أقلام فكرية

(فانون) وثنائيات الجسد الأبيض والأسود الضِدّية

مثّلت أفكار (فرانز فانون Frantz Fanon) الذي تمرُّ ذكرى وفاته في السادس من ديسمبر/ كانون الأول من عام 1961م إضافةً أصيلة في حقل تحليل الخطابات الاستعمارية ما بعد الكولونيالي، لاسيّما في عمله الأهم في هذا السياق: "معذَّبو الأرض" الذي استلهمت منه الحركات المناهضة للتمييز العنصري في مختلف دول العالم وعيها الثوري فكان بحق "إنجيل" تلكم الحركات الثورية، وبصفةٍ عامة فقد كانت مجمل خطابات "فانون" ملتزمةً بمنهج التحليل النفسي الذي عُدّ أحد المعارف التي طوّرها علماء الغرب، فكان لهم الصدارة في تقعيد منجزاته النظرية والتطبيقية على السواء، ومن الطبيعي أنْ توظّف آليات علم النفس – بوصفها مُحدّدات منهجية محايدة بفضل السمة الموضوعية التي تتّسم بها- في سبيل كشف التوتّرات النفسية التي يُصاب بها الفرد أو المجتمع، فكان لفانون – وهو الطبيب النفسي خرّيج جامعات فرنسا- أنْ يتحرّى تلك التوتّرات ويكشف عن أسبابها والسبل الكفيلة بمعالجتها، إلا أنّ (العيّنات) التي أرّقت فانون كانت هي الشعوب المُستعمَرة، فقد تحدى فانون النظرة الإنسانية الليبرالية الأوربية بشأن (الذات) "مُحتجًّا بأن السكان الأصليين والقبائل والجماهير والفلاحين وأمثالهم من طبقات مسحوقة، يتعرضون في الوضع الكولونيالي لعملية نزع إنسانيتهم بصورة كاملة بفعل عنف الواقع الكولونيالي وخطاباته التي تصل إلى درجة أنهم لا يبدون قادرين على الربط بين أفكارهم بالذات، ومع ذلك فلم يتخلّ عن مفهوم الذات أو المعرفة المُستعبَدة، فهو ليس مجرّد ناقد للخطاب الكولونيالي، إذ هو يُدرك أن المُستعمَر والمُستعمِر عالقان في شبكة من العلاقات؛ ومع أن المستعمَر يتمّ إسكاته فهو ليس ساكتًا بصورة كاملة، فالكولونيالية تريد لنفسها أن تكون شمولية وأساسًا لطريقة جديدة في الحياة"[1].

وللاقتراب أكثر من عمل فانون، وتبيان مقدار استفادته من معطيات علم النفس (اللاكاني) لابُدّ لنا من أنْ نبيّن أنه لم يكن ناسخًا لعمل (لاكان) بما يخصّ نظريته عن نشوء الآخر انطلاقًا من الذات، أو ما يُسمّى بـ(مرحلة المرآة)، أو ما اجترح له مصطلح (الآخر الرمزي) الذي يقصد به "أنّ (كينونة) المرء لا تتحقق إلا من خلال القدرة على (القول). لكن هذه القدرة تعتمد على استخدامك نظامًا تمثيليًّا (اللغة) يسبق وجودك. [...] وعليه فإنك حال نطقك تكون أصلاً (منطوقًا) أو (مكتوبًا) مسبقًا. وهذا الوضع يجعل (الوعي) الذاتي نفسه مخترقًا من الخارج"[2]، بل كان مضيفًا لها ومنقّحًا بعض رُؤاها، بما يتّفق والمنظور النفسي الذي اشتغل عليه فانون، إذ يرى لاكان أنّ الطفل حينما يبصر نفسه أو مرة في المرآة، فإنه يرى انعكاسًا ألطف وأكثر تناسقًا وثباتًا من نفسه. والفرد يبني نفسه مقلّدًا هذه الصورة ومعارضًا لها، أما فانون فقد توصّل إلى أنّ المرء لن يشك أبدًا أن الآخر Other الحقيقي بالنسبة للرجل الأبيض هو الرجل الأسود، وسيبقى كذلك. وبالمقابل فإنّ الرجل الأبيض فقط ينظر إلى الآخر على مستوى صورة الجسد، تمامًا على أنه ليس ذاتًا؛ فلذا كانت الصورة النمطية للأسود في منظور الأبيض هو المتّسم باللون المختلف وبقدرته على ممارسة الجنس بصورة لا محدودة، وفي المقابل تشكّلت الصورة النمطية للأبيض في منظور الأسود على أنه الآخر الذي يقوم بتحديد كل شيء مرغوب، وهذه الرغبة مغروسة في داخل بنية السلطة، وعليه كان الرجل الأبيض ليس فقط الآخر، بل هو السيد سواء كان حقيقيًّا أم متخيّلاً، وبموجب هذه المُصادرة التي ترسّخت في متخيّل الرجل الأسود، يمثّل اللون الأسود عنصرًا يقوي الذات البيضاء ويؤكّدها، في حين يفرغ اللون الأبيض الفرد الأسود من محتواه، فلا يستطيع أن يتماثل مع ذلك الذي يتم نفيه باستمرار من قبل البنية الاستعمارية العنصرية[3].

إنّ خلاصة ما توصّل إليه فانون فيما كتب وحلّل – وفق علم النفس- أنّ الخطاب الاستعماري لن يُؤمن بالمساواة، ولا بالشراكة الإنسانية في القيم العامة، وهذا ما حدّدته فرضيّته القائمة على ثنائية ضدّية لم يكن لها نصيب من الواقع العلمي شروى نقير، أما الواقع المعيش الذي فرضته الهيمنة الاستعمارية فكانت حاضنةً لتفقيس مثل هذه الثنائية، فالمُستعمِر يمثّل الخير وسُموّ المقام والرفعة الأخلاقية والتقدّم العلمي، أما المُستعمَر فيمثّل مستودعًا للشرّ والانحطاط والدونيّة والتخلّف، ولا سبيل للقاء بينهما إلا حينما يُدرج المُستعمَر تابعًا للمستعمِر، وبهذا يتمّ تعديل وضع المُستعمَر أخلاقيًّا باعتبار أنّها مكتسبة، أما فيما يخص الطبيعة البشرية، فلا سبيل إلى تعديلها، وهذا ما يُتيح للمُستعمَر – في أفضل حالاته- أنْ يكونَ عبدًا يحاول تقليد سلوك سيّده، فعبوديّته هي المانحة لقيمته، وكما يقول: "إنّ المستعمِر لا يكتفي بأنْ يصِفَ المجتمعات المُستعمَرة بأنها خالية من القيم، أو أنّها لم تعرفها قط، إنما هو يعلن أنّ السكان الأصليين لا سبيل لنفاذ الأخلاق إلى أنفسهم، وأنّ القيم لا وجود لها عندهم، بل إنّهم إنكارٌ للقيم، أو قُل إنهم أعداء القيم. فالمستعمَر بهذا المعنى هو الشرُّ المُطلق. إنه عنصرٌ مُتلِفٌ يُحطّم كل ما يقاربه، عنصرٌ مخرّبٌ يُشوّهُ كل ما له صلة بالجمال والأخلاق، إنه مستودع قوى شيطانية، إنه أداة لا وعيَ لها ولا سبيل إلى إصلاحها"[4].

ويمكن رصد مُنجز فانون المعرفي فيما يخصّ الصياغة الفلسفيّة للهويّة، بوصفها مقولةً أخذتْ بُعدًا شاسعًا في خطاب النقد الأدبي ما بعد الكولونيالي، ولأنّها تمثّل المُحدّد الذي يتمّ بوساطته تنميط كلٍّ من الذات والآخر عبر جملةٍ من المُميّزات التي ترسّم الحدود الثقافية في المخيال الجمعي للأمم والجماعات، على الرغم من كونها وسيلة من وسائل الآيديولوجيا، فهي إذن قيمة غير مُحايدة، بدليل أنّها نتاج المركز الغربي، وله الحق من دون الآخر في تثبيت هذه المعطيات القيمية أو تغييرها، بحسب الظرف التاريخي أو المكاني الذي تتحدد فيه مثل هذه المعايير، يقول فانون: "إنّ ما يُطلق عليه في كثير من الأحيان اسم الروح السوداء هو في حقيقة الأمر من صنع الإنسان الأبيض"[5]. ويظهر في هذا النص مدى الارتياب النفسي الذي أفرزته العلاقة الكولونيالية بالآخر الأسود، "حيث تُبدي التمثيلات المنشطرة لهذه العلاقة انقسام الروح والجسد الذي يُجسّد اصطناع الهوية، ذلك الانقسام الذي يطول البشرة الهشّة. السوداء والبيضاء. للسلطة الفردية والاجتماعية"[6]. ويستلهم (هومي بابا) عبر هذا النصّ الذي اقتطعه من فانون ثلاثة شروط تشكّل أساسًا لفهم سيرورة تعيين الهويّة، وهي[7]:

أولاً: أن توجد يعني أنْ تكون في علاقة مع آخريةٍ ما، وهذه السيرورة واضحة في تبادل النظرات بين المحلّي والمستوطن، ومن خلال هذا التبادل ينشأ نوع من الاستيهام الذي يخلق شعورًا بالتملّك، فالرغبة الكولونيالية يُفصح عنها في العلاقة بمكان الآخر الذي لا يمكن لذاتٍ واحدة أنْ تشغله بمفردها أو بصورة ثابتة.

ثانيًا: إنّ مكان تعيين الهوية ذاته، حيث يكون واقعًا في إسار التوتّر بين الحاجة والرغبة، هو فضاء انشطار، بمعنى أنْ تكون مختلفًا عن أولئك المختلفين بحيث تغدو مماثلاً، وهو المكان الذي يعبّر فيه اللاوعي عن شكل الآخرية، وبذا تكمن المشكلة الحدّية المتعلّقة بالهويّة الكولونيالية.

ثالثًا: إنّ مسألة تعيين الهوية ليست أبدًا مسألة تأكيد على هوية متعيّنة مسبقًا، بل إنتاج صورة للهوية وتغيير للذات باتّجاه اتخاذها تلك الصورة، وهذا يقتضي تمثيلاً للذات  في نظام الآخريّة المولّد للتباين، وبحسب فانون فإن اللحظات الأساسية لتكرار الذات تكمن في رغبة النظرة وحدود اللغة.

وقد كان صدى (فانون) ظاهرًا في منجز إدوارد سعيد، إذ اعتمده في صياغة عدّة مفاهيم نظرية تتلائم والشواهد الثقافية التي وقعت تحت مجهر نقده، ومن ذلك صياغته النظرية لمفهوم الهوية القائم على (التخالط الثقافي أو الهجنة) الذي ارتبط بالتعددية الثقافية التي تشكّل هويّة اليوم الحضارية، وبمقتضاه لا يمكن اللجوء دائمًا إلى السيطرة والعداوة، بل المشاركة وتجاوز الحدود وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة، فيقول في مقدمة ترجمة أبي ديب لكتابه (الثقافة والإمبريالية): "وإنه لذو أهميةٍ خاصةٍ بالنسبة لي، كعربيٍّ وغربيٍّ، <أن ينجلي> أنّ فكرة التعددية الثقافية أو الهُجنة – التي تشكّل الأساس الحقيقي للهوية اليوم- لا تُؤدّي بالضرورة دائمًا إلى السيطرة والعداوة، بل تُؤدّي إلى المشاركة، وتجاوز الحدود، وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة"[8]. ولا يخفى أنّ ما جعل سعيدًا يُكرّس هذا المفهوم، هو الواقع الثقافي الحضاري في العالم الذي يفرض – بسبب التجربة الامبراطورية- واقعًا معبّرًا عن ثقافة التجزُّؤ، وليس بينهما ثقافة منفردة نقيّة، بل كلُّها مُهجّنة ومُتخالطة إلى درجة فائقة وغير واحديّة[9].

ويكشف سعيد في كتابه (الثقافة والامبريالية) عن تأثّر فانون الفكري بمنجز (لوكاش) الناقد الماركسي، من خلال قراءة كتابه (التاريخ والوعي الطبقي) هذا الحدس يسمح لسعيد بقراءة العنف لدى فانون بوصفه التكوين الذي يهزم مادية الرجل الأبيض بوصفه فاعلاً، والرجل الأسود بوصفه هدفًا، وبحسب فانون، فالعنف يمثّل (القوة المطهّرة) التي تسمح بالثورة العرفية التي تشبه عمل الإرادة العقلية اللوكاشية التي تهزم التشظّي ومادية الذات والآخر، والحاجة لمثل هذا العنف لا تكون إلا حينما يقرر المواطن (الأصلي) أن على الاستعمار أنْ ينتهي. ويستشهد سعيد بنص فانون: "إنّ عنف النظام الكولونيالي والعنف المقابل لابن البلد يتوازنان ويستجيبان لبعضهما البعض في سيطرة متبادلة غير اعتيادية... يقوم عمل المستولي بأن يجعل أحلام التحرر غير ممكنة لابن البلد في تخيّل كل الإجراءات الممكنة لتدمير المستولي، في خطة منطقية، تنتج مانوية (ثنوية) المستولي مانوية أبناء البلد، نحو نظرية أنّ (الشر المطلق في ابن البلد) تستجيب إلى نظرية (الشر المطلق في المستولي)" ، وهذا الاستشهاد يكشف لنا فرضية سعيد عن تأثر فانون بلوكاش بخصوص مادية الفاعل والهدف، والأمر الآخر يكشف لنا أن العنف هو عمل الإرادة العقلية التي تهزم هذه المادية، وبهذا يتضح أن فانون ليس قوميًّا تبسيطيًّا يدعو إلى عنف القوة التطهيرية. وقد استلهم سعيد هذا التأثير اللوكاشي من زاويةٍ أخرى تمثّلت بأنّ فعل الإدارة الذي يهزم مادية الذات الإمبريالية هو (الرد بالكتابة) على هذه الإمبريالية الثقافية؛ لذا فإن جوهر التحرر هو الوعي وإدراك الذات الشاملة التي هي توحيد للذات والآخر، ومثل هذا الاستنتاج ممكن لأن سعيدًا يرى فانون ليس مجرد منظّر للمقاومة وتفكيك الاستعمار بل أيضًا منظّرٌ للتحرُّر[10].

ولم يكن أثر فانون منعكسًا على سعيد فحسب، بل على جملة نُقاد ما بعد الكولونيالية، ويلخص الناقد العربي صبحي حديدي في دراسة مبكرة حول (الخطاب ما بعد الكولونيالي) أثر فانون على الآخرين بقوله: إن "إدوارد سعيد جعل من فانون المدافع عن سرد التحرير المضاد الذي ينتمي إلى حقبة ما بعد الحداثة، وهومي بابا نحت من أفكار فانون معمارا نظريا لعالم ثالث ما بعد بنيوي، وعبد الرحمن جان محمد اكتشف فيه منظّرا مانويا للاستعمار والنفي المطلق، وبينيتا باري وجدت فيه برهانا ساطعا على النظرة التفاؤلية للأدب والعمل الاجتماعي، أما عند سبيفاك فقد ظهر فرانتز فانون في أصدق صوره وأكثرها بساطة وإقناعا: الطبيب النفسي الذي خرج من بين أبناء البلد لكي يحلل بعمق ونفاذ ما تعكسه تلك المرآة الرهيبة المعقدة"[11].

***

د. وسام حسين العبيدي

...............................

[1] فانون – المخيلة بعد الكولونيالية، نايجل سي. غبسون، ترجمة: خالد عايد أبو هديب، مراجعة: فايز الصُياغ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، الدوحة – قطر، 2013م: 34 .

[2] دليل الناقد الأدبي، د.ميجان الرويلي، ود.سعد البازعي:  24 .

[3] ينظر: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية: 150 – 151 .

[4] معذبو الأرض: 26 .

[5] موقع الثقافة: 103 نقلا عن كتاب فانون بالانكليزي (جلد أسود أقنعة بيضاء).

[6] المصدر نفسه: 103 .

[7] المصدر نفسه: 104 .

[8] الثقافة والإمبريالية، إدوارد سعيد: 10 .

[9] ينظر: نظرية التلقي أصول وتطبيقات، د. بشرى موسى صالح: 82 .

[10] ينظر: إدوارد سعيد – سيرة فكرية: 164 – 165، والثقافة والإمبريالية: 326 .

[11] الخطاب ما بعد الكولونيالي – في الأدب والنظرية النقدية، صبحي حديدي، مجلة الكرمل، ع47، 1993ص79: 79 – 80 .

في المثقف اليوم