أقلام فكرية

السلطة الأرثوذكسية

يُعَرّفٌ المفكر الراحل ” محمد أركون” السلطة الأرثوذوكسيّة، بأنها: (السلطة المعتمدة على السلطة الحاكمة في فرض مفاهيمها وآرائها وقوانينها المعرفيّة على الآخر.). أو بتعبير آخر برأيي بأنها مجموعة الرؤى والأفكار التي تشكل في سياقها العام (أيديولوجيا) تتبناها قوى سياسيّة داخل السلطة أو خارجها، يعتقد الحامل الاجتماعيّ لها بأنها وحدها من يمتلك الحقيقة الصائبة، وما عداها من نظريات أو أيديولوجيات تحيط بها، هي خطأ يجب أن يقصى أو يهمش بأي شكل من الأشكال.

إن العقليّة الأرثوذوكسيّة بسلطتها الاقصائية، هي تعمل بالضرورة بهذا الشكل أو ذاك، على الغاء حريّة البحث والتفكير والتقصي من أجل حل قضايا الفرد والمجتمع والدولة حلاً منطقيّاً، والحل المنطقي هو الذي يقوم بالضرورة على تقبل الرأي الآخر والحوار معه، وبالتالي المشاركة في البحث عن حلول للقضايا المشتركة.

إن العقل الأرثوذكسيّ، هو الذي يؤدي أيضاً إلى حجب الحقيقة، وعدم  الاقتراب من المسكوت عنه أو اللامفكر فيه، لأن السلطة الأرثوذوكسيّة تمنعه وتقمعه وتحول دون الاقتراب منه، وذلك من خلال حجرها على العقل وحريّةّ الإرادة للمختلف، بحيث يصبح هذا العقل عاجزاً عن التساؤل. وفي مثل هذه الحجز على العقل المختلف، أو قمعه، سيسود نمط آخر من التفكير الذي ترضى عنه السلطة الأرثوذوكسيّة وتشجعه وتفتح له في المجال واسعا، وهو التفكر الخياليّ والأسطوريّ والغيبيّ ولامتثاليّ والاستسلاميّ والماضويّ وحتى العبثيّ، الذي يبتعد عن التأمل  المنطقيّ في الظواهر، وعدم استخدام الاستقراء والاستنتاج والقياس والبرهان، أو العقل النقديّ في النظر إلى الأشياء التي تهم مصالح الفرد والمجتمع.

إن السلطة المعرفيّة الأرثوذوكسيّة إذا ما مُورِستْ من قبل قوى سياسيّة ذات مصالح انانيّة ضيقة داخل السلطة، ستدفع بالضرورة أفراد المجتمع ليفكروا بقضايا خارج نطاق قضايا واقهم التاريخيّ المعيوش ، وسيدخلون في صراعات ثانويّة ربما تعود جذورها إلى مئات من السنين الماضية، كأن يدخلوا في عوالم معرفيّة وسلوكيّة تتعلق بعقليّة العشيرة والقبيلة والحزب  والطائفة والمذهب والفرقة الناجية، وبالتالي الوطني ومنه هو الخائن، أو من هو الكافر أو المؤمن، وغالباً ما يدفع الناس للتفكير والبحت عن فقه الحيض والنغاس، أو هل عمل المرأة حلال أم حرام، أو هل أن صوتها عورة أم غير عورة، وهل يحق للمرأة أن تخلط البندورة مع الخيار.. وغير ذلك. إضافة لدخولهم في دهاليز المجتمع الاستهلاكيّ والبحث عن اللذة وشهوة الموديل والقضايا القشريّة التافهة في حياتهم، بدل القضايا الجوهريّة المتعلقة بتعليمهم وتربيتهم التربية العلميّة التي تنمي عقولهم ومهاراتهم الإدراكيّة وامتلاكهم روح البحث عن الحقيقة في الظواهر التي يتعاملون معها، من أجل تطوير شخصياتهم من النواحي اَلجسديّة والروحيّة. ففي مثل هذه الوضعيّة الاجتماعيّة والفكريّة المتهافته التي تساهم السلطة الأرثوذوكسيّة في تسويقها وتجذيرها داخل بنية المجتمع وعقول افراده. لا بد أن تكوّن أفرداً هم أقرب للبهائم منهم للبشر، وعلى هذا الأساس ستجد هذه البهائم السيف مسلطاً على رقابها دائماً عندما تشعر بذاتها الإنسانيّة وتريد العودة لإنسانيتها، كونها لا تجيد استخدام عقلها في التعامل مع مَنْ حَيْوَنَهَا، والحيوانات البشريّة غالباً ما تثور ضد من يسوسها، فتكون النتيجة العقاب، وفي أقصى حالاته القتل.

ملاحظة: غالباً ما تظهر السلطة الأرثدوكسيّة في العرف والعادة والتقليد، وهي تمارس قمعها الفكريّ والعمليّ للفرد والمجتمع وحتى الدولة. وهذا ما يساهم أيضاً في تعميق حالات التخلف بكل مستوياته داخل المجتمع والدولة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

 

في المثقف اليوم