أقلام فكرية

دور فلسفة الماضي في إمكانية صياغة اقتصاد المستقبل

قصص  مثل ارتفاع الاسعار وقلة العرض او ركود متوقع دائما ما تشغل حاليا العناوين الرئيسية للصحف. الأزمة الاقتصادية الحالية عمّقت القضية القائمة منذ زمن طويل وهي اللامساواة الاجتماعية، مما زاد الفجوة بين الفقراء والأغنياء – وهي مشكلة تفاقمت سلفا بفعل الركود الكبير لعام 2008 والصدمة الاقتصادية التي أحدثها كوفيد 19.

الولايات المتحدة وهي البلد الأغنى في العالم من بين الأمثلة الصارخة لهذه النزعة. اليوم، يستلم مدراء الشركات الأمريكيين 940% اكثر مما استلم أقرانهم عام 1978. من جهة اخرى،العامل العادي يذهب الى بيته فقط مع 12% زياده في دخله مقارنة بعام 1978. وكما يشير تقرير لمعهد السياسة الاقتصادية، ان ارتفاع معاشات مدراء الشركات لا يعكس تغييرا في قيمة المهارات، بل هو يمثل تحولا في السلطة. خلال عقود، أضعفت السياسة الامريكية القدرة التفاوضية للعمال من خلال التثبيط وجهود كبح التنظيم النقابي. الثروة المتصاعدة للقلة على حساب الأكثرية يعني تركيز السلطة في أيدي عدد قليل من الناس والذين اكثرهم من الرجال. ليس غريبا ان شخصيات مثل دونالد ترمب و مارك زوكربيرج وإيلون ماسك لهم تأثير غير متوازن على الجاليات في الولايات المتحدة – وأحيانا بنتائج مدمرة تهدد المؤسسات الديمقراطية.

اقتصاد بوجه انساني

من الضروري جدا الآن واكثر من أي وقت مضى ان يُعاد فحص اسس النظام الديمقراطي في الغرب. البحث عن نماذج اقتصادية بديلة اصبح صعبا في ظل أنماط التفكير التقليدية. العديد يعتقدون اننا نواجه خيارا قاسيا بين اقتصاد السوق الرأسمالي من جهة والاقتصاد الاشتراكي المخطط من جهة اخرى. ورغم اننا نعيش في عالم يعرّف النماذج الاقتصادية بعبارات مطلقة،لكننا لا يجب ان نكون بهذه الطريقة. نرى ان الرؤى السايكولوجية والاجتماعية المتعلقة بالاقتصاد التي طُوّرت في القرن التاسع عشر من قبل فلاسفة مثل هيجل وجون ستيوارت مل و جورج سيميل يمكن ان تساعدنا في إعادة تصور اقتصاد بوجه انساني.

هؤلاء المفكرون كانوا مقتنعين ان النظام الاقتصادي الجيد يجب ان يضم عناصر من الرأسمالية الكلاسيكسة (مثل السوق الحرة في السلع والخدمات) ومن الاشتراكية الكلاسيكية (مثل الملكية الجماعية لوسائل الانتاج). هذا ما نطلق عليه التعددية الاقتصادية.

هيجل ومشكلة الثراء

يُعتبرهيجل مثالا جيدا لمفكر اقتصادي تعددي. في كتابه فلسفة الحق (1820)، عرض هيجل تفكيرا مكثفا حول الاقتصاد الحديث. هو ناقش السوق ومبادئه قيد العمل،اللامساواة الاجتماعية، وحتى تكوين الرغبات من خلال الإعلانات وثقافة المستهلك. من بين العديد من الموضوعات التي فحصها كانت مشكلة الثراء. لم يكن هيجل قلقا فقط حول الفقر الذي خلقه الاقتصاد الحديث، وانما ايضا حول التركيز المفرط للثروة بيد القلة. هو كان يكتب قبل مئات السنين قبل وصول البليونيرات الجدد الى المشهد وجادل سلفا ان "كلا هذين الجانبين، الفقر والثراء يمثلان بلاءً للمجتمع المدني".

تحليلات هيجل تنبأت بالأحداث قبل وقوعها. هو اعتقد ان الثراء خلق ميلا مضادا للبديهة بين الأثرياء عندما شعروا انهم ضحية وانهم حُرموا من حقوقهم من جانب المجتمع. وبالنتيجة،اعتبر الاثرياء جميع الدعوات لفرض ضرائب عليهم هي هجمات غير مبررة على حريتهم الشخصية. هيجل اعتقد ان هذا الإحساس بالإيذاء قد يقود لرابطة غير متوقعة بين اولئك الذين في قمة الهرم الاقتصادي واولئك الذين في القعر – وهي رابطة ستزيح الاختلافات في اسلوب الحياة والكراهية المتبادلة لتشكل تحالفا يهاجم المجتمع المدني من كلا الجانبين. ظاهرة تحالف ترامب MAGA (إجعل امريكا عظيمة مرة اخرى) هي مثال هام عن ذلك.

إعادة تصور الاقتصاد

خلافا لبعض الاشتراكيين اللاحقين، لم ير هيجل ان مشاكل الثراء يمكن معالجتها بادخال اقتصاد مخطط يُلزم قسرا تطبيق المساواة في الثروة. بدلا من ذلك، كان اتجاه هيجل تعدديا. هو دافع عن موقف مزدوج فيه الاقتصاد الحر يعمل بالتوازي مع وجود أشكال تعاونية للانتاج – تشبه بشكل ما تعاونيات العمال الحديثة. يرى هيجل، اذا كان معظم الانتاج في المجتمع يُنظّم تعاونيا، فان الافراد الأكثر ثراءً سيكونون جزءاً من عملية صنع القرارات الاقتصادية بالاشتراك مع الآخرين،الامر الذي يستبدل "تحالف الضحايا" الضار السائد بين الغني والفقير بهوية جماعية مرتكزة على وكالة اقتصادية مشتركة.

عند إعادة تصور نظامنا الاقتصادي الحالي، يمكننا ان نستفيد من كتاب هيجل عبر التركيز على تعاونيات العمال، او أصحاب المشاريع الاقتصادية التي يشترك العمال في ملكيتها ويتخذون بشكل جماعي قرارات انتاجية، عادة تتم – وليس دائما- باسلوب ديمقراطي.

تحت أي ظروف تكون الأساليب التعاوية للانتاج ناجحة؟ وكيف يمكن للدولة تحفيز هذه الأشكال من الانتاج ضمن اقتصاد السوق الحالي؟ وهل ان تعاونيات العمال هذه حقا طريقة لتحقيق العدالة الاقتصادية؟ هذه الأسئلة التي أثارها فلاسفة الماضي،ربما تفيدنا في تصور مستقبل لإقتصاد تعددي جديد أكثر عدالة وذو طابع انساني.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم