أقلام فكرية

العلاقة المعقدة بين الهويات الدينية والعلمانية (2)

يعني امتلاك هوية أن يكون لديك ارتباط متكامل بمجموعة ثابته ذات صلة بمعتقدات ورغبات وأفعال. ونظرًا لأن هذه المعتقدات والرغبات والأفعال تٌبنى وتستدام اجتماعيًا، فإن الحصول على هوية مرتبط بشكل متكامل أيضًا بجميع أولئك الذين يشاركون الإطار المفاهيمي الذي يولد هذه المعتقدات والرغبات والأفعال. أن يكون لديك هوية ليس فقط أن تكون لديك لغة ولكن أيضًا مجتمع يمكن ان تندمج معه. وهو أن نعيش في عالم مشترك، عالم محدد بمفردات لغة مشتركة، يولد مجموعة معينة من التوجهات التي تدفعنا إلى التصرف بطريقة ما بدلاً من طرق أخرى. أزعم أن هذه تشكل شروطً الحد الأدنى لهوية الإنسان.

الهويات الدينية

إن ادنى إطلاع على الأديان دليل كاف على أن مفهومنا الغالب للهوية الدينية يضعها بقوة ضمن ثقافة المثل العليا. إن الحصول على هوية دينية هو امتلاك إطار أو نطاق يمكّننا من التمييز النوعي بين ما هو هام وما هو زهيد، وما هو ذو قيمة قوية أومجرد مرغوب فيه، ومتفوق وأدنى، ومقدس ومدنس، وخير أعلى وشر مطلق، ومثير للإعجاب ومزري، وماهو رائع وماهو خسيس. باختصار، مُثُلنا النهائية وعكسها، بما في ذلك ما هو مجرد شيء ممتع، أو مفيد ولكن ليس ذا أهمية دائمة وغالبة.

تبني الأديان صورتها الخاصة عن الوجود، الجحيم والنعيم، الأضطراب والتشوش، والرغبات التي تتلاشى والفوضى التي لا قيمة لها وغيرها. إن أكبر مخاوف جميع الأديان هو أن يسقط العالم في حالة من حرب الجميع ضد الجميع، وتنتهك فيها  القيم السامية. وأن فقدان الهوية الدينية هو السقوط من ثقافة المثل العليا إلى ثقافة الرغبة المطلقة.

هل هذا هو الشكل الوحيد المتاح للهوية الدينية، هوية تشكلت من مُثُل عليا في معارضة مباشرة لهوية ضعيفة وغير مستقرة مكونة من الرغبات؟ يقدم غيرتز، في كتاب صغير لامع، أختلافا مهمًا بين   المتدين الورع  واللاهوتي، وبوصف الأخير حصيلة لإدلجة الدين.[1] وكذلك، يفرق ناندي، في مقال شديد التأثير، التعصب الديني عن شكلين آخرين من الدين، الدين كإيمان والدين كإيديولوجيا.[2] ووبناء عليه، من المفترض أن هناك ثلاثة أنواع من الهويات الدينية، هوية المتعصب، والمؤمن، وأخيرًا، الأيديولوجي الديني. فيما يلي، سأحاول أولاً استكشاف هذه الأنواع الثلاثة المختلفة من الهويات الدينية. وسأضيف إلى هؤلاء ثلاثة أنواع أخرى: الدين كروحانية حية (الروحانية الدينية) ، والتدين بلا روح، وما أسميه، الدين باعتباره تقليد.

ما هي هوية المؤمن؟ ليس من المستغرب أن الإيمان مصطلح مراوغ. اعتبر فلاسفة الدين الإيمان إما أحد أشكال الأعتقاد أو الثقة أو كليهما. أو أنه مجرد شكل من الاعتقاد النظري، ومجموعة من العبارات المتعلقة بوجود الله والتي تعتبر صحيحة أو صادقة.[3] فالإيمان هو الأعتقاد بوجود الله. وهو شكل من أشكال الثقة. ولايعني أن الشخص الذي يؤمن لديه نظرية عن الله بقدر ما يثق به. إذن ليس الإيمان مسألة قناعات بل هو بالأحرى مسألة موقف وتوجه.أما بالنسبة للبراغماتيين مثل باسكال وجيمس، فإن الإيمان هو مسألة ثقة بالكامل وتقوم على التفكير الاحتمالي والعملي وليس الاستنتاجي والنظري. يبدو من الواضح  هنا أن الشخص المؤمن هو متدين ويعيش حياته يثق بالله.

لا يعني الإيمان، وفقًا لويلفريد كانتويل سميث، أن نقول عبارات عما نؤمن به يمكن أن تكون صحيحًة أو خاطئًة، وليس للتعبير عن رأي ولكن أن يكريس المرء نفسه لكل ما يؤمن به.[4] يتعلق قلبه فيه ويحبه، وينجذب إليه بقوة. المؤمن هو الذي يحب ما يؤمن به، ويكون مخلص له تمامًا، وليس ذاك الذي لديه معتقدات نظرية. أذن، تتكون شروط الحد الأدنى للهوية من معتقدات ورغبات وأفعال ذات صلة بالشخص. فتتشكل هوية الشخص المؤمن من إيمانه الراسخ الذي لا يتزعزع بوجود الله أو بإمكانية وجود عالم تحكمه مُثُل عليا. علاوة على ذلك، فهو يحب الله ويكرس نفسه للأمر الألهي أو لمثله العليًا. يعزز الإيمان الراسخ بالمثل العليًا وحبها كل منهما الآخر. وكذلك، يكون الحب والتفاني أو التقوى من المشاعر القوية التي لها سيطرة قوية على الشخص الذي يجربها أويواجهها.[5] ويكون الشخص المتدين في قبضة هذه المشاعر العارمة التي تدوم طويلاً وتؤثر عليه بعمق. هذه المشاعر هي التي تعطي سببًا ومبررا للعيش، ومعنى واتجاهًا لحياة الرجل أو المرأة المؤمنة. يختلف عالم الإيمان والحب والإخلاص هذا ويتفوق، ضمنيًا أو صريحًا عند المؤمن على العالم الدنيوي اليومي الذي تحكمه الرغبات العادية.

هل يستغرق هذا الذي اسلفنا ما يطرحه ناندي؟[6] يبدو لا، لأن الإيمان، حسب رايه، هو أسلوب حياة  وليس مسألة معتقدات وتفاني فقط. لا يقول ناندي عن هذا الأ القليل ومع ذلك يمكن تخمين رأيه  ضمنيًا. لقد قلت أعلاه أن شخصًا مؤمنًا يعني لديه معتقدات راسخة. لكن يمكن أن تعني صلابة المعتقدات شيئًا مختلفًا تمامًا عن الشحنة العاطفية المذكورة في الفقرة السابقة أيضًا. وكما أشار فيتجنشتاين، فإن صلابة المعتقدات ليست مسألة شدًة الشعور الذي يتمسك به الشخص.[7] فليس التمسك بالمعتقد هو الشعور به بقوة ولكن عندما يوجه حياة الفرد بأكملها. أن يكون لديك معتقدات راسخة هو ممارستها في الأفعال بحيث تكون هذه المعتقدات جزء طبيعي من الأفعال؛ وتتجلى في اسلوب حياتك. يقول كولاكوفسكي ما مفاده أن غاية الدين غالبًا ما تُفقد عند ما يٌعبر عنه بمصطلحات عقائدية، فليس الدين "مجموعة من الافتراضات أو القضايا ولكنه أسلوب حياة يظهر فيه الفهم والإيمان والالتزام معًا في فعل واحد".[8] إن يكون لديك إيمان، إذن، هو أن تتشكل هويتك من خلال تلك الممارسات التي ينشأ فيها الفهم والأعتقاد والالتزام معًا.

ومع ذلك، فإن ناندي يعني شيئًا أكثر من ذلك. فالدين، بالنسبة له كإيمان "ليس كتلة واحدة متجانسة ولكن متعدد عمليًا''.[9] تبدو لي هذه عبارات غامضة إلى حد ما، لكنها توضح أنه قد جعل الإيمان ليس مجرد أسلوب حياة ولكنه يتضمن عدة طرق مختلفة للحياة. وقد مضى يقول، ما لم يكن الدين محصورًا جغرافيًا وثقافيًا في منطقة صغيرة، فلديه أسلوب حياة يتحول، في الواقع، إلى اتحاد لعدد من أساليب الحياة التي ترتبط بعقيدة مشتركة لديها مساحة للتنوع في الحياة اليومية.[10]

يبدو لي أن هناك شئ من الحقيقة في قوله هذا ولكن على المرء أن يتوخى الحذر في قبوله. وذلك لأن الأديان  التوحيدية عندما ظهرت في مناطقصغيرة، فإنها تتضمن في داخلها ميلًا للانتشار. ويتوقف كل هذا على السياق والفرصة. يشير غيرتز إلى النقطة نفسها التي ذكرها ناندي ويدرك التناقضات الدائمة للإيمان الديني وهي بالنسبة له:

مهما كانت الشمولية والعالمية التي تنجح هذه التقاليد الدينية في تحقيقها، فإنها تنشأ من قدرتها على إشراك مجموعة واسعة من المفاهيم الفردية، والخصوصية، للحياة ودعم تفاصيلها والحفاظ عليها بطريقة ما. قد تكون النتيجة عندما تنجح في ذلك تشويه هذه الرؤى الشخصية في كثير من الأحيان كما قد تكون إثراء لها، ولكن على أيً حال، سواء كان تشويه للمعتقدات الخاصة أو تحسينها، فإن هذه التقاليد الدينية عادة ما تزدهر. ولكن، عندما تفشل في التعامل معها أو السيطرة عليها  فإنها إما تتحول إلى حالة من التمسك الشديد بتعاليمها، أو تتبخر إلى مثالية أو تتضائل إلى انتقائية.[11]

إن التقارب بين العديد من الأديان بقدر ما هو إثراء هو عملية تشويه. فلا ينتج عن تعميم الأديان، مهما كانت أسبابه خارجيًة أو داخليًة بالكامل، تعددية سعيدة، بل ينتج وحدة خطرة أيضًا مع كل ما يصاحبها من تشوهات للهوية. ولكن رغم هذا الحذر، علينا أن نعترف ايضًا بأن الدين يمكن أن يجسد تعددية في أساليب الحياة المحلية، وأنه بوصفه تعدديًا يحتوي على بذور التسامح. لا يمكن تشكيل مثل هذا الدين من خلال ثقافة مُبسطة ذات مُثُل عليا مع رؤية آحادية متناقضة مع الآخر، وثقافة الرغبة غير المقيدة، ولكن أنْ يشبه العالم الثقافي للقيم المتعددة. في المقابل، أنْ تعكس الهوية الدينية  هذه التعددية والتسامح التي أنتجتها، وأن توفق و تستوعب عددًا من القيم التي تبدو غير متوافقة أو متضاربة.

الدين كإيمان، إذن، هو شكل من أشكال الحب أو الثقة أو الأعتقاد أو أسلوب حياة. يمكن أن يكون متجانس أو تعددي، عام أو خاص، ومسبب للأنقسام أو التكامل. وغالبًا ما يتم وضعه بقوة داخل ثقافة ذات مُثُل عالية، ولكنه قد يشبه أيضًا إلى حد كبير شكلاً من أشكال الحياة الموجودة داخل ثقافة ذات قيم متعددة. وبالتالي، فإن الهويات التي يولدها أو يحافظ عليها متنوعة كتنوع ممثليها.

كيف يختلف الدين كإيمان عن الدين كأيديولوجيا؟ كيف تختلف هوية الأيديولوجي الديني عن هوية المؤمن؟ يقدم غيرتز لنا دليلًا ، قائلًا: بينما يخضع الشخص المتدين لدينه، فإن الأيديولوجي الديني يُخضع الدين له.[12] تبدأ ادلجة الدين عندما يبدأ اليقين في الإيمان بالتداعي أو الترنح. وعندما تضعف وترخي المشاعر القوية المؤمنة بعالم يقوم على القيم المطلقة قبضتها. وتبدأ الهوة بالظهور بين عمليات الفهم والإيمان، بين الإيمان والالتزام. وعلى حد تعبير غيرتز،"يجد الناس صعوبة في جعل الطقوس والرموز الدينية تعمل وتحق نتيجة معبرة عن ذلك الإيمان، ويصعب عليهم أكثر استخلاص المعنى والإحساس منها للتحرك  بإتجاه الحقائق العميقة التي تحدد طبيعة العقل الديني ونطاقه".[13] يبدأ الحب، والإخلاص، والثقة، وخاصيًة الرموز الدينية في إفساح المجال للشك، ولكن ليس الشك تمامًا في أن الدين مستودع للباطل والزيف والخداع والتضليل، ولكن الشك في الأسلوب أو الطريقة التي يُفترض بها  أو يصطنع حتى الآن. فما أن يصبح الدين مسألة اعتقاد نظري مثل أي معتقد آخر، حتى يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه يقع في نطاق الأدلة واثباتاتها والحجج ومنطقها. وبمجرد أن يصبح مجموعة من القضايا والافتراضات، فقد يحتمل أن يكون، مثل أي تعبير آخر، زائفًا، وبالتالي، يصبح في مواجهة التهديد في أن يكون عقائديًا ودوغمائيا بشكل متزايد. وتكون له صفات أو سمات مشتركة مع اي معتقد آخرأولاً ثم يكتسب صفة الأيديولوجية.

وبهذه الحالة المعروضة أعلاه يفقد الأيديولوجي الديني هويته الدينية المؤمنة بالفعل. فظهور الأيديولوجيات الدينية هو أحد أعراض أزمة الإيمان الديني. لم تعد هوية الأيديولوجي الديني راسخة بقوة في المثل العليًا. فالعلاقة بين هذه المثل العليًا وممارستها قد قُطعت بالفعل. وتتجه أفعاله وتُقاد أكثر فأكثر بالرغبات والمصالح الاقتصادية أو السياسية. قد يقدم سببًا دينيًا لكل ما يفعله ولكن يعود هذا السبب في حقيقته الى الرغبات والمصالح. فحتى في حالات أدعاء أرتباط السبب الديني والمصلحي معا ويُنظر إلى المعتقدات والقيم الدينية على أنها السبب الرئيس للفعل، فغالبًا ما لا يكون هذا الارتباط من النوع الصحيح. تحوم المثل العليا فوق الأفعال البشرية التي تحددها المعتقدات والرغبات العادية. فتتشكل هوية الأيديولوجي الديني بشكل أقل في إطار المثل العليًا ولكن أكثر في الرغبة غير المقيدة. وعلى الرغم من أنها تحمل ظل هذه المٌثل إلا أنها في الواقع لا تتشكل من المثال الديني. فتعاني الهوية الدينية لمثل هذا الشخص من الأزمات.

وماذا عن المتعصب الديني؟ المتعصب هو من يقبل أن أهمية الإيمان، وربما حتى الأيديلوجية الدينية، قد تم تجاوزها وانتهت. ومن المحتمل أنه يدرك أن كلاهما قد مات ودُفن، وفي أحسن الأحوال، يمكن إحياءهما في شكل مختلف تمامًا. إنه يعيش في ظل ثقافة الرغبة غير المقيدة ويعتبر استعادة أو إنشاء نظام ديني مشروعه الأساس. ويتحدث عادة عن العودة إلى حالة الكمال الأصلية أو إلى زمن أتخذ فيه مجتمعه منعطفًا خاطئًا. إنه يختار الأسس الخالدة لدينه التي يريدها أن تحكم حياته وحياة الآخرين في المستقبل. ويحدد هويته طبقا لهذا المشروع  الذي يراه غير منجز يعد. إنه متأثر برغبة دنيوية في السلطة وإحساس مؤلم بالأذى الحقيقي أو المتخيل، وبالموقف الخاص للضحية، وبأولئك الذين تم إهمالهم، والذين لا ينتمون إلى أي نظام قائم. فبينما يعتقد الأيديولوجي بشكل جزمي أن المثل العليًا هي التي توجه عمله، نجد المتعصب متشائم من أن الدافع وراء سلوك الناس هو المصلحة الذاتية؛ ولا يثق في صدقهم أو نزاهتهم. إنه ذرائعي، وواقعي سياسيًا، وغير مقيّد في استخدامه لأي وسيلة لتحقيق هدفه المزعوم، ومتمرس في دهاء وخداع الألعاب السياسية. يبرر كل شيء باسم هدفه السياسي الأكبر المتمثل في إحياء الدين. إن التعصب والأيديولوجيا شكلان متميزان يتخذان بواسطة الدين داخل ثقافة الرغبة المطلقة.

كما وعدت أعلاه أنني سأتحدث عن ثلاثة أنواع أخرى من الهويات الدينية. أولا ما يمكن تسميته بالدين اللا روحاني وهو معروف جيدًا. فيكفي أن نقول إنه مجموعة من الممارسات الدينية التي انتزع منها الدافع الحي الأصلي. لقد أطلع الكثير منا على الظروف التي ولدت فيها البروتستانتية، والظروف السيئة التي دفعت إلى محاولة إجراء إصلاحات محدودة أومعتدلة في الإسلام مع من قبل الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر.

يبقى في التدين اللا روحاني، سواء في تنوعه الديني أو الطقسي، الجسد ولكن الروح الأصلية قد تلاشت.  ضاعت في مما أسميه بالدين كتقليد كل من البنية الأصلية والقصد والهدف، ويسكن تقليد ضعيف جدا و سيئ للغاية للدافع الأصلي في مجموعة جديدة تمامًا من الممارسات. وكما يقول جيمسون، فإن التقليد للدين أو الهوية اللاروحانية في عملها عبارة عن محاكاة ساخرة فارغة.[14]  فالتقليد في الدين هو نسخة عن الأصل لكن فارغة، تحمل علامات الأصطناع والزيف. وعندما يزدهر التقليد ينسى الناس ما يعنيه أن تكون لديهم تجربة دينية أو حتى ذكرى لها. لم يعد لديهم أي فكرة عما يسعون إلى تقليده. إذن، هو تقليد للدين في شكل ثقيل ومجهد للسمة المتخيلة للأصل. أنه جزء من الحنين العام للأشياء الماضية، الحنين الذي يحاول إعادة الذاكرة لما فعله أجدادنا. المتعصب لديه منظور غائي (أيً، منظور ينطوي على تفسير الظواهر من حيث الغرض الذي تخدمه بدلاً من السبب الذي نشأت من خلاله). إنه يريد أن يأتي بشيء ما بأستخدام أكثر الوسائل المتاحة له فعاليًة. ان أولئك الذين لديهم ميل للدين المٌقلد أو تدين مٌقلد لديهم منظور للتعبير عن الذات؛ فهم أشخاص يبحثون عن هوية دينية تكتفي  بالتقليد الفارغ.

يقودني هذا إلى تناول الدين باعتباره روحانية حية. يختلف الدين هنا عن كل من الميتافيزيقيا والأخلاق، عن التخمين (أيً، تشكيل نظرية بدون دليل قاطع) والتطبيق العملي. إن المقصد الأسنى في الميتافيزيقيا والأخلاق له موضوع الدين نفسه، أي الكون وعلاقته بالإنسان، لكن بينما التطبيق العملي لهما هو فن وعلم، فإن "الدين هو الإحساس وتذوق اللانهائي".[15] ليس جوهر الدين- الروحاني هنا- " التفكير ولا التصرف بل الحدس والشعور".[16] فيأتي إفساد الدين – من وجهة النظر الروحانية-  من إغراقه بالفلسفة ووضعه قسرًا في نظام فكري. ويتشتت الدين عندما يفترض كوقائع أو يوضع كوقائع أو كاساس  لححج الجدال والبرهان التي تحدد طبيعة الأشياء، ويفقد نفسه اذا وضعَ في مصفوفات لانهائية من الأسباب والاستنتاجات، أو البحث عن الأسباب النهائية، أو التعبير  بهذه الطريقة عن الحقائق الأبدية.[17] كما أنه ينحرف عندما يحدد أنظمة الواجبات والأوامر ويمنع التصرف بأوامرسلطة مطلقة.[18] إن التحول الطائش للدين إلى ميتافيزيقيا وأخلاق مسؤول، طبقًا لهذا المنظور، عن الحقد والاضطهاد، وعن تدمير المجتمع، وجعل الدم يسيل كالأنهار.[19]

الدين هو الحدس القائل بأن اللانهائي يرافق الشعور المحدود والقوي، المباشر والفوري بأن العالم البشري ليس منفصلاً عن بقية الكون. إن التركيز على الشعور بالفورية وعلى المرافقة أمر بالغ الأهمية، من هذا المنظور. تفصل الفورية الدين عن المنطق، وعن العقلانية، وتفصله المرافقة عن السببية. يجب أن يصاحب هذا الشعور الغامر والمثير للقلق، على راي شلايرماخر، كل عمل بشري. وأن نفعل كل شيء مع الدين، لا شيء بسببه أو من أجله.[20] يجب أن تمنع المشاعر الدينية، بحكم طبيعتها ، قوة أفعالنا وتدعونا إلى الهدوء والتمتع المتفاني بالولاء والنزاهة.

إن الدافع إلى السلطة أو التوحيد المنتظم هو الذي يولد التعصب ، لكن الشخص الذي يتمتع بـ: الإحساس الحي بالروحانية يرى دينه كجزء من الكل فقط ويعرف أنه " فيما يتعلق بالأشياء نفسها التي تؤثر عليه دينياً، هناك آراء بنفس القدر من التقوى ومع ذلك، تختلف تمامًا عن آراءه، وتتدفق منها عناصر أخرى من الحدوس والمشاعر الدينية، التي قد يفتقر اليها تمامًا".[21] يعلم الدين التواضع والحياء والتسامح الودود، مثل " روما القديمة، تقية ومتدينة بأسلوب نبيل؛ كانت مضيافًة لكل إله ولذا أصبح مليئة بالآلهة".[22]

الشخص الذي يحمل مثل هذه الهوية الدينية هو شخص متسامح. لديه علاقة واقعية بمثله الأعلى ويعيش حياته بإحساس دائم بحضوره. يتشكل الشخص مع هذا المفهوم للدين من خلال ثقافة التعددية المشبعة بالاحساس بالمثل الأعلى؛ وبالحد الأدنى من المثالية العالية المصاحبة لعالم متعدد القيم.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1]  Clifford Geertz, Islam Observed, Chicago: University of Chicago Press,1971, pp. 18, 61.

[2] Ashis Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Veena Das(ed.), Mirrors of Violence, New Delhi: Oxford University Press, 1990, pp. 69- 93.

[3] أنظر:

Richard Swinburne, Faith and Reason, Oxford: Clarendon Press, 1981, chapter 4.

[4] أنظر:

Terence Penelhum (ed.), Faith, New York: Macmillan, and London: Collier, 1989, p. 11 ('Introduction').

[5] راجع القسم القصير ولكن الممتاز عن المشاعر في:

Jon Eister, Nuts and Bolts in the Social Sciences, Cambridge: Cambridge University Press, 1989,

pp. 61-70.

[6] Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Das (ed.), Mirrors of Violence

[7] مقتبس من:

J.L. Mackie, The Miracle of Theism, Oxford: Clarendon Press,1982, p. 218.

[8]  Kolakowski, Religion, London: Fontana, 1982, p. 218.

[9] التسامح في:

Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Das (ed.), Mirrors of Violence, p. 70.

Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', p. 70.

[10]Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance',102.

[11] Geertz, Islam Observed, pp. 14, 48

[12]   Geertz, Islam Observed, p. 61.

[13]  Geertz, Islam Observed, p. 102.

[14]    Jameson, 'Post Modernism and Consumer Society', in H. Foster (ed.), The Anti-Aesthetic, Washington: Bay Press, 1983, p. 114.

[15]  Schleiermacher, Friedrich, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, translated by Richard Crouter, Cambridge: Cambridge University Press, 1998, p. 103.

[16] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p. 102.

[17] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p. 98.

[18]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p.102.

[19]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

[20] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p.110.

[21]  Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

[22]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

في المثقف اليوم