ما نحتاج اليه. هو يؤكد ان الافكار الميتافيزيقية التقليدية للرغبة الحرة التي لاتنسجم مع الحتمية، اصبحت منعزلة ولا تواكب العصر.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم