أقلام فكرية

الإنسان ودينامية الوجود.. حتمية السلوك والأفعال

ما يتعلمه الإنسان كل يوم في حياته قليل جدًا إن لم يرغب هو في إدراك ما يريد تعلمه، وتفسير ما يمر به من خبرات لكي تضيف لمعرفته معرفة جديدة في ما يصدر عن داخله، لكي يواجه ما هو موجود في الخارج من مثيرات وأشكال متعددة مما يحمله الخارج له، هو الإنسان في بحثه عن الإتزان والإستقرار لينعم ولو بشيء من الهناء والراحة النفسية. ونحن نتناول هذه العبارات ليس أعتباطًا أو رفاهية، إنما نبحث لنحاول أن نجد ما يريحنا في عالم صاخب، لا يهدأ ولا يستكين، عالم الداخل "ما في أنفسنا" ومتطلباته التي لا تنتهي من تلبية الرغبات المعلنة، وغير المعلنة، ومن الخارج الذي هو يفرض علينا لكي يجعلنا أن نتكيف مع الواقع لكي لا نرتد إلى أعماقنا فنعيش عالم الجنون إن صح التعبير، مسرح دواخلنا الذي لا نهاية له ولا حدود، له لغة خاصة، وطريقة تفكير مختلفة، ويقول "جاك لاكان" أن ما هو لاشعوري ليس كله مكبوتًا، بمعنى أنه قد تم تجاهله من طرف الذات بعد أن حصل النطق به، لذا يجب التسليم بوجود عملية قبول أولية، قبول بالمعنى الرمزي، كامن خلف صيرورة الكلام والذي من الممكن أن ينعدم وقوعه"لاكان، ص 20"

أن الإنسان تحكمه رغبات، تقوده إلى أفعال ترغمه على تنفيذها وتحقيقها حتى وإن تعارضت مع ما يعيشه من قيم وتقاليد وأعراف، لا يمكن أن يَسكن أو يهدأ حتى وإن أستطاع قمعها وهو واعٍ بها، أو يتركها تنغرس في لاشعوره"لا وعيه" في الوقت الحاضر، على الأقل لكي يعيد توازنه أمام العالم الخارجي" أمام الواقع المعاش" ولكنها لا تهدأ ولا تموت ولو مضى على طمرها بفعله هو، أو بفعل القوة الداخلية التي استطاعت ان تعينه على الهدوء ولو لحين!! أقصد آليات الدفاع.. الكبت أنموذجًا.

أن حتمية السلوك تدفعه دينامية عجيبة غريبة، تجدد له الرغبات حتى وإن كانت متوحشه، وإن كانت غير مقبولة للعالم الخارجي، هذه الرغبة تفرض نفسها عليه وفي أوقات ولحظات ربما تدفعه لأن يتحول من السوية المتشبثه بأطراف الواقع عنوة، إلى اللاسوية الصارخة بهدوء، الرغبات التي قمعها أو خزنت تظل في حالة دينامية تدفعه لأن يلجأ إلى هذا الذي يريده، ولو استعنا بموسوعة علم النفس والتحليل النفسي لمعرفة الدينامية وما هو كنهها لوجدنا أنها مفهوم يعني الطاقة الفاعلة والتدافع والحركة والتغير المستمر، التفاعل المستمر بين الفرد والدوافع، سواء أكان داخليًا أم خارجيًا، كما أورده مصطفى كامل، وتضيف الموسوعة بأن الديناميات النفسية هي تدافع وتنازع وتصارع القوى والنزعات النفسية المختلفة داخل نفس الشخص، فالشخص توجد لديه نزعات ودوافع مختلفة متباينة، وغالبًا متصارعة كل منها يريد أن يقهر الآخر وينتصر عليه" والكلام للدكتور فرج طه " ونقول أن دينامية السلوك الإنساني لا تنتهي في عمر محدد، أو زمن محدد، تحكمها قواعد محددة، أو قانون محدد، أو ضوابط محددة، إنها عائمة وهائمة ونجدها في مختلف الأوقات والازمان والأمكنة، تنبثق من عقالها لتفرض نفسها وربما تقود صاحبها إلى مآسي وخروج عن القانون أو السواء، وأزاء ذلك يقول المحلل النفسي المصري "محمد درويش" توجد دينامية مختلفة متغيرة، لا يوجد شيء ثابت " في محاضرة له في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس بعنوان "التحليل النفسي والتوحد.. منظور تاريخي" بتاريخ 10.11.2022، وهي محاضرة غير منشورة خاصة بأعضاء الرابطة والدارسين للتحليل النفسي. لذا بناء على طرح محمد درويش طفل التوحد كما هو السوي منا تقوده دينامية متجددة وإن أختلف بها عن الأخرين، ونحن نقول ترغمه على فعل السلوك الذي يرغب، السلوك الذي يصر على تنفيذه، بوعيه الحالي، أو يرغمه على الأصرار والتمسك لحد العناد، هو نفسه الإنسان ما يقوده في طفولته يتجسم في مراهقته وبلوغه، أعني فترة الرشد.

يرى "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي في كتابه الذهانات ص 16 قوله: أما الرمزي فلقد أبصر تموه عندما أشرت وبطريقتين مختلفتين إلى ما هو أبعد من كل فهم، فبداخل الرمزي يتم إدراج وتأطير كل فهم، وهو يقوم بتأثير يترك أختلالًا ملحوظًا في علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالآخرين، ويضيف "لاكان" فقيمة كل عنصر تحصل بكونه مضادًا لآخر. وما زلنا بصدد معرفة الكثير عن ما يجري في دواخلنا وما نريد معرفته عن ظاهرتي الدينامية والحتمية التي تحرك سلوك كل البشر، وهي التي تحدد مستوى إتزانه "أعني بلغة الكم عال أو منخفض، معتدل أو متطرف، في وقت وزمن معين من أوقات يومه، ليله ونهاره، في وعيه، أو حلمه، لا سيما أن الاحلام لها نفس الدرجة في الحياة اليومية، والسبب أن الإنسان هو نفسه الذي يصدر عنه فعل السلوك، والحلم كسلوك غير مسيطر عليه، فهو محتوم أيضًا، ودينامي متجدد، ومختلف كما يرى "محمد درويش" فما يراه الإنسان في حلمه ربما يكون هو واقع في حالته وهو غير نائم، أقصد في حياته اليومية وتعامله، حقًا أن الإنسان جدلٌ غير منتهِ، جدل تحركه الرغبات، وإن منعت "هذه الرغبات" ظهر في الأحلام. أن أنساننا المعاصر أزاء متطلبات الحياة يعيش في صراع متجدد تحكمه رغبات دينامية متسارعة مع متطلبات الواقع، وننقل من فرويد كما ذكره جاك لاكان في كتابه الذهانات ص 21 أن كل ما يختفي تحت قبضة الكبت يتم إنجلاؤه، ذلك لأن الكبت ورجوع المكبوت هما وجهان لشيء واحد، إن المكبوت حاضر دائمًا ويعبر عن نفسه بطريقة جدً مركبة في الأعراض وفي ظواهر عدة. ويعزز كلام "جاك لاكان" الذي رأه فرويد برؤيته هو "أعني لاكان" قوله: في مرحلة جدً متأخره فقد يحدث لشخص أن يرفض إدماج شيء ما في عالمه الرمزي رغم أنه قد تم اختياره، وما هذا الشيء بهذه المناسبة إن هو إلا خطر الإخصاء. وكل التطور المتلاحق يبين أن الذات لا تريد أن تعرف عنه شيئًا بصفته مكبوتًا كما يقول فرويد بالحرف.

تؤكد لنا أدبيات علم النفس بشكل قاطع أن أعمال الإنسان وأفعاله ليست دائمًا ذات قيمة واحدة، فأنت تستطيع أن تتكيف بسهولة مع الظروف التي تتوافق مع نفسك، وما اعتدت عليه من خبرات سابقة، وإن بعضنا من الأسوياء لا يشعر بأي صعوبة في التكيف مع حياة أقل ما نقول عنها سوية إلى حد ما، وقولنا كل شيء يتبدل إذا كانت المتطلبات غير متناسبة مع قدراتنا على تقبلها، أو بالأحرى على تحملها، كأن يكون العمل مرهق، والادارة سيئة، والمواصلات متعبة، وسلوك الناس المحيطين بنا في العمل مثير لكل حركة، إيماءة، فكرة لا تفسر بحسن النية، أو شارع مشوش بالمثيرات، فيزداد تشتت الجهود، ويبدو عندئذ سيطرة الإنفعال على السلوك بشكل واضح، فيكون الفاقد من الطاقة أكثر من المنجز في الحياة العملية اليومية، فتظهر علامات التردد وربما الشك، والاجترار النفسي، والسخط من داخل النفس على النفس، وترى الدراسات النفسية أيضًا أن كل شيء منوط بالاستعدادات المسبقة لكل فرد، وتهيأه لما سيحدث سلبًا أو إيجابًا، وليس ببعيد أن يكون الضغط العالي مولدًا لنوع من العصاب"الاضطراب النفسي" ويظهر ذلك بالأخص في الأشخاص المنهكين، أو ممن تعايشوا مع ضغوط الحياة لفترات طويلة، ويساعد ذلك عودة المبكوت، أو بزوغه بطرق أخرى مُحوره تناسب الموقف في زيادة تدهوره، أنها دينامية المخزون وعودته. وحتمية السلوك وما صدر عن الإنسان.

***

د. أسعد شريف الامارة - استاذ جامعي في علم النفس

باحث في التحليل النفسي 

 

في المثقف اليوم