أقلام فكرية

مداخل في التحليل النفسي

ما نتعلمه من التحليل النفسي

نتعلم من التحليل النفسي الكثير من مداخل النفس وما يدور بين ثناياها، هي فينا ولكن لا ندركها، تُعرض في حياتنا اليومية، ولا نعرفها، ولا نعرف قصدها، والانكى من ذلك تواجهنا كل يوم بشتى المظاهر في تعاملنا، كل يوم تداهمنا بفكرة نحاول قمعها بإرادتنا، ننجح أحيانًا ونحن بكامل وعينا، وأحيانًا نفشل فَتكبتْ  ولكنها لا تغادرنا تعود كسلوك يومي محور في أحيان كثيرة، نتضايق منها نحاول التحايل عليها لكنها تؤرقنا ليس في الوعي فحسب، بل في المنام، تقض المضجع ليلًا، يكون الحلم هو الملطف لتلك الأجواء العاصفه، وكما يقول سيجموند فرويد الحلم حارس النوم، يبحث معنا عن السبب في كل تلك التآوهات المحبوسة بإرادتنا ولكننا ذهبنا بها بعيدًا إلى تلك القارة المجهولة غير المكتشفة، وهي قارة النفس وما أحتوت من دهاليز وغارات وجبال وسهول ووديان، نتساءل في الكثير من الأحيان هل هذه الفكرة، أو هذه الأخيولة هي حقًا تحقيق مقنع عن رغبة مكبوتة؟؟!! ويكثر التساؤل الخفي، يستحي البعض منا عن نوايا عمقه، وحقيقته، هل هي رغبات متوحشة، "أمنيات" فظيعة، هل النفس بهذا الإغواء غدرت بالعقل، وذهب الدماغ إلى خزنها في عالم اللاشعور" اللاوعي" خجلًا من الذات لكي لا تنشطر بين القبول والرفض؟ هناك أسئلة لا إجابات لها!!

أنها أفكار تدور في مخيلتنا، ربما تضايقنا وتخنقنا في حالة الوعي، ونهرب من مواجهتها ولا ندري إلى أين ذهبت، وأين غاصت في أعماقنا ونكاد ننساها، ولكنها تعود إلينا حتمًا.. حتمًا بشكل آخر محور لا كما خزنت، أو كما رغبنا رغم أننا لا ندري ما هي أساسًا، لكن لاوعينا يعرف تماما ما هي؟ وما كنهها؟ وماذا تريد .. أنها أمنيات ليست مقبولة حتمًا، ليست مني وليست من الآخرين، ذهبت ونحتت في مكان ما  في نفوسنا نحت حجري، لا.. ربما توقظنا فجأة، أو خاطرة ونحن نقود سيارة "تَعنُ" على حين غفلة، بكلمات ونحن في حالة سعيدة من يومنا المشمس الجميل، أو نحن نسوق في سيارة وتأتي على بالنا أغنية ربما دثرت في ذاكرتنا ونكتشف أن لها دلالة عن تلك الأفكار المخزونة، أو نستقل الباص، أو القطار فتظهر على حين غرة بلا سابق إنذار أو مقدمات للتهيئة لشيء ما سيكون، أو ربما  ونحن في عمق النوم كادت أن تكون رسوم متداخله في أعماقنا، وصور مشوهة لأشخاص متداخلين مع بعضهم البعض، حقًا أنه تركيب مزعج وقلق، يقتحمنا ويجعل الآرق هو السائد في داخلنا، ويحدثنا سيجموند فرويد عن ظواهر نفسية عديدة ومنها فقدان الأشياء، وكذلك في حالة الوعي قوله أن الدوافع البعيدة العميقة التي تستتر وراء النزعة إلى التخلص من الأشياء بفقدها لا يمكن حصرها وتعدادها بسهولة، ونقول متفقين مع فرويد أن أفكارنا في حالة اليقظة والوعي وهي تضايقنا لن تزول حينما نهرب من مواجهتها، أو قمعها، أو التغافل عنها وأغفالها، لابد أنها تعود إلينا حتمًا، لأن كل شيء فينا يخضع للحتمية النفسية، وبما أنه تَكونَ " وخلق" كفكرة، أو خاطرة، لابد من أنها تَعنُ وتعود، مهما هربنا منها، حتى وإن واجهناها، يا الله أنها تدور في داخلنا وأزاء ذلك يقول سيجموند فرويد في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي أن الحياة النفسية ميدان حرب وساحة صراع يقوم فيها الكفاح بين نزعات متعارضة، وقوله وإذا شئتم أن نعبر عن هذا بعبارة ديناميكية، قلنا إنها تتألف من متناقضات وأزواج من الأضداد، فقيام شاهد على وجود نزعة معينة لا يتنافى بأية حال مع وجود نزعة مضادة لها، فثمة مجال لكل واحدة منهما.

نتعلم من التحليل النفسي ما يضيفه لنا "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي ومجدد فكر سيجموند فرويد في رؤيته حينما يربط "الخيالي" بمجالات مقيدة مختصة بالوعي والوعي الذاتي، وهو النظام الأكثر ارتباطًا بما يحس به الناس في واقعهم اليومي الروتيني، حيث يتخيل أحدٌ أشخاصًا آخرين ما هي صفاتهم، أو من يكونون، يعني من ثم ما "يتخيله" هو عن نفسه عما هي صفاته أو من يكون هو، ذلك عند التواصل والتفاعل، ويندرج من ضمن هذا النظام الزوايا المتُخيلة التي من خلالها ينظر إلى الآخرين وما يتصل بذلك كما ذكره "أدريان جونستون" (في)  لاكان فلسفته الكاملة المنشورة في موسوعة ستانفورد الفلسفية.

يعلمنا التحليل النفسي أيضًا أن اللاشعور "اللاوعي" هو محك أساس في الحياة النفسية للأسوياء، أو غير الأسوياء وهو ما عبر عنه "جاك لاكان" تحت مسمى " Nemo " ويعني به الذات خارج الذات تلك التي ترسم بناء الحلم بجله فهي خارج الأنا أنها في الذات ولكنها ليست بالذات وليست من الذات هي اللاشعور "اللاوعي" كما أوردته نيفين زيور، والقول الحق أن الأهمية الأساسية لجاك لاكان تكمن في أنه أتجه بالتحليل النفسي إلى وجهته الأساسية حيث اللغة والحاجة إلى علم شمولي ينظر إلى الإنسان في إطار من اللغويات والترميز وحقل الرموز عبر سلسلة الدلالات المكونة له، وقول "لاكان" الدال هو الذي يحدد دور الذات ووظيفتها ومكانها بالنسبة للآخرين وقد وضع أهمية هذا الدال في بنية الإنسان كما أورده في مقاله الشهير "الرسالة المسروقة".

يعلمنا التحليل النفسي بثورة فرويد حينما فجر قنبلة دوت في عالم الوجود الإنساني ليس في خارجه" أعني خارج النفس"  بل في داخله " داخل النفس" وسميت آنذاك بسريالية النفس البشرية،" عالم اللاشعور – اللاوعي"  في عالم غريب ليس عالمنا في الواقع المعاش، أنه عالم مشوه، لا يُدرك، ولا يترك، فإن أُدرك تم تفكيك خباياه بفنيات تخصص بها التحليل النفسي وهي التداعي الحر- الطليق، وإن تُرك عبث وحطم حياة الإنسان من داخلها، يبدو أنه بشع، ويقول "بيير داكو" لايبدو أن ثمة شيئًا يطابق الواقع أكثر من هذا، حيث ملأ الخوف نفوس الناس، بعد أن كشف كنه الإنسان ووجده محيط مترامي الأطراف، مجهول، زاخر بالمغاور اللاشعورية "اللاواعية"..  يعلمنا التحليل النفسي أن صراعات طفولتنا وصدماته الانفعالية تستمر في وجودها خفية، مستترة إلى البلوغ، ويرى فرويد أن الإنسان الذي كان يعتقد بأنه يقهر نفسه ويسيطر عليها ويهتدي في الطريق الذي رسمه له الأخ الكبير أصبح فريسة لوعيه، لأن هذا اللاوعي " اللاشعور" يحدد أكثر أفعاله، وتصرفاته، لا بل يقض مضجعه في الوعي وفي حياته اليومية.

يعلمنا التحليل النفسي مدخل ظل مستورًا محرمًا عبر التاريخ منذ الأزل، فتح لنا أبواب المحارم الخفية والمستورة حيث لا يتحدث الناس عنها إلا بصوت خفيض، وفي الظلمة أكثر مما هو في العلن، هو عالم الجنسية الخفي وَحولهُ  إلى عالم العلم والمعرفة، عالم الواقع العلمي، وضعه على سطح التشريح للنفس البشرية فكشف بحر ذي مياه وسخه، متلاطم الامواج،  ويضيف "داكو" إن المهانة التي أصابت غرور البشرية هي شبيهة بتلك التي أصابته عندما تناهى إلى مسمعهم بأن الأرض ليست مركز الكون. ويجادل التحليل النفسي هذا العالم الخفي من الرغبات في النفس البشرية وهي رغبات متناقضة هي قبول ممن يشابهه في الجنس ويدعوه للممارسه  بفعل جنسي، وهي لا تقل عن فكرة البهيمية  وإن كانت البهيمية هي ممارسة الفعل الجنسي مع بعض الحيوانات، لكنها تتفق في التفسير النفسي فهي مرتبطة أحيانًا بالوسواس، أو مقترنة بانحرافات جنسية أخرى كالسادية والمازوخية كما يراها "بيير داكو". وهناك الكثير مما نعيشه وربما نعاني منه،  نعترف بوجوده فينا،  منها وساوسنا، أو مخاوفنا، أو نوبات الاكتئاب النفسية أو حالات الوهن التي تسببها لنا أفكارنا لشدتها وقوتها وتأثيرها في داخلنا، والكثير الكثير من الحالات النفسية "العصابية" ندركها ونعاني منها ونبحث عمن يساعدنا في التخلص منها بطريقة جذرية، وإقتلاعها من اللاشعور"اللاوعي" الذي ترسخت بين شعابه وربما على سطحه، لم تنغرس بالعمق فيكون التحليل النفسي هو العلاج لها.

وللتحليل النفسي مداخل نفسية لا يدركها الإنسان عدة وهي تثبيت بعض المواقف في الطفولة، تترك أثرًا  في البلوغ أو الرشد ونتساءل دائمًا كيف يحدث تثبيت المواقف الطفلية المؤلمة،  أو غير السارة، وكيف نعود إليها ونحو بالغين؟ هي أسئلة نفسية عميقة، ومعرفتها يمكن الاستدلال له حينما يستطيع الفرد أن يمسك بواحد من العمليات النفسية غير المنظورة ولكن وجودها يفرض نفسه وهو اللاشعور "اللاوعي" وسنحاول في المرات القادمة أن ندخل في هذه العوالم الخفية في النفس البشرية  والتي تتميز بلغة خاصة.   

***

د. اسعد الامارة

 

في المثقف اليوم