أقلام فكرية

الفعل الاجتماعي والتجانس المركزي والمناهج اللغوية

التداخلُ بين الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية يُؤَدِّي إلى تكوين مصادر جديدة للمعرفة، وهذه المصادرُ تُمثِّل تأسيسًا للنَّزعة النَّقْدِيَّة للأنماط الاستهلاكية في المُجتمع، وتُجسِّد وَعْيًا بالصِّراع الدائر بين تفاصيل حياة الإنسان المُتَشَظِّيَة (الحنين إلى المَاضِي الذي لا يَمْضِي، والغرق في الحَاضِر الذي يتمُّ تفريغُه مِن مَعْنَاه وَجَدْوَاه، والخَوف مِن المُستقبَل الذي تتمُّ أدلجته كَمَنفى للرُّوحِ والجسدِ). ولا يُمكن للإنسان أن يَكُون هُوِيَّةً للوَعْي التاريخي إلا بالتخلُّصِ مِن الخَوْفِ الزمني والقَلَقِ المَكَاني، ولا يُمكن للمُجتمع أن يَكُون سُلْطَةً للمَعْنى الحضاري إلا بالتخلُّصِ مِن اغترابِ الكِيَان واستلابِ الكَينونة. وإذا كانَ الإنسانُ يَستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على الانعتاق مِن حُطَامِ الرُّوحِ وأنقاضِ الجسد، فإنَّ المُجتمع يستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على التَّحَرُّر مِن انكسارِ الذات وغُربةِ الشُّعور.وهذا يَعْني أنَّ الإنسانَ والمُجتمعَ يُكوِّنان معًا تاريخًا للأحلام المُشترَكة يَمنع تَحَوُّلَ المَنطِق إلى ضِدِّه، ويَمنع انتقالَ العقلانية إلى نقيضها، تحت ضَغْط تضارُب المصالح الفردية والجماعية، وإفرازاتِ البيئة الحياتيَّة تاريخيًّا وحضاريًّا، وتأثيراتِ الطبيعة الوُجودية للأشياء والعناصر. والخطرُ الحقيقي الذي يُهدِّد البناءَ الاجتماعي هو تَحَوُّلُ مَنطِق التاريخ إلى نَمَط استهلاكي غَير مَنطقي، وتَحَوُّلُ عقلانيَّةِ الحضارة إلى غَريزة شَهَوَانِيَّة غَير عقلانية. والتاريخُ والحضارةُ يُشكِّلان منظومةً فلسفيةً مُوَحَّدَةً في الشُّعور والإدراك الحِسِّي، ومُوَحِّدَةً للانعكاسات الاجتماعية القَصْدِيَّة والعَفْوِيَّة في الزمانِ والمكانِ. وكُلُّ تَوليدٍ للوَعْي الخَلاصِي في التاريخِ والحضارةِ هو بالضَّرورة تأسيسٌ للمَعنى الإنساني في الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية. والثقافةُ هي إعادةُ مُمارَسة التاريخ الإبداعي مِن مَنظور أخلاقي، والمُجتمعُ هو إعادةُ تَكوين الجَوْهَر الوجودي في بُنية العقل الجَمْعي المُسيطِر على تحوُّلات الفِعْل الاجتماعي.

2

إذا صَنَعَ الفِعْلُ الاجتماعي التجانسَ المركزي في شخصية الفرد الإنسانية، فإنَّ بُنية العَقْل الجَمْعي سَوْفَ تَنتقل مِن تأويلِ أنساق التاريخ إلى تغييرِ أنماط المُجتمع، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تفعيلِ وسائل التواصل بين المُحتوى والشَّكْل، وتجسيدِ المشروع الإنساني المُتكامل في الأحداث اليومية القادرة على تكوين تَصَوُّر ثقافي للذاتِ والعَالَمِ، مِن أجل تخليصِ التجارب الحياتيَّة مِن التناقضات الداخليَّة، وتطهيرِ فلسفة التاريخ مِن المُسلَّمات الافتراضية، بِحَيث تُصبح الحياةُ إطارًا معرفيًّا للفِكْر الخَلَّاق والوُجودِ الفَعَّال، ويُصبح التاريخُ هُوِيَّةً جامعةً للسِّيَاقاتِ العقلانية والتَّشَظِّيَاتِ الواقعية. وينبغي الحِفاظُ على الفِعْل الاجتماعي كمشروعٍ للخَلاص يُعرَف بذاته ولَيس بأضداده، وكَفِكْرةٍ مصيرية تتوالد مِن ذاتها، ولَيس كأيديولوجية مُسَيَّسَة يُعاد تشكيلُها مِن أجل إقحام الأفراد والجماعات في الانتماء المصلحي النفعي. والفِعْلُ الاجتماعي لَيس حَدَثًا عابرًا في تفاصيل الواقع المُعاش، وإنَّما هو نَسَقٌ فلسفي عميق يَحْمِل خصائصَ تاريخِ المُجتمع داخليًّا وخارجيًّا، ويُفْرِز مناهجَ لُغوية تَجْمَع بين تشخيصِ الأحلام الإنسانية المَكبوتة، وبين تَكوينِ آلِيَّاتِ تفسيرها وأدواتِ توظيفها.

3

المناهجُ اللغوية لا يَقتصر دَوْرُها على التأثير في الأحلامِ المكبوتة والعناصرِ المُهمَّشة والحَيَوَاتِ المنسيَّة. إنَّ هذه المناهج تَنبُع مِن اللغة كَجَسَدٍ فلسفي، ونظامٍ تواصلي، ومسارٍ رمزي، وتُحوِّل الأحداثَ اليومية إلى ظواهر ثقافية مُتجانسة ومُتكاملة، اعتمادًا على الطبيعة الأخلاقية للفِعْل الاجتماعي، واستنادًا إلى الجُذورِ الحضارية، والسِّيَاساتِ الإنسانية، والهُوِيَّاتِ التاريخية، والماهيَّاتِ الفكرية. واللغةُ هي سُلطة المعرفة. ومعَ أنَّ المعرفة نِسبية وغَير يقينية، إلا أنَّ الطريق إلى المعرفة هو اليقين، والعمل أكثر أهميةً مِن النتيجة، لأنَّ العمل تحت سيطرة الإنسان، لكنَّ النتيجة خارج سَيطرته. وكُلُّ إنسانٍ مُتَأكِّدٌ أنَّه يسير في طريقه، لكنَّه غَير مُتأكِّد مِن الوُصول إلى هَدَفه. وهذا يَعْني أنَّ الطريق الحياتي هو الطريقة الوجودية، وأنَّ الإنسان يُؤَسِّس مَصِيرَه أثناء اختيار مَسَاره.وهذا يَفرِض على الإنسان أن يَبْنِيَ تَصَوُّرَات صحيحة حَوْلَ نَفْسِه،وطبيعةِ بُنيته الوظيفية في الحياة، لِكَيلا يُمَارِس المَاضِي في الحَاضِر، ولا يَتَقَمَّص أقنعةَ الأمواتِ في حياته، ولا يَلعَب دَوْرَ الضَّحِيَّة في المسرحية، ولا يَبني مَجْدَ أعدائه على حُطَامه، ولا يَترك الآخرين يَصعَدون على ظَهْرِه، لأنَّ الانحناء شديد الخُطورة، فقد لا تأتي الفُرصة للنُّهُوض مَرَّةً أُخْرَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في المثقف اليوم