أقلام فكرية

رومانسية المكان والزمن

لتكن البداية من منطلق التساؤل هل يمكننا اسقاط رغائب النفس على السيرورة الحركية للزمن في الزاميه التنفيذ الاستجابي في تحقيق تلك الرغائب النفسية حتى لو حاولنا تطويع الزمن رضوخا في قبوله قطوعات النفس الساقطة عليه؟

لا نعتقد متاحا أن تكون هيمنة رغائب النفس على الزمن ممكنة التحقق. فالاسقاط الشيئي سواء كان ماديا أو موضوعا خياليا مستمدا من الذاكرة والمخيلة على الزمن يبقى يدور في حلقة هيولية مفرغة خارج مركزية الزمن المحتفظ بماهية نوعية مطلقة لا تجانس أي إسقاط مادي أو خيالي عليه.

وفي محاولة معالجة الفلسفة تطويعها الزمن لرغائب النفس هي نوع من التحليق الرومانسي (حلم يقظة) يجد في ركوب وامتطاء رغائب النفس ظهر الزمان ممكنا واردا. هذا الاسقاط الالزامي التطويعي يتوسط دائرتين دائرة النفس المنفتحة على الزمن إستذكاريا يقابلها دائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهويا مطلقا المنفصلتين كلتاهما عن بعضهما ماهويا.فالفكر الاستذكاري ماهيته الادراك الخيالي، ودائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهيتها المطلق غير المدرك عقليا.

من الممكن تصور أن تكون النفس زمانية ماضيا بدلالة تحقيب نفسي لازماني لكن من المحال أن يكون الزمان مطيّة النفس في تداخل جوهري معها على صعيد المجانسة الماهوية النوعية لكليهما، ليبقى الزمن محتفظا في جوهره الماهوي المطلق في الانفصال التام عن النفس. وتعليل هذا الالتواء القصدي إحتمال نجد تبريره في سبب لا يتوفر للانسان صيغة اسلوبية بديلة عنه أن تعيش النفس الزمان الاستذكاري الماضي بما يحقق رغائبها من غير إسقاطها المباشر على الزمن. بمعنى توضيحي زمن حوادث التاريخ الماضي هي ليست زمن التاريخ الاستذكاري له ونحن نعيش الحاضر.

في تعبير مقتصد جدا النفس هي إسقاط خيالي لحوادث تاريخية على زمان مطلق تعرف وتدرك تلك الاسقاطات بدلالته ولا يكون هو متداخلا بها منقادا لها. الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه بدلالة رجوعه الى ذاته. الزمان والطبيعة جوهران متلازمان ماهويا إنفصاليا لا يدركان علاقتهما بكل شيء يدركه عقل الانسان ولا يدركانه.ما يدركه العقل ليس بالضرورة يكون مدركا زمانيا، ولا يكون ايضا مدركا طبيعيا أي تدركه الطبيعة.

هنا نجد مهما الإبانة التوضيحية أن مايدركه الانسان زمانيا هو ادراك متزامن مع مكان، لكن لا العقل يدرك المكان تجريدا من غير ملازمة زمانية له ولا الزمان يدرك ملازمة إدراك المكان مجردا مستقلا عن فاعلية العقل التي تحتوي الزمان والمكان معا.

حين عبّرت في اسطر سابقة الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه إنما أردت تاكيد حقيقة أنه لا يوجد هناك إدراك زمكاني بدون ادراك العقل. ملازمة إدراك العقل زمكانيا هي خاصيّة عقلية لا يمتلكها الزمان منفردا كما لا يمتلكها المكان منفردا والأهم أنهما لا يمكن إدراكهما المتزامن زمكانيا بينهما إلا تحت سطوة العقل الادراكي فقط في تالقهما المشترك.

أهم خاصية يمتلكها العقل ليس ماهية التفكير المجرد المنعزل ذاتيا كما ذهب له ديكارت، وإنما العقل يمتلك خاصّية الإدراك السابقة على خاصيّة توليد الافكار. لا ألادراك العقلي يتم بلا إدراك أولي شيئي أو موضوعي واقعي أو خيالي، ولا التفكير العقلي بمدركه كموضوع يتم من غير وجود مادة أو موضوع يكون هدفا قصديا للادراك العقلي والتفكير فيه.

النفس والزمن

لكن تبقى المحصلة الزمن هو الزمن بخصائصه والنفس هي النفس بخصائصها النوعية المتضادة كليّا مع الخاصية المطلقة للزمن. لا يمكن تحقيق محدودية الإدراك الشيئي بدلالة مطلق الزمان كخاصية نوعية. بل يمكن ذلك في إدراك ماهو محدود مكانا بدلالة ماهو ملازم له محدود زمانا ايضا. محدودية الزمان بدلالة محدودية مكانية ممكنة في تبادل الادوار من غير ما تداخل ماهوي جوهري بينهما، ولا علاقة جدلية تربطهما بل ارتباطهما هو من نوع التكامل الادراكي للعقل فقط.

متى يكون الزمان استشعارا متحركا كما هي طبيعته في إسقاط حوادثه على النفس بالعكس مما سبق لنا ذكره، وأقرب مثال حين نجد حوادث الزمن الماضي تمر في ذاكرتنا التخييلية  كفيلم سينمائي نشاهده حين نستشعر الزمن تحقيبا وقائعيا وليس تجريدا خياليا لا زمانيا.

المفارقة هنا تكمن في ممانعة فرق إختلاف ثبات الزمن الإستجابة لمتغيرات المزاجات النفسية المتقلبة على الدوام. نحن نعيش الزمن وندركه سلسلة من التعاقبات الحادثة واقعيا ولا ندرك الزمن ثابتا محايدا حين تمر من خلاله الحوادث التي نستقبلها عن طريق الاستذكارات النفسية الخيالية. فحوادث الماضي تمر في الزمن الماضي وتصلنا استذكارا ذاكراتيا لها ومن خلال الزمن كتحقيب وقائعي وليس كزمن تجريدي تعرف تلك الحوادث التاريخية بدلالته. الحقيقة التي لا نتوقف معها طويلا أن الماضي زمن وتاريخ معا يعرف أحدهما بدلالة الاخر.بمعنى اوضح التاريخ يبقى زمانيا في كل الاحوال بينما يمكن للزمان ان يكون تجريدا مطلقا كليّا خارج محدودية التاريخ.

التاريخ لا يحتاج الزمن لإدراكه ومعرفته على مر العصور فهو وجود داخل وخارج الزمن في وقت واحد، في حين يكون حضور ملازمة الزمان لوقائع التاريخ حضورا ملازما ومحايدا لكل حقبة أو مرحلة أو عصر من عصور التاريخ. مطلق الزمان لا يحدّه التاريخ ولا يحدّه الوجود كاملا كما لا يحده زمانا آخر محال إختراعه وجوديا. كي تستطيع أن تحد الزمان عليك استحضار زمانا آخر يمتلك نفس ماهية الزمن الذي ترغب حدّه به. وقد عبّر ارسطو عن هذه الحقيقة مقولته "لايحد الزمان زمان". فمطلق أزلية الزمان لا يمكن تكرارها لأي سبب كان فالزمن واحد مطلق لا يكرر نفسه زمانيا، ولا يمكن الإتيان بزمن غيره نحدّه به.

نحن حين نرغب إستقدام حوادث التاريخ من الماضي لا نحتاج الزمن في ادراكها لكنا نحتاج الزمن في إنتسابه (المحدود) لها كقطوعات ندركها تاريخيا وليس زمنيا. على خلاف من زمن الحاضر الذي لا يمكننا إعتبار الاحداث التي تجري فيه هي تاريخ ندركه في ملازمة الزمن الحاضر له كون ما يحدث في الحاضر من أحداث ووقائع لا تعتبر وقائعا تاريخية ثابتة كون الحاضر زمن متحرك ولا يحتفظ بوقائع أمّا أن تكون من حصة الماضي او تكون من حصة المستقبل غير المحسوس إدراكيا.. هنا تكون أحداث الحاضر زمانية متغيرة وزائلة أكثر منها تاريخية ثابتة كما في الزمن الماضي. كل حدث في الزمن الحاضر لا يصبح تاريخا ماضيا من غير مغادرته التحقيبية الحضورية له.

الزمان في حقيقته بالنسبة لنا هو إدراك متعالق الدلالة بغيره من الموجودات والاشياء. ما يجعل الزمن في حقيقته الثابتة تجريد غير لغوي وغير مدرك حدسيا، فهو مطلق بخصائص ماهوية لا يمكن لمحدودية الإدراك العقلي فك شفراتها لا بالادراك المباشر ولا بالادراك بدلالة تعالق الزمن بالاشياء....ما ندركه مكانا بدلالة ملازمة الزمن له، لا يمنحنا العكس من ذلك أن ندرك تجريد الزمن منفصلا مجردا بدلالة المكان. المكان كما هو الزمان لا يدرك أحدهما منفصلا عن الاخرفي نفس اللحظة.

حين تمر بنا الاحداث المتعاقبة عبر زمانية حاضرة ثابتة نكون في حالة فرز زماني كتحقيب هو أن حوادث ما سبق لها ووقعت في زمن مضى هي غيرها حوادث الحاضر النفسي الذي نرغب إستحضاره زمانيا حاضرا ترغبه النفس ولا يرفضه الزمان. طالما إدراكنا الزمان بدلالة شيئية أو موضوعية خياليا عندها يكون الزمان طوع الإستجابة الراغبة في جعل إستحضار ذكريات الماضي زمانا آنيا حاضرا ممكنا متاحا. الحقيقة الخادعة ان الزمان لا يتغير بتحقيب زماني منقسم الى ماض وحاضر ومستقبل، الزمن جوهر خارج التحقيب الذي يدركه العقل مباشرة بدلالة غيره.

الزمان في حقيقته الجوهرية في تعالقه الادراكي بالاشياء هو خاصية ثابتة لا يتأثر بما تدركه الذات، فالزمان يبقى حضورا محايدا أمام سعي العقل الإدراكي معرفة الاشياء مجردة عن زمانيتها.

أما حينما نريد إدراك مقدار الزمن بدلالة حركة الاجسام داخله عندها ايضا لا يغادر الزمن خاصيته الانفرادية المطلقة المنفصلة عن عدم إمكانية موضعته التجانسية النوعية بما ندركه من اشياء لها خصائص صفاتية وماهوية لا تنسجم مع خصائص الزمن.

أن نفكر في حاوية الزمن لتلك الحوادث التي نستذكرها زمانيا ماضيا فهنا نقع في ازدواجية الزمن الماضي في ضرورة تفريقه الى نوعين من التحقيب الوقائعي الثابت المختلف وليس الزمان المطلق المتغيرحركيا.  فزمن الحوادث الثابتة التي نستذكرها من الماضي هي غيرها استذكاراتنا الزمن الماضي الذي يجعلنا نعيش الماضي زمنا حاضرا نستحضره بغبطة وإنتشاء نفسي بالاستذكار الخيالي، كل ذلك يتم أمام حقيقة الزمن لا يتداخل مع إدراكاتنا بما نرغبه أن يكون ولكن حضوره أمام حقيقة أن الزمن بالنسبة لإدراكاتنا ورغائبنا النفسية هو حضور محايد في إسقاطنا كل ما نفكر فيه عليه..في كل الاحوال نحن لا ندرك الزمن زمانا تجريديا مطلق الماهية بل ندركه محدودا بدلالة إدراكنا المكان.

لماذا لا يمكننا ادراك قطوعات الزمن الا بدلالة غيره من الاشياء؟ كل مدركات العقل هي محددات انطولوجية كاشياء أو خياليا كمواضيع، بمعنى الادراك هو تعيّن موجودي لشيء او لموضوع، وهذا لا ينطبق على الزمن أنه غير محدود وجودا إلا بدلالة غيره من مكان، نحن نعبر عن تقسيمنا الزمن مرحليا الى ماض وحاضر ومستقبل إنما نكون بذلك نقوم في عملية تحقيب واقعي لمدركاتنا من الاشياء والطبيعة والظواهر مجردة عن زمانيتها. لا نمتلك استدلالا واقعيا برهانيا يجعلنا نسلم ان الزمن يقبل التقسيم التحقيبي التجريدي الى ثلاث انواع من الزمان من دون تعالقه بدلالة مادية او خيالية يدركها العقل. كيف ندرك تغيرات الفصول الاربعة زمنيا؟ ندرك ذلك بدلالة التغيرات التي تطرأ في المناخ والبيئة والطبيعة. الماضي والحاضر والمستقبل حينما نقصدها تحقيبات زمانية إنما نحن نستعمل مجازا تحقيب الحوادث والوقائع فيها كتحقيب تاريخي يحكمه الزمان لكنه لا يكون جزءا من تلك الحوادث التاريخية تحقيبا ثابتا. التاريخ ثابت والزمن مطلق متغير. ونعرف واقعية التاريخ بدلالة مطلقية الزمن كماهية غير محدودة.

خاصية الزمن في مطلقيته يجعل منه على الدوام حضورا إستدلاليا وليس حضورا إدراكيا تجريديا له. حتى عندما نقيس مقدار حركة جسم ما داخل الزمن فإننا بذلك نقيس مقدار حركة الجسم فقط وليس مقدار حركة الزمن. لذا لم يكن تعبير ارسطو خاطئا قوله الزمان هو مقدار حركة الاجسام بدلالته لكنه ليس الزمن حركة بذاتها ندركها مجردة عن حركة الاجسام التي تحتويها.

النفس لا زمانية

لماذا يكون الاستذكار الزماني بهيجا منعشا للنفس بعيدا عن ضغوطات الحياة في حاضرها المؤلم.؟ هل الحنين للماضي يجعله يوتوبيا منقذة للنفس من وهدة السقوط المحتوم في الحاضرالمؤلم الزائل المنقاد وراء زمن مستقبلي نهايته الاندثار والفناء. رغم أنه ربما كان الماضي أكثر إيلاما من حاضرنا الذي نعيشه؟

لماذا يتراجع إحساسنا الزماني في حالات البهجة النفسية والانشراح، ويتكثف الزمن ويطول حينما يجثم فوق صدورنا معطلا فينا منطق التعبيرعن مباهج الحياة، وتوق النفس الخلاص من كابوس الزمن الحاضرالمؤلم، علما أن الزمن واحدا في ملازمته حالتي البهجة والكآبة. والمتغير هو الاحساسات النفسية والعواطف والانفعالات فقط.

من المفارقات التي ربما لا نفرزها هي أن الشعور النفسي هو الذي يحدد نوع الزمن الذي تعيشه النفس. ويقل الاحساس بالزمن في علاقة عكسية حينما تكون النفس في حال من السعادة، ويكبر الاحساس بوطأة الزمن الثقيل حينما تكون النفس في حالة من الحزن والاكتئاب. فعلاقة حالة النفس الحزينة يتناسب زمانها الملازم لها طرديا معها.

لذا تكون النفس الانسانية لا زمانية، كون الذي يحدد حال ما تكون عليه رغما عنها ليس هو الزمن بل حوادث الحياة. وكل القطوعات التي نتصور نحدثها في الزمن هي قطوعات زائفة غير حقيقية لأن مصدرها قطوعات النفس المزاجية التي لا علاقة تحكم الزمن  بها.

الزمان مطلق بلا حدود

في تعبير باشلار نجد مقاربة ضمنية من المعنى الذي ذهبنا له قوله " لا يمكن إدراك الزمان إلا في تعقده وتركيبه، فهو مهما كان فقيرا، فهو يطرح نفسه من خلال تعارضه مع الحدود والتخوم "1 ص 54

نفهم فقر الزمان يكون في خاصيته الاطلاقية المتجردة عن مدركاتنا. بمعنى ما لا يمتلكه الزمان بتعالقه بالاشياء القابلة لإدراكنا يبقى خاصّية مطلقة انفرادية للزمان، ويبدو تعبيرنا هنا أن ملازمة الزمان لكل شيء بالوجود أزلية ولا تنفصل عن أي مدرك في الطبيعة والوجود لحظة واحدة، الزمان الذي نتعامل معه هو الزمان الذي يحتوي الوجود كاملا وليس بمقدور الوجود إحتوائه.

الزمان إمتلاء تام بالوجود في قبليتهما المعطاة من دون وقوفنا الكافي على الكيفية التي نشأت عنها مثل هذه العلاقة بين الزمان والوجود. علاقة إمتلاء الزمان بالوجود. موجودات الوجود من طبيعة وانسان ومخلوقات ونبات وجماد هي التي تمنح الزمان غنى وثراء إمتلائي يجعله معقدا في تركيبيته كما يعبر باشلار. غنى الزمان يكون بما يحتويه من وجود إمتلائي لا بما يكون خارجه في عدم إدراكنا له. الحقيقة التي أوقعتنا في مثل هذا الخطا تقوم على حقائق فلسفية هي :

- لا يوجد ما ندركه موجودا متعيّنا وما لا ندركه هو خارج محدودية ومطلق الزمان.

- كل ما لا يدركه العقل لا يقع خارج الادراك الزماني له وهو محال زمانيا ومحال ادراكه عقليا. فملازمة الزمن للوجود ملازمة ازلية مطلقة لانهائية ولا يمكن حدّها.

- ما يدركه العقل هو الموجودات المكانية التي يحتويها الزمن الادراكي شرطا مسبقا، كما أن ما لا يدركه العقل لا وجود له لا داخل ولا خارج الزمن ليست صحيحة.

- الاشياء والموجودات في الطبيعة وعالمنا الذي نعيشه سواء كانت مدركة لنا بدلالة زمنها أو غير مدركة بدلالة (غياب) زمنها، فهي في كل الاحوال لا تخلص من سطوة الزمن وهيمنته عليها.

ماذا يقصد باشلار أن فقر الزمان لا يسلم من تعارضه مع الحدود والتخوم.  فهمنا تعبيره الزمان لا يحد بتخوم هي مدركات شيئية مادية وغير مادية لا تمتلك المجانسة النوعية مع ماهية الزمن المطلقة. والزمان حسب باشلار يتعارض مع كل الحدود، فهي صحيحة من حيث أن التفكيرالوجودي بوضع حدود غير زمانية لا تتفق مع المجانسة الخصائصية للزمن هي مضيعة وقت بلا نتيجة. لا يحد الزمان حدودا تحد الوحدة الكلية الشاملة اللانهائية المطلقة له التي تحتوي الوجود ولا يستطيع الوجود حد الزمان بها لا قطوعات ولا مطلق زماني مغاير..

الزمن النفس الروح

من أكثر المفردات المفاهيمية الفلسفية ارتباطا وثيقا بالزمن هي النفس والروح رغم التفاوت الكبير جدا بينهما الذي لا يؤخذ به أغلب الاحيان في عشوائية تعبير الدلالة اللفظية للمفردتين عن معنى دال واحد. ولا نأتي بجديد قدر أهمية التذكير أن النفس هي وعي ذاتي إدراكي يعيش الحياة في إفصاحه السلوكي عنها إنفراديا أو ضمن مجتمع. النفس وعي وسلوك متكامل مدرك في تجليّاته الإفصاحية التعبير عن دواخله.

بخلاف الروح التي هو مفهوم ميتافيزيقي غامض، وليس مصطلحا متفقا عليه أكثر من تكرارمقولة الروح تلازم حياة الانسان وتفترق عنه بالممات. ما يهمنا هو التنبيه بهذا التفريق السريع أن النفس هي ليست الروح ومن الخطورة إستعمال المفردتين في التعبير المتكافيء عن دلالة معنى واحد فلسفيا على الاقل.

في معرض إقتباس إستعاره باشلار عن بيار جانيه قوله " لا يوجد عند الاقوام البدائية حركات مايسمى البدء – بمعنى حركات التعبير الجسدي الراقص المصحوب بصيحات هستيرية نفسية في التمهيد لممارسة طقس معين لا فرق أن يكون تعبيرا عن عبادة دينية أو عن ممارسة أسطورية خرافية قد تكون سحرية أو غيرها.- ولا حركات ختامية والكلام لباشلار تنهي ذلك الطقس "2، "فالاقوام البدائية كانوا يكتفون بالاعمال الانفجارية حسب تعبير بيار جانيه، أي الاعمال التي لا تتواصل حقا بالمعنى النفساني للكلمة لأن عواقبها في أفضل الاحيان هي من النوع الفيزيائي" 3 ص 58

بضوء الإقتباس المار ذكره نضع التوضيحات التالية:

- الطقس الوثني البدائي على مر العصور الطويلة والاجيال هو فعالية حركية متفق عليها بوعي جمعي تفهمه تلك التجمعات البدائية تواصلا بينيا يجمعها في تعبير حركات الجسم بعيدا عن إفصاح اللغة تعبيرا عنها.. والطقس الوثني بما يصاحبه من رقصات وحركات هستيرية تعبيرية لم تكن تلك الاقوام ترغب التواصل من خلالها بغيرها من التجمعات التي ربما لا تعرف وجودها من عدمه، بل كانت تلك الطقوس علاقة تنشد الخلاص النفسي مما تعانيه بالحياة،. وهي تعبيرات نفسية عميقة في العجز عن التعبير عنها بوسائل أخرى غير الطقس الوثني الراقص .

- النفس تكوين خبراتي تراكمي مستمد من الحياة، يغلب عليه الطابع الديني أكثر مما يتوخى قصدا آخر يرغبون تحققه. فما تمارسه تلك الاقوام البدائية من  طقس راقص صاخب إنفجاري ترافقه صيحات هستيرية إنما هي في حقيقتها بناء نفسي تراكمي دونما الشعور القصدي الماثل لبلوغ مراتب من البناءات النفسية المتوالية صعودا. ولا تفهم تلك الاقوام حاجتها الطقسية التواصلية بغيرها غير التواصل مع ما كانوا يتصورونه إلها أو معبودا بإمكانه درء الأخطار عنهم وحمايتهم.

- اتصور من غير المعقول مطالبة اقوام بدائية لا يتعدى تفكيرها صنع تمثال بحجم اصبع اليد أن تفهم أهمية الطقس الراقص في التعبير الواضح عن قصدية دينية ولا عن قصدية تواصلية مع الاخرين. الطقس الراقص خاصية بعيدة عن التعميم غير المتحقق اصلا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

..................

الهوامش:

1. جاستون باشلار /جدلية الزمن/ ترجمة خليل احمد خليل/ ص 54

2. نفسه ص 58/ 3. نفسه ص 58

في المثقف اليوم