أقلام فكرية

ماجد الغرباوي: المشروعية.. المفهوم والأسس

«المشروعية» من المفردات التي درسها الباحثون منذ أمد ليس بقريب. وقد استوفى اغلب المنظرين في حقل العلوم السياسية دراسة المصطلح في ضوء متبنياته الفكرية والعقيدية. فالبحث فيها بدأ عندما تساءل الانسان عن مصدر السلطة، وعن الشخص او الهيئة التي لها الحق في ممارستها. لكنه تبلور أكثر وتحددت معالمه في القرنين التاسع عشر والعشرين، اي بعد اندلاع الثورات وظهور عصر الجمهوريات، ثم استؤنف البحث مجدداً بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران وقيام الدولة الاسلامية، حيث سجل الباحثون الاسلاميون اضافات حقيقية في هذا المجال، وأثروا مساحات مازالت بحاجة الى دراسة وتحليل، ولاسيما ان النظام الاسلامي فيها قد اعتمد ولاية الفقيه مبدأً في الحكم، فكانت حافزاً كبيراً لاثراء البحث في هذه المساحة من الفقه السياسي، فجاءت البحوث التي قدمها بعض الفقهاء والمختصين، واسعة وغنية، وشاملة لجميع مفردات النظام السياسي، فدخلت المكتبة الاسلامية قائمة كبيرة من الكتب ذات البعد العلمي المستوعب في هذا الحقل. ان ما يترتب على مشروعية الانظمة أو عدم مشروعيتها من آثار كبيرة، سواء على مستوى الشعوب أو الحكومات، جعل هذا البحث يتقدم على غيره من ابحاث الفكر السياسي.

ثمة دلالات يختزنها مصطلح المشروعية لابد من استجلائها لتحديد المفهوم، فالمشروعية كغيرها من المصطلحات لها دلالاتها الاصطلاحية اضافة الى دلالاتها اللغوية. واذا كان المعنى اللغوي للكلمة قد انحصر في «الشرعي» أي ما سوّغه واجازه الشرع، فانه اصطلاحاً أعم من ذلك، فيشمل الشرعي والقانوني. فتارة يراد بالمشروع «الشرعي» فقط، فيقال: نظام مشروع اي مستند الى الشرع ويعتمد المبادئ الشرعية والاسس الدينية أو حينما نسأل عن مشروعية قضية ما فانا نسأل عن ادلتها الشرعية. ونقول:هل ان العمل الفلاني مشروع ؟ اي هل هناك دليل شرعي على جوازه.

واخرى يراد بالمشروع «القانوني»، فالمشروع هو ما طابق القانون.

ويرى آخرون «قبول الشعب» دلالة مستقلة للمصطلح، وليست منضمَّة الى «القانوني». فالنظام المشروع هو النظام الذي قبله الشعب.

والقانون الذي يستند اليه الشعب في مشروعيته، هو القانون المصادق عليه من قبل الشعب. وعليه ستكون للمشروعية ثلاث دلالات اصطلاحية «شرعي، قانوني، مقبول من قبل الشعب». لذا عندما يوصف نظام من الانظمة بالمشروعية ينبغي ان نعرف ما المراد من ذلك، فربما نجد نظاماً يلتزم بالقانون الذي صادق عليه الشعب، مباشرة او بواسطة مجالس نيابية، وفي هذا الحال سيكون «مشروعاً» اصطلاحاً الا انه ليس شرعياً، لان اطلاق المصطلح على نظام معين ـ كما هو في عرف الفقهاء والمفكرين السياسيين ـ يختزن أكثر من دلالة، ولا تجد نظاماً يستوفي الدلالات الثلاث الا نظام الجمهورية الاسلامية في ايران كما سنشير الى ذلك، والا فالمراد من المصطلح عند اطلاقه على غير الدولة الاسلامية دلالاته الاخرى.

وفي ضوء ما تقدم، يمكن ان نضع مقياساً لمعرفة مقدار مشروعية اي نظام من الانظمة. كما ان دائرة ضبط المصاديق قد اتضحت هي الاخرى، فالانظمة التي لا تلتزم بالقانون او ان القانون لا يشكل سلطة عليا يخضع لها الجميع، يخرج عن تلك الدائرة، وهكذا الانظمة التي ليس للشعب اي دور فيها، او ان ارادة الرأي العام مسحوقة فيه، ومثال ذلك اغلب دول الشرق التي مازالت شعوبها تعاني ازمة المشروعية، حيث ان ديكتاتورية السلطة والاستبداد بشتى انواعه هو الصفة الطاغية في الحكم، فليست هناك ارادة حقيقية للجماهير ولا سيادة تامة للقانون بل ان ارادة الحاكم الاعلى هي منشأ مشروعية القوانين والقرارات الحكومية. وحتى الممارسات الديموقراطية التي نشاهدها هنا وهناك تعمل وفق آلية تراعي الحدود المسموح بها من قبل السلطة العليا، وليست ممارسات حرة في اطار القانون. اضافة الى ان اغلب الانظمة في العالم لم يجرِ التصويت عليها من قبل الشعب، والدول التي صادق فيها الشعب على أصل النظام قليلة جداً، فتبقى ممارسات الشعوب لحريتها في تقرير مصيرها في اطار النظام المفروض عليها. فالارادة الجماهيرية ارادة مشلولة غير قادرة على فرض متبنياتها العقيدية والفكرية. لذا عندما نطبق «مقياس المشروعية» سننتهي الى عدم مشروعية اغلب الحكومات التي تمارس السلطة بمنطق غير المنطق المشروع.

فهذه التجربة لاتصلح ان تكون نموذجاً لدراسة المشروعية، لان الارادة الحقيقية للشعب هي تحقيق نظام حكم آخر يستطيع ان يجسد الفرد فيه متبنياتها الفكرية والعقيدية. وكذلك لا يمكن اعتبار اية ممارسة ديموقراطية ـ ان وجدت ولو مستقبلاً ـ مشروعة، لان النظام لم يستوف مشروعيته المطلوبة لكي يتمكن من ممارسة السلطة.

وفي مقابل هذا النموذج هناك النموذج، الذي يمكن ان يصدق عليه انه نظام مشروع الا انه ليس شرعياً، فقد تجاوزت مساحة محددة من سكان العالم ازمة المشروعية بعد ان تأسست على مبادئ واسس ذات مرجعيات فكرية تقاطع الرؤية الدينية وتنأى عن التفكير الآيديولوجي، غير ان للفرد في ظلها دوراً من خلال مشاركته الفاعلة في شتى المجالات، بل وفرض نفسه رقماً حقيقياً في المعادلة التي تحكم العلاقة بين الشعب والسلطة. فصار الرأي العام احد شواخص مشروعية النظام السياسي، فلا يتمكن النظام الحاكم تخطي الارادة العامة لشعبه، واصبح الشعب يشكل تحدياً صعباً للممارسات اللامشروعة للسلطة.

فهذه الانظمة مشروعة وليست شرعية بمعنى مطابقتها للقانون المصادق عليه من قبل الشعب بواسطة مجالس نيابية. فمشروعيتها تقاس بمقياس ليس للدين دور في تكوينه، وانما الالتزام بالقانون فقط هو الاساس في قياس مشروعية النظام.

والذي يؤكد مشروعية هذا النموذج من الانظمة، هو تعامل شعوبها على اساس مشروعية السلطات الثلاث ومشروعية القانون الحاكم. فيلتزم بالقوانين والمقررات من هذا المنطلق. فالقانون سلطة عليا يمثل مشروعية النظام ويحتكم اليه الشعب لتأمين الحقوق وتحديد الواجبات.

ومن جانب آخر نجد أن الدوائر الحاكمة هناك تدرك ان مشروعية ممارسة السلطة تتوقف على مدى الالتزام بالقانون، فهي تخشى القوانين، وبالتالي تخشى سلطة الشعب التي تنبثق عنها مشروعية النظام. لهذا نجد هؤلاء يتحايلون على القانون بمواد قانونية اخرى لتسويغ بعض المخالفات دون تخطّي الخطوط الحمراء التي ترسمها القوانين. وبهذا تمارس الحكومة السلطة تحت مظلة المشروعية التي يقرها الشعب والقانون.

غير ان تلك المشروعية لم تراع المبادئ الدينية، بل احدثت قطيعة مع الدين والتراث وكل مايمت الى الماضي بصلة كما في الدول الغربية، مما فوت جملة من الحقوق ولاسيما حقوق الاقليات، اضافة الى سلبيات اخرى تكفلت بعض الابحاث المختصة باحصائها. ولعل السبب وراء بعض الاخفاقات على صعيد التطبيق هو تجاهل البعد الاخلاقي واختزال الانسان الى كائن مادي لا يمكن السيطرة عليه في خضم الحريات الواسعة.

***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

2018-08-23

......................

* عن مجلة التوحيد، العدد 92، كانون الثاني، 1998م / رمضان 1418هـ، ص5

 

في المثقف اليوم