أقلام فكرية

لغز الزمن في الفلسفة والفيزياء

من بين الأشياء التي يعرفها معظم الناس عن الزمن هو انه لا يوجد له فهم كافي، وان المشكلة تزداد سوءاً. الشاعر الانجليزي اوستن دوبسن Austin Dobson قال "الساعات الآن تهرب بسرعة كبيرة"، كان يشكو في عام 1882 من حنينه للايام التي كانت قبل الضوء الكهربائي. هو يستمر بالقول "فسحة ضئيلة لدينا لتأجيل الفنون"، مع انه كان لديه وقتا كافيا لإنتاج عدد لا يستهان به من القصائد والكتب والمقالات، رغم انشغاله لمدة 45 سنة في العمل الوظيفي. بالنسبة لبعض الفلاسفة والفيزيائيين ذوي الميول الفلسفية، يرون ان التفكير حول الزمن هو وظيفتهم اليوم، او على الاقل جزءاً منها.

ومع ان بعض القضايا التي نفكر بها هي جديدة وتقنية، ومرتبطة بالتطورات الاخيرة في الفيزياء، لكن بعضها يسهل فهمها من جانب أي فرد مستعد للتفكير الشاق حول الزمن ووجوهه المتناقضة.

ما الفرق الذي يحدثه اليوم

لنفكر مليا حول ما قمنا به يوم أمس. سنكون قادرين على تخصيص أحداث اليوم وفعالياته الى أوقات، كما لو قمنا بتسجيل كل شيء في كتاب. مقدار ما نضعه في الكتاب ومدى ارتباطه بالزمن يعتمد على قوة ذاكرتنا وعلى العوامل الاخرى المساعدة .

الآن لنفكر في اليوم، انها مسألة مختلفة كليا. انها حدوث حقيقي يحصل الآن، في زمن واقعي، كما وانت تقرأ هذه الكلمات، تيار حي ومتغير من التجربة، ليس سلسلة ثابتة من الاطر.

لغز الزمن الأقدم

المقارنة بين هاتين الرؤيتين للزمن هي جوهر أقدم الألغاز في الفلسفة والفيزياء. احدى الرؤى تنظر للزمن فقط مثلما نعيشه، عملية حية من التدفق والتغيير. (كل شيء يتدفق، حسب تعبير الفيلسوف اليوناني هيرقليطس عام 500 قبل الميلاد).

الرؤية الاخرى ترى الزمن كطريقة لوصفه في التاريخ، كسلسلة ثابتة غير متغيرة من الأحداث انتظمت في ترتيب معين. (هنا الفضل يعود لبارمنديس الفيلسوف اليوناني الذي جادل ان الوجود موحّد وبلازمن، وان التغيير مستحيل).

أي الرؤيتين أصح؟ هذه لازالت قضية للنقاش الساخن في الفلسفة، وهيرقليطس وبارمنديس كلاهما له مؤيدين معاصرين.

الفلاسفة في معسكر بارمنديس يجدون دعما قويا من الفيزياء الحديثة ، حيث يعلن الفيزيائيون انفسهم انهم يفضلون الصورة الثابتة.

الرياضي والفيزيائي الألماني هيرمان وي Hermann wey (1885-1955) أصر على ان بارمنديس كان صائبا.

ونفس الشيء، في رسالة تعزية كتبها اينشتاين الى عائلة صديق قديم ، ميشيل بيشو، هو يقول ان الماضي والحاضر والمستقبل كلها واقعية بنفس المقدار ولكن فقط من منظورنا البشري الذي يبدو فيه الماضي ضائعا. "نحن الفيزيائيون ندرك ان الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل هو فقط كإصرار عنيد متواصل للوهم". (الفيلسوف كارل بوبر سمى اينشتاين برمنديس الفيزياء الحديثة).

الفيزيائي النمساوي الكبير Ludwig Boltzmann (1844-1906) يحقق في فكرة ان الزمن له اتجاه: "بالنسبة للكون، اتجاها الزمن لايمكن التمييز بينهما، تماما كما في المكان لا وجود فيه لصعود ونزول".

ولكن حتى الفيزيائيين لايوجد بينهم إجماع، والبعض يشعر ان الفيزياء ضاع منها شيء. الفيزيائيون المعاصرون مثل لي سموان Lee smolin، والكوزمولوجي جورج ايلس George Ellis، يجادلان ان هناك جزء ضائع، غائب من الفيزياء ، مطابق لتدفق هيرقليطس. والفيزيائي الفلكي سر ارثر ادنكتون Sir Arthur Eddington (1882-1944)، الذي هو اول من صاغ عبارة (سهم الزمن)، ايضا اعتقد ان تجربة الانسان بالزمن توفر رؤية لخاصية الواقع التي ضاعت من رؤية اينشتاين البرمنديسية.

طريق ثالث

كلا الجانبين في هذا الجدال القديم يؤكدان وبشكل بديهي ان كلا الرؤيتين غير منسجمتين – اي ان احدى الرؤيتين فقط يمكن ان تكون صحيحة عن طبيعة الزمن. ولكن هل الامر حقا كذلك؟ هناك خيار ثالث يرى ان الرؤتين هما فقط طريقتان مختلفتان يصفان نفس الشيء. واحدة، رؤية هيرقليطس "اليوم"، هي وصف من رؤية للحظة معينة ضمن الزمن. الاخرى، رؤية برمنديس "امس"، هي وصف ليس من وجهة نظر معينة من "خارج" الزمن . لكنهما كلتاهما صحيحتان، هما مختلفتان فقط. هنا مقارنة شائعة. لو سألنا طفلا منْ هم الناس الذين يراهم في صورة عائلته المباشرة، هو سيعطينا أجوبة من وجهة نظره هو: "تلك امه، عمه، اخته الصغيرة".

الآن لنسأل شخصا لا صلة له بالعائلة، سنحصل على جواب مختلف : "ذلك زيد، اخوه علي، اخته جنان، ابنته بلقيس". هذه الاجوبة مختلفة لكن اي منها ليس خاطئا. هما ببساطة يصفان نفس الشيء من وجهة نظر مختلفة. احدهما هو وصف من داخل العائلة – في الحقيقة، من منظور معين للطفل. الآخر هو وصف من خارج العائلة. لكنهما كلاهما صحيحان. المكان هو مشابه جدا. انظر في الفرق بين رؤيتك عن جيرانك حين تقف في زاوية شارع معين، ورؤية خارطة لنفس المنطقة.

واحدة تعطي رؤية من نقطة ضمن منطقة جغرافية، الاخرى تعطي رؤية من خارج تلك المنطقة. مرة اخرى، كلا الوصفين لنفس الواقع هما مختلفان لكنهما كلاهما صحيحان.

لماذا يبدو الزمن مختلفا؟

في حالة العائلة والجيران، هم كانوا قادرين في الحركة الى الامام والى الخلف بين الرؤية من الداخل والرؤية من الخارج – بين تمثيلات منظورية وغير منظورية، كما يقول الفلاسفة. لا احد يرغب القول ان هناك تصورات مختلفة جدا للعوائل او للمكان متجسدة بهاتين الطريقتين من تمثيل هذه الاشياء. لماذا اذاً في حالة الزمن، الاختلاف جعل الناس مقيدين جدا كما لو انهم مشدودين في عقدة؟

ان الاختلاف له علاقة بالتغيير. بالنسبة للعوائل والجيران من السهل الاستفادة من رؤية ثابتة من الداخل: العلاقات الثابتة هي موقع طفل معين بالنسبة لكل شخص آخر في العائلة، او وجهة النظر الثابتة من زاوية شارع معين.

ولكن في الزمن، لايوجد مثل هذا الثبات. لو حاولت فقط عدم الحركة، انت سوف تُحمل من "الآن" الى آن آخر. او ربما انت لا تتحرك، و"الآنات" تتبع الماضي واحدا بعد الآخر. في كل الاحوال، انت تعتقد ان هناك شيء منفرد - أنت- الذي يشغل على التوالي مختلف الآنات، مختلف زوايا النظر ضمن الزمن.

هل الزمن يسير ام نحن؟

عندما نكون في قبضة هذا الوهم، اسئلة قوية تبدو ممكنة. هل حقا الزمن يتحرك ام نحن؟

الشاعر اوستن دوبسن Austin Dobson اعتقد انه عرف الجواب. أضاف قوة للفكرة، هو حوّلها الى تذكير ممتع براهنيتنا المؤقتة:

نحن خداع عيون

الناس الذين تطير أقدامهم

نحن نمر ونعتقد اننا نرى

سطح الارض الثابت يتحرك

للأسف الزمن يبقى، نحن نذهب

لاشيء يتحرك، لا الزمن ولا نحن. هاد فاوست أخذ الفكرة بجدية اكبر،

ما أعلنه هو ان لحظته التامة، مثل كل اللحظات، لها نوع من الخلود مهما حدث.

انها دائما هناك في التاريخ، صحيحة أينما تكون – لا يمكن لشاعر او فيلسوف او فيزيائي او أي قوة سحرية ان تجعلها غير ذلك.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم