أقلام فكرية

التحولات النوعية والتقدّم في العلوم

لمفردة التحول النوعي معنى محدد في العلوم والفلسفة. لطالما سمعنا عبارة "تحول نوعي" paradigm shift، ليس فقط في مجال الفلسفة، بل ان الناس يتحدثون عن التحولات النوعية في جميع المجالات وفي مختلف الأنواع: الطب، السياسة، علم النفس، والرياضة. ولكن ماهو المقصود بالضبط بالتحول النوعي؟ ومن أين جاء المصطلح؟

أول من صاغ عبارة "تحول نوعي" هو الفيلسوف الامريكي توماس كوهن (1922-1996). انها واحدة من المفاهيم المركزية في عمله الشهير "بنية الثورات العلمية" الذي نُشر عام 1962. لكي نفهم معنى العبارة،علينا اولا ان نفهم فكرة نظرية النموذج.

نظرية النموذج

نظرية النموذج هي نظرية عامة تساعد في تزويد العلماء العاملين في حقل معين باطار نظري واسع – وهو ما يسميه كوهن "مخطط مفاهيمي". انه يزودهم بالافتراضات الأساسية والمفاهيم الرئيسية والمنهجية. النظرية تعطي لبحثهم أهدافه واتجاهه العام. انها تمثل نموذجا مثاليا للعلم الجيد ضمن حقل معين.

أمثلة على نظريات النموذج

نموذج مركزية الارض في الكون لبطليموس (حيث الارض هي مركز الكون).

علم الفلك لكوبرنيكوس في مركزية الشمس (حيث الشمس هي المركز).

فيزياء ارسطو.

ميكانيك غاليلو.

نظرية القرون الوسطى في "الأخلاط" الأربعة في الطب.

نظرية اسحق نيوتن في الجاذبية.

نظرية الذرة لجون دالتون.

نظرية دارون في التطور العضوي.

نظرية البرت اينشتاين في النسبية.

ميكانيكا الكوانتم.

نظرية الصفائح التكتونية في الجيولوجيا.

نظرية الجرثوم في الطب.

نظرية الجين في البايولوجي.

تعريف التحول النوعي

يحدث التحول النوعي عندما تُستبدل نظرية النموذج بنظرية اخرى. هنا بعض الأمثلة:

1- علم بطليموس في الفلك مهد الطريق لعلم كوبرنيكوس.

2- فيزياء ارسطو (التي تؤمن ان الاشياء المادية لها صفات ضرورية تقرر سلوكها) مهدت الطريق لفيزياء غاليلو و نيوتن (التي نظرت لسلوك الأشياء المادية باعتبارها محكومة بقوانين الطبيعة).

3- فيزياء نيوتن (التي تؤمن ان الزمان والمكان هما ذاتهما في كل مكان، لجميع المراقبين) فتحت الطريق لفيزياء اينشتاين (التي تؤمن ان المكان والزمان هما نسبيان للمراقب).

أسباب التحول النوعي

كان كوهن مهتما بالطريقة التي ينجز بها العلم التقدم. من وجهة نظره، ان العلم لايمكنه حقا ان يستمر حتى يتفق معظم الذين يعملون ضمن حقل معين على نموذج. قبل ان يحدث هذا، سيبقى كل شخص يقوم بعمله بطريقته الخاصة، ولم يحصل التعاون ولا فريق العمل الذي يتميز به العلم المهني اليوم. حالما توضع نظرية للنموذج، يبدأ اولئك الذين يعملون ضمنه القيام بما يسميه كوهن "العلم الطبيعي". هذا يغطي معظم الفعاليات العلمية. العلم الطبيعي هو عملية حل ألغاز معينة،جمع بيانات،عمل حسابات. العلم الطبيعي يتضمن التالي:

1- معرفة كم يبعد كل كوكب في النظام الشمسي عن الشمس.

2- إكمال خارطة الجين البشري.

3- تأسيس أصل تطوري لأنواع معينة.

ولكن بين الحين والآخر في تاريخ العلوم، يطرح العلم الطبيعي نتائج شاذة لا يمكن توضيحها بسهولة ضمن النموذج السائد. القليل من الاستنتاجات المحيرة لا تبرر بذاتها التخلي عن نظرية النموذج التي كانت ناجحة. لكن احيانا تبدأ النتائج التي يتعذر تفسيرها تتراكم، وهذا يقود بالنتيجة الى ما يسميه كوهن بـ "الأزمة".

أمثلة عن الأزمات التي تقود الى تحولات نوعية

في نهاية القرن التاسع عشر، قاد العجز عن كشف الأثير – وسيط لا مرئي مفترض لتوضيح كيفية سير الضوء وكيفية عمل الجاذبية – بالنهاية الى نظرية النسبية.

في القرن الثامن عشر، كانت حقيقة ان بعض المعادن اكتسبت كتلة عند إحراقها في تضاد مع نظرية فلوجستون. هذه النظرية تؤمن ان المواد القابلة للاشتعال احتوت على مادة الفلوجستون التي اُطلقت أثناء الاحتراق. وبالتالي،جرى استبدال النظرية بنظرية لافوازيه في ان الاحتراق يتطلب اوكسجين.

ماهي التغيرات التي تحدث أثناء التحول النوعي؟

الجواب الواضح على هذا السؤال هو ان ما يتغير هو ببساطة الأفكار النظرية للعلماء العاملين في الحقل. لكن رؤية كوهين هي اكثر راديكالية واثارة للجدل من ذلك. هو يرى ان العالم او الواقع، لايمكن وصفه بشكل مستقل عن مخطط مفاهيمي. لذا عندما يحدث التحول النوعي، فان العالم يتغير بشكل ما . او بكلمة اخرى، العلماء الذي يعملون في  نماذج مختلفة  يدرسون عوالم مختلفة.

فمثلا، لو لاحظ ارسطو حصاة تتمايل كالبندول مربوطة بحبل، هو سيرى الحصاة تحاول الوصول الى حالتها الثابتة وهي حالة الاستقرار على الارض. لكن نيوتن سوف لن يرى هذا، هو سيرى الصخرة تطيع قوانين الجاذبية وتحوّل الطاقة. او لنأخذ مثالاً آخر: قبل دارون، سيندهش كل من يقارن وجه الانسان مع وجه القرد بالاختلاف بينهما، ولكن دارون سيندهش بالتشابهات.

تقدّم العلوم من خلال التحولات النوعية

يدّعي كوهن ان الحقيقة التي تُدرس  في التحول النوعي هي شائكة جدا. نقاده يرون ان وجهة النظر هذه "الغير واقعية" تقود الى نوع من النسبية، ومن ثم، الى استنتاج بان التقدم العلمي لا علاقة له بالتقرّب من الحقيقة. كوهن يبدو يقبل بهذا. لكنه يقول هو لايزال يعتقد بالتقدم العلمي طالما هو يؤمن ان النظريات اللاحقة عادة أفضل من النظريات المبكرة كونها أكثر دقة وتعطي تنبؤات قوية وتقدم برامج بحث مثمرة، وهي ايضا أكثر أناقة.

نتيجة اخرى لنظرية كوهن في التحولات النوعية هي ان العلم لا يتقدم بطريقة متساوية، بحيث يراكم المعرفة تدريجيا ويعمق توضيحاته. بدلا من ذلك، تشهد الحقول فترات من العلم الطبيعي الحاصل ضمن نموذج مهيمن، وفترات من العلم الثوري عندما تبرز أزمات تتطلب نموذجا جديدا. هذا ما يعنيه "التحول النوعي" في الأصل، والذي مازال يعني نفس الشيء في فلسفة العلوم. عندما يُستعمل خارج الفلسفة، فهو يعني فقط تغيير هام في النظرية او التطبيق. لذا فان أحداثا مثل إختراع تلفزيون عالي الجودة، او قبول زواج المثليين،يمكن وصفها بانها تنطوي على نقلة نوعية.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم