أقلام فكرية

السلطة والمثقف.. اشكالات سيكولوجية ومفارقات فكرية

ما الطبيعة السيكولوجية للعلاقة بين السلطة والمثقف؟. وما الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة، والصورة التي تحملها السلطة عن المثقف؟. وعلى افتراض انهما خصمان او مختلفان في الفكر والمزاج والضمير والقيم، فهل سيأتي حين من الدهر يكونان فيه منسجمين، ام انهما يبقيان الى الازل.. جبلان لن يلتقيا؟.

السلطة والمثقف.. ما يجمع وما يفرّق

المقصود بالسلطة هنا.. نظام الحكم السياسي الممثل بحكومة مسؤولة عن ادارة شؤون الناس، ونقصد بالمثقف، الذي يكتب وينشر في قضايا تخص الفكر بكل انواعه والحياة بكل مجالاتها، ويكون مخلصا للحقيقة وصادقا مع نفسه.

هذا يعني ان السلطة والمثقف يجمعهما ميدان مشترك من القضايا التي تخص الناس والحياة، ولكنهما يختلفان في امرين:المنظور الفكري (المعرفي) الذي يحملانه بخصوص هذه القضايا، واساليب التعامل معها. فالسلطة تحمل منظورا فكريا واقعيا، فيما هو عند المثقف مثالي.. بمعنى انها تنظر للامور وتزنها على اساس ابعادها الواقعية فيما ينظر لها المثقف على اساس ابعادها الانسانية.

والقضية عند السلطة تقاس على ما يمكن ان تكون عليه، فيما يقيسها المثقف على ما ينبغي ان تكون عليه، (والفرق كبير بين تكون وينبغي). والاختلاف في المنظور الفكري يؤدي الى الاختلاف في التعامل حتى مع القضية الواحدة، تماما مثل المصاب بالبرانويا الذي يفسّر همس اثنين بأنه تآمر عليه فيما يفسّره آخر بأنه مسألة خاصة بينهما.

صورة السلطة عند المثقف

ان الصورة التي يحملها المثقف العراقي (والعربي ايضا) عن السلطة انها (عدوة) له. فمفهوم السلطة في لغتنا وواقعنا ظل، كما اشرنا سابقا، مشحونا لقرون بطابع العنف والقوة ودلالات التسلط التي تتجلى في غائيات الطاعة والخضوع والامتثال، فيما هي (السلطة) في اللغة الفرنسية مثلا تعني الحق في توجية الاخرين والقدرة على اتخاذ القرارات وشرعية استخدام القوة. وبما ان الحرية للمثقف كالهواء.. لا يمكن ان يمارس دوره من دونها، وان السلطة تخشى الحرية، فأن المثقف عاش حالة اغتراب نفسي عنها أفضت بحتمية سيكولوجية الى علاقة خصومة او عداوة.

صورة المثقف عند السلطة

تشكلت لدى السلطة صورة نمطية عن المثقف بأنه خيالي.. يتعامل مع الامور بحس انفعالي، ويريد ان يكون التعامل مع الناس بشاعرية.. بانسانية، فيما السلطة تتعامل مع القضايا من منطلق مصلحتها الشخصية اولا ومصلحة الناس ثانيا، ولا مكان للمشاعر والعواطف.. فقلبها غليظ وطبعها خشن وليس رومانسيا كقلب المثقف ورقيقا كطبعه.

قناعات السلطة وقناعات المثقف

تشكلت عبر تاريخنا السياسي طباع سيكولوجية متناقضة بين السلطة والمثقف. فالسلطة اعتادت دائما ان تقوم بدور المتحدث، وعودت الناس ان يقوموا بدور المنصت لها، فيما المثقف يعدّ نفسه الاكفأ بالتحدث والاصدق.. فتخشاه لأنه اقرب منها نفسيا للناس.

والسلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، في رأيها، عن (طبخة)ناضجة وعملية جمعت كل مكونات القضية، فيما (طبخة) المثقف ناقصة في رأيها، ولهذا فانها لن تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبختها) طعما طيبا.. الا اذا كان حلوا في فمها.

والسلطة تميل الى التعميم وتعمل على ان تشيع ثقافة تنتج افرادا بالمواصفات التي تريدها هي، فيما المثقف يميل الى التفريد ولا يضع للثقافة مواصفات او حدودا. والمثقف ناقد بطبيعته لا سيما للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها. والسلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: الشعور بالنقص والاستعلاء.. فضلا عن أن المثقف العراقي مصاب بعقدة (تضخم الأنا) لاسيما الكبار منهم أو الذين يعدون انفسهم كبارا!.

مفارقات فكرية

اغرب مفارقة حدثت في عراق ما بعد التغيير.. هي تراجع مكانة المبدعين مع ان النظام صار ديمقراطيا!، بعكس ما كان متوقعا حيث كان النظام الدكتاتوري يرغم العقل المبدع على خدمته، فيستجيب دفعا للشر، أو يعيش حالة اغتراب عن نفسه والوطن قد تدفع به الى الانتحار، أو يهاجر الى بلد يحترم شخصه ويقدّر ابداعه. ومن يتأمل واقع العقول العراقية المهاجرة يجد انها أنشأت جامعات وكليات في دول عربية (الخليج، اليمن، ليبيا، الجزائر..)، وأسهمت في تطوير دول أوربية، وقدمت لمجتمعاتها خدمات تتطلب ابداعا.. بل أن الأطباء العراقيين الموجودين في بريطانيا لو عادوا الى العراق لاختلت او تعطلت الخدمات في المستشفيات البريطانية!

ومفارقة أخرى، هي فشل النظام الديمقراطي في اعادتهم كما فشل النظام الدكتاتوري من قبله، مع أن الدكتاتورية شرّعت لهم قانونا بأسم (الكفاءات)كان مجزيا ماديا.. فعادوا للعراق فعلا لكنهم اختنقوا.. فتركوا ما منح لهم من مكافئات (قطع أراض، سيارات..) ورجعوا لبلدان الغربة التي رحبت بهم ثانية!

والمؤسف ان ديمقراطيتنا فشلت ليس فقط في تهيئة الأجواء لعودة المبدعين، بل أن الموجودين منهم داخل الوطن صاروا بين من أخمد صوته كاتم صوت، او من اختار ان يجاهر بالحقيقة حاملا كفنه على يديه، او من سار على خطى المهاجرين من قبله.

والمؤلم أن الباقين منهم تراجعت مكانتهم الوظيفية. فمعظم المراكز الوظيفية الرئيسة بمؤسسات الدولة تسند لا على أساس الكفاءة العقلية بل الانتماء الحزبي، فعلّة الاسلام السياسي انه يفضل حامل بكلوريوس من اهل الثقة على خبير دولي حامل دكتوراه في الاقتصاد، وجعل المبدعين المستقلين لا دور فاعل لهم على صعيد السلطة التنفيذية.. ولا يدرك ان الابداع صار اليوم هو المعيار لتقدم المجتمعات وتفوق الدول.. فالدولة الأكثر احتراما لمبدعيها وتوفيرا لفرص توظيف ابداعهم بخدمة المجتمع، هي الأكثر تطورا وتحقيقا لحياة كريمة لمواطنيها، ولهذا تخلف العراق بعد 2003 عشرين سنة.. قد تمتد نصف قرن!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم