أقلام فكرية

هابرماس ومشكلات القانون والخطاب (2-3)

يكمن جزء من الصعوبة في النقاش أعلاه في طبيعة المثالية نفسها. إنها ليست، حتى من حيث المبدأ، وصفًا  قابلة للتحقًيق تجريبيًا لحالة إجماع محتملة، بل هي افتراض على المشاركين في الخطاب تقديمها إذا أرادوا التفكير في أيً إجماع على الأطلاق.[1] قد يكون الحديث عن الإجراءات الديمقراطية بوصفها "تقريب" للإجماع العقلاني مضللاً. ومع ذلك، يبقى هناك جوهرًا صالحًا للأهتمام بشأن الخضوع؛ فيبدو أن الصعوبة الأساسية تكمن في تفسير الشرعية من خلال الإحالة  إلى المثالية الخطابية فقط. إذا كانت هذه تعيًن شرعية إجراء ما وحدها، فإن أي متطلبات مؤسسية تحد من متطلبات الخطاب العقلاني يكون لها دور سلبي يتمثل في تقييد المثل الأعلى أوالنموذج المثالي، فهي تكشف عن عدم قدرتنا على تحقيق خطاب عقلاني بالكامل. إنه من الصعب تجنب نوع من الخضوع في مثل هذا البناء مهما كان دقيقًا. ويثير هذا التساؤول حول ما إذا كان يساهم هذا البعد المؤسسي بشكل إيجابي في الشرعية على وجه التحديد، أي بطريقة لا يمكن تفسيرها بالكامل من ناحية المثالية الخطابية التي تحدد الإجماع العقلاني. إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن نكون قادرين على تحديد مكون للشرعية له علاقة بإضفاء الطابع المؤسسي بطريقة ما على هذا النحو، بطريقة لا يمكن اختزالها في الخطاب. أيً، يجب أن نكون قادرين على التمييز، بالنسبة لإجراءات قانونية  أو سياسية معينة، جانب من الإجراءات لا يزيد من كمية ونوعية الخطاب، ومع ذلك فهو مهم للشرعية. وكما سنرى، فإن ما يسميه هابرماس "الوسيط القانوني" أو "الشكل القانوني" مكافئ تقريبًا لهذا المكون المؤسسي على وجه التحديد.[2]

إنه من المهم أن ينظر هابرماس في ظل هذه الصعوبات إلى المبدأ الديمقراطي بوصفه المصدر المباشر لصنع القرار الشرعي. يفترض هذا المبدأ مسبقًا العقلانية الواردة في الخطاب ويخبرنا كيف نؤسسها بوصفها "رأيًا سياسيًا عقلانيًا وتشكيل للإرادة".[3] وبالتالي فهي تمثل تعريفًا للشرعية يرتكز على كل من المثالية الخطابية والمتطلبات المحددة لإضفاء الطابع المؤسسي القانوني. فينجم المبدأ الديمقراطي عن الجمع بين مبدأ الخطاب والشكل القانوني، على حد تعبير هابرماس. إنه يعرف المبدأ الديمقراطي على النحو التالي:

يجب أن يرسخ مبدأ الديمقراطية إجراءات سن القانون الشرعي. وأن ينص على أن القوانين التي يمكن ان تدعي الشرعية هي فقط تلك التي تحضى بموافقة جميع المواطنين في عملية تشريع خطابية شُكلت بدورها بطريقة قانونية. بعبارة أخرى، يفسر هذا المبدأ المعنى الأدائي ممارسة حرية إرادة مشرعين يعترفون ببعضهم البعض كأعضاء أحرار ومتساوين.[4]

على الرغم من أن هذا التعريف مازال يشير إلى المثل الأعلى الخطابي للإجماع الكامل، وهي نقطة سأعود إليها، إلا أنه يربط  الشرعية بالاعتراف المتبادل بين أشخاص قانونيين أحرار ومتساوين. ولايمكن أختزال  مساهمة الشكل القانوني حول الشرعية في الخطاب فقط. يجب علينا فحص نظام الحقوق الذي يحدد الموضوع القانوني لنرى كيف يلعب الشكل القانوني دورًا إيجابيًا في شرعية القانون.

لايمكن للمبدأ الديمقراطي أن يتخذ شكلًا مؤسسيًا إلا في نظام حقوق إذا أراد المواطنون أن يكونوا مخاطبين ومشرعين لقانون ينظم حياتهم بشكل شرعي معًا.[5] وبشكل أكثر تحديدًا، تطبيق مبدأ الخطاب على الوسيط القانوني على هذا النحو في مجموعة من الحقوق التي تضمن استقلالية المخاطبين من قبل القانون، في حين أن اشتراط أن يكون المرسل لهم أيضًا مؤلفي القانون يولد حقوق المشاركة السياسية وبالتالي الاستقلالية العامة للمواطنين. [6]

يشير هذا إلى أنه يمكننا تحديد مساهمة مؤسسية خاصة للشرعية على مستوى الحريات السلبية التي تحدد الأستقلال الذاتي الخاص،  لأنه هنا يجتمع مبدأ الخطاب والوسط القانوني معًا.  تتضمن استقلالية الفرد ثلاثة فئات أو أنواع من الحقوق حسب هابرماس. الأول هي تلك الحريات السلبية التي تضمن مجالات الفعل الفردي المستقل. الثاني تشمل حقوق العضوية في المجتمع السياسي. والثالث حقوق التقاضي القانونية التي تسمح للأفراد بمقاضاة النوعين الأولين من الحقوق. فيجب على الدولة الدستورية، وفقًا لهابرماس، تفسير وتطوير حقوق وقوانين تقع ضمن هذه الفئات الثلاث. ليست الفئات الثلاث نفسها متطابقة مع أي مجموعة محددة من الحقوق الخاصة؛ فهذه الفئات هي أفكار مجردة تتطلب تطويرًا تاريخيًا وسياسيًا. فعلى سبيل الإيضاح يمكن للمرء ملاحظة أن الحق في الكرامة الشخصية، والحياة، والحرية، والنزاهة الجسدية، وما إلى ذلك، تفسر الفئة الأولى. تشتمل فئة حقوق العضوية مختلف القوانين والحقوق التي تحدد وضع الأعضاء في المجتمع القانوني. يشمل تفسير هابرماس هنا المحظورات ضد تسليم المتهمين، وحقوق اللجوء السياسي، وما إلى ذلك. أخيرًا، تجد الفئة الثالثة تعبيرًا عنها في حقوق الإجراءات القانونية الواجبة مثل: حظر العقوبة بأثر رجعي، وما إلى ذلك.[7]

تُعد مثل هذه الحقوق مركزية في القانون الحديث و مكونة للشكل القانوني. وبهذا الأعتبار فهي تحدد مجالات الفعل التي يمكن للأفراد أن يسعوا فيه بثقة إلى تحقيق غاياتهم الخاصة دون تدخل الآخرين ودون الاضطرار إلى تبرير خياراتهم في خطاب.[8] إذن يكون القانون قادرًا من خلال هذه الحقوق الفردية على تأمين مجالات للفعل يتم فيها إعفاء الأشخاص من الحاجة إلى الوصول إلى إجماع أو توافق في الآراء من خلال الخطاب: لا تتطلب التسوية أو التنسيق القائم على القانون سوى الامتثال الخارجي على عكس أشكال التسوية أو التنسيق الاجتماعي التي تتطلب من المشاركين التوصل إلى اتفاق بناءً على رؤية كل منهم. وبهذا المعنى، ليس الحقوق الفردية مجرد وسائل للخطاب ولكن لها وظيفة تتعلق بالشرعية فيما تضمن من مساواة في الحريات الفردية للمواطنين، رغم انهذه المساواة ليست سمة ضرورية للشكل القانوني نفسه. فوفقا لهابرماس، يمكن للمرء من خلال إدخال مبدأ الخطاب فقط أن يثبت أن لكل شخص الحق في حريات متساوية".[9] لذلك إذا كنا نتطلع إلى مثل هذه الحقوق من أجل الجانب المؤسسي المحدد للشرعية  فلن نجدها بمعزل عن الخطاب - حتى لو كانت الحقوق التي تحدد الاستقلال الذاتي هي نفسها ليست قابلة للاختزال في خطاب ولا مجرد أدوات من أجل خطاب.

حجة هابرماس هنا هي: إذا أريد مأسسة الخطاب، فيجب أن يتخذ الشكل القانوني بنية محددة  قبل بداية أي خطابات سياسية- قانونية. بمعنى، يجب تعريف الأشخاص القانونيين بوصفهم أعضاء أحرار ومتساوون في المجتمع القانوني. لأن الخطاب يفترض مسبقًا أن المشاركين فيه هم أفراد مستقلون، وفقط مدونة قانونية منظمة من حيث الحقوق الفردية  ما يضمن مثل هذا الاستقلالية  والتي يمكن أن تحدد مسبقًا حتى المشاركين المحتملين للخطابات االموجودة بالفعل، حيث يتم تعريف المشاركة من حيث حقوق التصويت، والتمثيل، وما إلى ذلك. وكما يرى هابرماس، ينطوي وضع مجموعة القوانين على هذا النحو على حقوق الحرية التي تولد وضع الأشخاص القانوني وتضمن سلامتهم. وإن هذه الحقوق هي شرط تمكين ضرورية لممارسة الاستقلال السياسي. وبالتالي، فإن محاولة إضفاء الطابع المؤسسي على الخطاب تضع قيودًا على الوسيط القانوني الذي يمكن أن تقوم فيه مثل هذه المؤسسات، وهذه القيود موجودة في الأنواع الثلاثة للحقوق التي تؤسس الاستقلال الذاتي.[10]

ما يهمني هنا ليس كيف يمكن للمرء أن يدافع عن الادعاء بأن الاستقلال الشخصي الخاص هو شرط مسبق ضروري للديمقراطية التداولية.[11] ولكن مهتم في المقام الأول بكيفية فهم هابرماس للمساهمة التي تقدمها حقوق الحرية هذه في إضفاء الشرعية على العملية الديمقراطية. إنه يؤكد، حتى لو لم يستمد الحريات السلبية من المثل الخطابية مباشرة، فأن الخصائص الشرعية لهذه الحقوق تنبع من علاقتها غير المباشرة بالخطاب. وعلى وجه التحديد، تنشئ الحقوق التي الاستقلال الشخصي الخاص لها دور في الشرعية الديمقراطية عندما تكون مرتبطة بالخطاب السياسي فقط. يمكن للأشخاص القانونيين تفسير حقوقهم المدنية وتوضيحها بشكل تلقائي، وبالتالي يصبحون مشرعين للقانون وموجهين له بموجب حقوق المشاركة السياسية فقط، التي تمكّن المواطنين المستقلين من الانخراط في الاستقلال الذاتي الجماعي.[12]

وهذا يعني، باختصار، أن الاستقلال الشخصي الخاص والعام يفترض كل منهما الآخر في تفسير الشرعية.[13] ومن هنا يلعب الشكل القانوني في الشكل المحدد للحرية الفردية المتساوية دورًا إيجابيًا في الشرعية الديمقراطية. ومع ذلك، فإنه يكشف، في اتحاد مبدأ الخطاب والشكل القانوني، أن الأخير هو الذي يتأثر حقًا- أيً أنه مجبر على تبني شكل معين. من ناحية أخرى، يندمج مبدأ الخطاب مع المبدأ الديمقراطي دون تغيير، طالما أن شرط الإجماع يظل كما هو في المبدأ الديمقراطي. قد يبدو هذا غريب الى حد ما، بالنظر إلى أن صنع القرار الديمقراطي يتم تعريفه عادةً من حيث حكم الأغلبية بدلاً من الإجماع. وهكذا يلعب مبدأ الخطاب الدور المهيمن في تفسير الشرعية، مما يشير إلى أن دافع الخضوع مايزال قائمًا في وصف هابرماس للحقوق على الرغم من الدور الإيجابي الذي يلعبه الشكل القانوني. على الرغم من أن هابرماس لا يتبع تفسير كانط الأخلاقي للحريات المتساوية،[14] إلا أنه يفسر الحريات فيما يتعلق بإضفاء الطابع المؤسساتي على خطاب يقيس نجاحه مقابل إجماع مثالي من حيث استمرار الخضوع لهذا المعيار المطلوب في المبدأ الديمقراطي.[15]

لا ينطوي إخضاع القانون للخطاب المثالي على دلالات إشكالية تثقل كاهل نظرية كانط القانونية. لذلك حضورها عند هابرماس مفهوم لأنه يريد التأكيد على ضرورة الخطاب من أجل تشريع شرعي في المقام الأول.[16] إذا كان القانون والسياسة  تتمثل في مؤوسسات صنع القرار أولاً وقبل كل شيء ، فإن المداولات والخطاب يمثلان بُعدًا واحدًا فقط. فإلى جانب الحاجة إلى تحويل مبدأ الخطاب إلى قانون، على المرء أن يطرح قرارات عادلة وملزمة في الخطاب أيضًا. فلا يمكن للمبدأ الديمقراطي، مع شرط الإجماع، أن يخبرنا كيف نقرر القضايا المتنازع عليها. وبالتالي، هناك مستوى من المأسسة لا يصل إليه المبدأ الديمقراطي. وبشكل أكثر تحديدًا، ساشير  في القسم الأخير الى أن اعتبارات الإنصاف المعمول بها على مستوى اتخاذ القرار هذا لا يتم استيعابها بالكامل من خلال نموذج التبرير المحايد.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] Habermas, Jürgen, supra note I, at 323:

أنظر ايضا:

Habermas, JUSTIFICATION AND APPLICATION: REMARKS ON DISCOURSE: ETHICS 54-57 (Ciaran Cronin trans., 199 3).

[2] أنظر: هابرماس، المصدر نفسه ، 113-18

حول تفسير هابرماس الاجتماعي للشكل القانوني ؛ أنظر أيضا المصدر نفسه. 178 – 79

ولتجنب مصدر ارتباك محتمل ، لاحظ أن هابرماس أسقط التمييز السابق مكررًا بين "القانون كمؤسسة" و "القانون كوسيط". انظر: 561  .48.

[3] هابرماس، المصدرنفسه: 110

[4] هابرماس، , المصدر نفسه ،110

[5]. هابرماس, المصدر نفسه:, 110

[6]، هابرماس، المصدر نفسه:,  118

[7]- هابرماسن المصدر نفسه:, 26

[8] هابرماسن المصدر نفسه، 115-19.

[9] هابرماس، المصدر نفسه   ، 123 .

[10] هابرماس، المصدر نفسه، . 128

لاحظ أن هابرماس لم يضع سلطة الدولة في الصورة بعد ؛ على الرغم من أن النظام القانوني لا يمكنه تثبيت نفسه دون دعم سلطة الدولة القسرية.

[11]   : لمزيد من المناقشة أو العلاقة بين الحرية السلبية والعملية الديمقراطية ، انظر

Albrecht Wellmer, Models of Freedom in the Modern World, 21 PHL F. 227 (1989-90).

[12] هابرماس، المصدر نفسه  126-27.

[13] هابرماس، المصدر نفسه، 408 .

[14] هابرماس، المصدر نفسه   ،105-06 .

[15] للحصول على نقد لنماذج الاجماع  بشأن الشرعية أنظر:

Bernard Manin, On Legitimacy and Political deliberation, 15 PoL. THEORY 338 (Elly Stein & Jane Mansbridge trans., 1987).

[16] هابرماسن المصدر نفس 304 .

في المثقف اليوم