أقلام فكرية

السياسة والجنس

"يمس كلُّ فعلٍ سياسي دلالةً جنسيةً ما من واقع المجتمعات البشرية..."

"لا يفوتنا تجاور الثالوث المحرم: السياسة والجنس والدين دون مبرر إلاَّ من سلطةٍ .."

يتداخل (جذرُ السياسة) مع (جذرِ الجنس) لدى الإنسان من جهة الرغبة في التملُّك والسيطرة وإعلان الغلبة وإخضاع الآخرين. السياسة من سَاسَ يَسُوس كما هو معروف، وهي فنون القيادة الناعمة للجماهير وإدارة الحياة العامة تبعاً لمركزية السلطة، بينما الجنس طاقات شهوية (بيولوجية- نفسية) تعبر عن رغباتنا العميقة في الوجود والحياة. ويأخذ الجنس شكل المؤسسات المرتبطة بالزواج والأسرة والتربية والعلاقات بين الذكور والإناث. وكلُّ ذلك في الجانبين مرتبطٌ بعلاقات (القوة والتحكم) على صعيد المجتمعات البشرية. وإذا كان جذر السياسة جذراً ثقافياً بحكم التاريخ، فإنَّه يعيد إنتاج الجذر الطبيعي للشهوات الحسية ويعطيها مستويات رمزية أخرى. وبخاصة أنَّ السياسة- بهذا المعنى الشائع - مجال يجد فيه الناسُ متنفساً ملتوياً للتعبير عما هو بيولوجي وغرائزي. ولذلك يبدو أنَّ الفصل بين الشأن الجنسي sexual والشأن السياسيpolitical - ضمن الممارسات الحياتية - أمرٌ خادعٌ.

ربما تبدو السياسةُ مأخوذةً بحدة الأحداث وتأثيراتها الطارئة فوق سطح الحياة وتحولاتها. وهو ما يغطي أية مكونات شهوية أخرى ضمن الظواهر العامة ولا يعطيها فرصة للظهور المباشر أمام النظرة العادية. ولكن الإثنين (الشأن الجنسي والشأن السياسي) يعكسان بعضهما البعض كرقائق سرية لرغبات عميقة بعمق حياتنا البشرية. ولو كانت المسألةُ غير ذلك كما قد نظن، ما كانت لأفعالنا الإنسانية أنْ تتمتع بتأثيرها القوي في الواقع. هذا الواقع الإنساني الذي يتراكم كأرصدةٍ غرائزيةٍ نتيجة الشهوات والاحتياجات بين فئات المجتمع. فالحياةُ ليست مادةً حياديةً ولا شفافةً في كلِّ الأحوال، لكنها ممارسة بيولوجية- نفسية لجوانب الرغبات القابلة للتداول، والتي نرى فيها أنفسنا أقوياء وتمثل محط أنظار الجميع.

أفعال السياسة تشبه تماماً إغواءَ العملات النقدية الثمينة، فهذه العملات تحملُ رغبات الناس وتُفسح المجال إلى تداول الغرائز بشكلٍّ متسامٍ، لكنها لا تُخفي تماماً هذا البعد الغرائزي أو ذاك. وتعبر الخطابات السياسيةُ عادةً عن هكذا مضمون، فكلمات القوة والقبضة الحديدية والاحتواء والسيطرة وأثبات الذات كلمات تحتمل أكثر من وجه حسي، وكأنَّها صيغ للتعبير عن الوجود المرغوب لأناس يظهرون بكامل مغرياتهم تجاه الآخرين. ولابد لرجل السياسةِ أنْ يستغل وافر الإغواء والجاذبية في تشكيل القُوة المتاحة له، والتي يطرحها بصيغة الإغواء أيضاً أمام الجماهير الغفيرة المتعطّشة للتعلق بأية قُوى عليا. مثل تفاحة آدم التي لم تنضب صورُها حتى الآن. وليس هذا فقط، إنما بإمكان كلِّ إنسان أنْ يقضم منها قضمةً تكفي لإستدراجه سياسياً ورغبوياً في الوقت نفسه.

إنَّ ما نرغبه نحن يبقى موقعاً لرغبة سوانا من الناس والعكس صحيح بالمثل. لدرجة تكوين شبكة مركبة ومتنوعة بحجم الثقافة الجارية التي تشملنا جميعاً، بحيث يبدو الصراع في مجال السياسة صراعاً على تلك الرغبات ومحاولة تحقيقها. من هنا، تأتي إمكانية كلِّ مستوى سياسي محتمل، فهو مرهون بالتوافق أو التطاحن بين الرغبات المتعارضة. ولأنَّ السياسة آفاق ممكنة (لأنها فن الممكن)، فهي أهداف مؤجلة تأخذ مداراتها مع الآخرين. على سبيل المثال: لماذا يختار الناخبون فرداً معيناً - من بين مرشحين محتملين- هو الرئيس القادم لحكم البلاد؟ ما السر وراء انهماك السياسي في أعماله لدرجة المجازفة كأنه يمارس ألعاباً ممتعة وخطيرة؟!

إنَّ الناخبين كفاعلين إزاء الاختيارات السياسية لا يطرحون إمكانية الإنتخاب فردياً، بل ضمن رغبة أكثر عمومية لاستعادة التحكم في المجتمع. ويرون في تلك الاختيارات تحقيقاً (بيولوجيا- نفسياً) لذواتهم الجمعية، وذلك لا ينفصل عن الإمتلاء الوجودي للإنسان باعتبارات أنه جزء من الحياة المؤثرة. وبالتالي كانت قدرة الفاعلين السياسيين على الإشباع السياسي لا تقل عن الإشباع الجنسي في مداه البعيد، حيث أشكال المبادرة والثقة والقوة والتعاطف والميل والنظر بالكيان والإمتاع والسيطرة في النهاية. وجميع هذه الأشياء تظل متأججةً في زخم السياسة بمعناها الإنساني الشهوي مثلما تلتقي مع أفعال الجنس. وقد ينصرف الناسُ إلى هذه الأشياء، عندما تتقابل رغباتهم خارج الذوات لتصبح ملتقى غايات المنافسين أيضاً. إنَّ الانجذاب إلى النقيض يتأتى في السياسة من التمثيل العام للأفعال والاختلاف بين الناس، حتى ولو كانت مستحيلةً. لأنَّ رجل السياسة يفعل ما يرغب وما لا يرغب، يتجه إلى ما يُريد وما لا يُريد. ويدفع الآخرين أيضاً لإدارة أنفسهم بما يرغبون وبما لا يرغبون. وقمة إثارة السياسي الفعلية عندما ينخرط في ممارسات تلبي احتياجات غيره من الناس. مع أنه يأتي هذه الممارسات كاحتمال لقدرته على التلّون البرجماتي أحياناً أو كإحتمال تالٍ من جانب اعترافه بالتنوع والتغيير.

هذا المظهر هو أساس وصف السياسيين بتعدد الوجوه والأقنعة أمام الجماهير. فهم يتقلّبون كما تتقلّب الحرباء في بيئتها الطبيعية. إذ لا يكف السياسي عن اقتراف التعدد الرغبوي تجاه المناوئين، وأمام الأغيار، وصولاً إلى ما يهدف. وذلك من جانب كون التعدد رغبةَ الآخر وسيكون ممتعاً ومبذولاً لاستغراق ما، لانكشاف ما، لتلصص غريزي ما. والغواية والإغراء أنْ تصبح أنت مفارقاً لذاتك مع آخر هو الشحم الدسم للممارسة السياسية. والأمر المشترك بين الأطرف ليس ترفاً من هذه الزاوية، لكنه بنية حاملة لجميع علامات الرغبة المتبادلة وجذورها التي لا تقف عند أي حد قريب.

إنَّ الإغواء- بكل محمولات هذه الكلمة - حركة سارية في السياسة حتى الثُمالة. هل هناك ما هو أكثر بريقاً من الهيمنة على الجُموع؟! كيف يُقارن السياسي بغيره من الناس إذا احتكمنا إلى أصداء وجوده لدى الحشود؟! ما هذا الإنصات كله والولَّه كله بالسياسيين أثناء الأحداث الجسام؟! لماذا ينتظر الناس من السياسيين ردَ فعلٍّ عام على المستوى ذاته؟ إذ كثيراً ما ينتظر الناسُ رغباتهم المبتغاة في (بطل سياسي) قادم من جوف المستقبل ليحل لهم المشكلات والقضايا. إنَّ الخيال الشعبي يصنع هؤلاء الأبطال السياسيين مع دورات التاريخ والظروف المختلفة. فرجل السياسة باتَ هو المخلِّص الكوني للجموع البشرية بلغة الديانة المسيحية، فالحلم الكامن وراء ذلك الوضع يعمل على منوالها.

بالطبع قد يحس السياسي بالرغبات والآمال والأحلام كما لو كان مأخوذاً بمهام حيّة ومقدّسة. إن السياسي في الوقت عينه: مرآةٌ وراءٍ ومرئي. ويكمن هذا الثلاثي في شخصية واحدة بقدر ما يسيطر صاحبها على المحيطين به. هو عندئذ صورة وكيان، هو واحد ومنقسم، هو ذات وموضوع، هو كلٌّ وفرد. ويعيش ذلك السياسي بصيغة الجمع إلى ما لا نهاية فيما يتصور. إنه يستغرق في لحظة من الحماس والطاقة القصوى انغماراً بروح الحياة. وفوق هذا وذاك ما أبرز أنْ يرى رجل السياسة ذاته متجسداً بشكل عمومي!! وتلك هي المكانة الاجمالية التي لا يبلغها إلاَّ أنصاف الإلهة في الأساطير. حيث تكون ذات الإنسان حاشية المتعة بفضل قدراته على الإيجاد وإصدار الأوامر النافذة وخلق الوجود المشبع بالأسرار والألغاز!!

من تلك الزاوية، لا يخلُّو كلُّ فعل سياسي من أصداء لرغبة جنسيةٍ ما. دلالة شهوية بعيدة تتم بالاستحواذ على الآخر، وتعتبره موضوعاً للانكشاف والتقلب والمخاتلة تحت النظر والمراقبة. ولهذا يكون" السياسي المُحنك" عاشقاً ولّهاً قدر ما ينفذ أعماله وقراراته. والعلة وراء ذلك أن السياسة ليست تقديراً لموقف ولا إدارةً لشأن عام ولا مشاركةً في انجاز مهام الدولة فقط، ولكن هناك تقلُّباً مراوغاً مع المجهول كما لو كان أساس ذلك حساً حيوانياً داخل الإنسان. بالإضافة إلى انجذاب كيان السياسيين نحو رؤية علامات قبول أفعالهم لدى جميع الناس، على أن يتفتق ويتفجر القبول في مراحل الممارسة مع حركة الجماهير. وفي المقابل، فإن معنى كلمة السياسي كصفةٍ يصح إطلاقها بلغة ناعمة تماماً مثل دلالة كلمات الجنس.

وليس أدل على ذلك من المظهر الأوضح بروزاً لدى الأنظمة السياسية الغربية، حين تظهر بعض المشاهد الأنثوية الطاغية خلف رؤساء الدول والمسؤولين هنا أو هناك، سواء بفضل حضور زوجاتهم أو عشيقاتهم اللاتي يكرسن لطفاً غرائزياً بالملابس والأجساد والأشكال والوجوه والعلاقات في محيط السلطة. لدرجة تحويل أنظار الموجودين والمتابعين إلى شحنات نفسية وجسدية لا تخلو من استعراض. ومن ثمَّ، كان يستحق الاحتفاء بالفوز السياسي اطلاقاً لمظاهر الغلبة والاحتواء وكشف القوى والعضلات. ومؤخراً بالأمس القريب، جاءت زوجة ترامب ميلانيا كناوس ترامب Melania Knauss -Trump عارضة أزياء سلوفينية، لا تمتلك شيئاً في عالم السياسة إلا المظهر الجذاب والقوام الرشيق والوجه المتراكم وراء المساحيق!!

وحينما كانت تتكلم زوجة الرئيس ترامب كان يسبقها المظهر الأنثوي قبل الحضور السياسي. كحال جميع رؤساء الدول الغربية، إذ يحرصون عادة على اصطحاب زوجاتهم في اللقاءات والمنتديات العامة. ودونالد ترامب هذا كان يدخل كل فعاليات السياسة بجسده مباشرة، وهو الإنطباع الحسي المبدئي عنه. لأن مظهره العام كان يحمل علامات تجميل لا تخطئها العين. كما أنه كان يتهيأ للكاميرا بشغف حسي مع الشغف السلطوي الذي تركه موظفاً عمومياً بمرتبة رئيس. وحتى عندما أراد خصومه السياسيين محاربته، أظهروا صوراً عارية لزوجته، وكأنَّ هناك استعمالاً لسلاح الغرائز نفسه في إدارة الصراع السياسي. إنَّه الفهم الغرائزي لعالم سياسي معجون بالرغبات التي لا تُفرق بين الممارسات السياسية والحقول الإنسانية المختلفة.

من زاويةٍ أخرى، تعد السلطة السياسية بمثابة التجسد الشهوُي للمهيمنين عليها بشكل ما. دوماً السلطة هي نطاق من الغرائز التي يرغب الناس في دائرتها، ويتمركزون حولها، وتستقطبهم بدورها كلياً إلى درجة الجنون. ولا توجد السلطة هكذا دونما اتصال بجانب الخفاء الممتع للأسرار والعلاقات، إذ تترك آثارها في أجساد أصحابها وأخيلتهم على هيئة رغبة كلية هادرة. السلطة من تلك الجهة غريزة تستمر في الجري وراء أشباحها، وصورها، وماهيتها. ولهذا هي تخلق أثيرها الشفاف والكثيف معاً بين الناس. وتحدد نطاقاً من الحقائق التي تلون تأثيرها كلما كانت ناشطة في تضاعيف الحياة السياسية.

ولئن كانت السلطة تمثل كتلة من اللهب الشهوي الحي بين الناس، فلأنها تنطوي على عدة أشياء مزدوجة:

1- تبقى السلطة مرغوبة كممارسة سادية إزاء أناس يتقبلونها بنفس الإيقاع.

2- تضرب السلطة نطاقاً من المازوخية التي تدفع الجماهير للاستمتاع بالقهر والإكراه، واستعذاب التسلط عليهم من قبل الساديين.

3- تتميز السلطة بدمج الحواس في دلالة الهيمنة والقدرة على الترقب والتتبع. وتلك خاصية تجعلها سلطة غامضة، ضبابية. وتحولها إلى ممارسة غريزية ترتبط بإحساس بدائي سحيق لدى الجنس البشري.

4- ترتبط السلطة بالآثار الراجعة للإشباع النفسي وتفريغ شحنات العنف بآليات تخفيها ولكنها ترتبط ببيولوجيا الحياة والجسد والعقول.

5- تفرز السلطة لدى ممارسيها إحساساً مخدراً بصورة أو أخرى. ذلك نتيجة انعدام الاعتناء بالواقع. كما أنها ترسخ تكذيب الحقائق على نحو تلقائي، أو بالأحرى تضع السلطة على عيون أصحابها عصابة يجعلهم ينكرون الأشياء والزمن دوماً.

6- تؤدي السلطة إلى تضخم اللاوعي بصورة خيالية. لأن اللاوعي ينسخ الأشياء بقدراته الوهمية على نحو مخل بأوزانها النوعية في الحياة. والسلطة هي بالتوازي الوسيط الفضفاض الذي ينكشف بأفعالنا مباشرة وردود هذه الأفعال.

7- تزيد السلطة نسبةَ التحرش السياسي الشهوي بالآخرين. فلا توجد سلطة لا تتحرش بأعدائها ومؤيديها على السواء. لأن السلطة تحمل داخلها عناصر تدميرها وهذا ما يسقط على ممارسيها بصورة دائمة، كأن هناك نوعاً من التدمير الذاتي.

8- تنتج السلطة معالم وقدرات مناسبة لأصحابها ولما يفعلونه تجاه الآخرين. مثل تغيرات الشكل والخشونة والتنطع والتكالب على المصالح والزلاقة اللفظية.

9- تتخفى السلطة على المستوى الاعتيادي المباشر، غير أنها تتراكم عند المواقف الحدية. وتتجلط مثل الدماء كدلالات خارج الزمن كما لو كانت مادة لا تزول إطلاقاً. ولذلك فإن المفقود من السلطة أكثر من المكتسب، ولذلك تسعى دوماً لعملية من التعويض والإبدال المستمرين.

10- لا تشكل السلطة موضوعاً قائماً بذاته مثلها مثل الرغبات الأخرى. ولكنها تحتاج من وقت لآخر موضوعاً جديداً من أجل إظهار قدراتها الشهوية. إنها تأتي خلال ممارسات الناس بصرف النظر عن الحقول الإنسانية التي تجوس خلالها.

ولهذا تعد السلطة السياسية نوعاً من شهوة التكرار الذي لا يُمل. إنها تكرار ينسي نفسه ومحيطيه تدريجياً حتمية هذا التكرار. حتى يكاد أن ذلك يمثل قانوناً فيما وراء الظواهر الناتجة عنها. وهكذا شأن الجنس على الطريق ذاته، فهو تكرار فوق مستوى التكرار (تكرار التكرار) . لأنه يفيض بتفاصيل إنسانية لا تخضع لمعايير ولا مقاييس. ويبقى محكوماً بنقطة بداية تترحل إلى الأمام، إلى انهماك جديدٍ. وإلاَّ لما استمرت الشهوات الجسدية منذ وجود الإنسان حتى الآن. وقد اسفر اشباع الشهوات الجنسية لاحقاً عن هذه الأعداد والحيوات الهائلة بتنوعها وتاريخها.

والتكرار نوع من استغراق السياسة والجنس في العمل. فليس أكثر من السلطة التي تحقق وجودها على هذا الصعيد. ولا توجد تلك الخاصية بعيداً عن علاقة الأنا - الآخر. لأن السلطة كشهوة تفترض، بل تمتد بامتداد هذه العلاقة المتوترة. ولذلك تحتم الشهوة علاقة قاهر ومقهور، غالب ومغلوب. وفي التراث الشعبي المصري يقال" يا بخت من بات مغلوب ولا بات غالب". في اشارة إلى قمع السلطة القائم على شهوة النيل من الآخر. غير أن اللافت هو ترجيج المبيت في وضعية المغلوب عوضاً عن ممارسة الظلم، وهذا وضع لا يستقيم مع إحساس الإنسان العادي وصون كرامته، لكن المازوخية تغلف الأمر برغبة في أنْ يكون بعض الناس موضوعاً للتسلط. من هنا ترتبط المازوخية السياسية بالمازوخية الجنسية.

وعلى أنَّ العبارة السابقة أخلاقية الجانب، بيد أنها تتكتم سراً عن سفالة السلطة التي تدمر كل المعايير الإنسانية. ومن تكرار هذا الظلم يود الفرد العادي المبيت مغلوباً على أمره، مقهوراً دون أي شيء سواه. ولعلنا لاحظنا أثناء الربيع العربي هذه الحشود التي تعتبر أمواجاً جسدية في المقام الأول. إنهم يمثلون نسبة التجلط الحسي لشهوات الجموع سياسياً. لأن هؤلاء الجموع كانوا في حالة استنفار دائم. اتصال جسدي هو القطيع الملتحم كرغبة عامة. إذ ذاك كان يتحرك هذا الكم البشري كحال التفريغ الحسي للمكبوت النفسي وإفرازاته المادية.

و كلمة الأجساد بصدد السلطة ليست مجازاُ، لكنها فعل عمومي قيد الممارسة. ولهذا فإن التجلي غير المباشر للشهوات والغرائز هو التراص الجسدي السياسي. وكانت غرائز الجموع هي المحرك الذي دفعها في بعض الأحيان إلى الانزلاق نحو التدمير والعنف، كما حدث مع الاشتباكات التي جرت آنذاك في كل أحداث الربيع العربي. ونظراً لأن الشهوات الجنسية في المجتمعات العربية مقموعة باستمرار، فإنها تأخذ أبعد الطرق للتعبير عن مكنوناتها المباشرة. بالتالي تنقلب الشهوات وترتفع إلى عمل سياسي مشهدي. ومع ضبابية المشاهد، كنا نسمع كيف تحارب الأنظمة الاستبدادية هذه الجموع لأنها أنظمة كانت تحارب الحياة الكريمة بالأساس.

على سبيل المثال قبل سقوط بعض الأنظمة السياسية أثناء الربيع العربي قيل إن هناك تحرشاً جنسياً داخل المظاهرات. والوصف الجنسي ينضح بالوجه المقابل للقهر السياسي في مجتمعاتنا. وقيل ذلك حينئذ لتفريق المتظاهرين وبث الخوف لدى النساء لمنعهم من المشاركة في الحراك. ثم كانت التهمة نفسها بعد الربيع العربي، حيث قيل إن المتظاهرين ضد الشرعية الجديدة، فأغلبهم من المنحرفين أخلاقياً وراغبي التحرش الجنسي بالفتيات. والسؤال: كيف تجتمع الأنظمة السياسية المختلفة على وصف واحد؟ يصح الوصف باعتبار أنًّ التحرش الجنسي يُساوي التحرش السياسي ويتبادلان الأدوار. فالجسد واحد والرغبة متصلة وقابلة للانقلاب والتحول بين المستويين السياسي والجنسي.

وفي التراث العربي، كانت هناك ظاهرة الخصيان الذين ينتشرون في قصور الملوك والسلاطين، حتى وصل بعضهم إلى مراكز نافذة، وكانوا يحظون بمكانة لدى الأمراء. والدلالة الموضحة لذلك أن الخصاء هو عمل سياسي بالمقام الأول لا بيولوجي ولا غيره. فالملك أو الأمير يسلب قدرات بعض الذكور في إشارةٍ إلى أنَّ كل من يقترب نحو دائرة التأثير سيكون مصيره فقدان ذكورته. وبخاصة أن الذكورة تعني فاعلية سيطرة الذكور على علاقات القوى في ثقافتنا العربية، لأن السلطة لم يتم اسنادها تاريخياً خلال تراثنا العربي إلى أنثى (سواء أكانت ملكة أم أميرة) إلاَّ نادراً وفي إطار من المؤامرات والصراعات السياسية. وبحكم أن السلطة دائماً ذكر في عرف العرب، فإنها لابد أن تكون كذلك بالنسبة لمالكها الأول (الحاكم)، أي أنه الذكر الوحيد المعترف به دون كل الناس، حيث يرفض هذا الأخير بدوره أنْ يكون هناك ذكور غيره في مخدع السلطة الخاص والعام. من ثم توارثنا شعبياً لفظ " الدكر" لمن يحمل مسئولية بها سلطة لإنفاذ القرارات وتحمل التبعات واخضاع الآخرين لتوجهاته.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم