أقلام فكرية

تشتت الهوية الاجتماعية

حفلات التخرج الجامعي في المجتمع المحافظ أنموذجا

عادة ما تصاب السلوكيات الاجتماعية بالتذبذب، نتيجة لتغير الظروف والفواعل المكونة لها، وغالبا ما يكون الصراع النخبوي في تحليل هذه الظاهرة الاجتماعية منبثقا من ارتكازين متنافرين: ارتكاز المبادئ الأخلاقية الثابتة (أو ما يسميها بعض المفكرين بــ: الخالدة)، وهي المبادئ الأخلاقية التي تقوم على أسس ثابتة، كالأسس الدينية السماوية، والتي تكون صالحة في كل زمان ومكان، وتحدد تعريف الإنسان الصالح.

 والضد منها: إرتكاز مبادئ التحرر والانفتاح القائم في أسسه التاريخية على مبادئ التنوير التي انبثقت في الغرب في القرن الثامن عشر وما بعده، والذي يرتكز على مفهوم المركزية التامة للإنسان الفرد القادر على التحليل والإدراك والفعل. هذا ويرى أصحاب هذا الارتكاز بأن هذه المركزية تتألف من جوهر داخلي نشأ بالأساس مع ولادة الإنسان ثم تطور معه تدريجيا. وطوال وجود الفرد بقي هذا المركز الأساسي للذات هو ذاته بشكل مستمر ويشكل الهوية الفردية. !

تعتبر السلوكيات الاجتماعية بشكل عام، عاملا من عوامل انجذاب الفرد نحو هوية اجتماعية تشكل وتحدد ملامح شخصيته وكينونته، وتؤطر لديه كل فواعل الانفعالات، بالإضافة إلى مساهمتها في التكوين لِلّغة الاجتماعية التي تميز مجتمع معين عن غيره.

وعلى الرغم من الزخم الكبير، والتعقيد الكبير لنمط العلاقات بين الأفراد في المجتمعات الحديثة التي حاولت العولمة فيها أن تخلق نمطا اجتماعيا موحدا، تُذاب فيه كل الفواعل الرئيسية للهويات العامة والهويات الفرعية التي كانت تتميز بها المجتمعات البشرية سواء على صعيد الدين أو الأخلاق او العرف القيمي أو القانوني، إلا أن الجذور الفطرية عند الإنسان والتي تدفعه بغريزة كبيرة في محاولة منه للانتماء إلى مجموعة بشرية، تبرز فيها ملامح هويته الاجتماعية، محاولا الحفاظ على وجوده وكيانه الاجتماعي من خلال هذا الانتماء وهذه الهوية، خاصة بعد أن أصبح المواطن الفرد جزءا ضئيلا ضمن الماكنة البيروقراطية والإدارية للدولة والمجتمعات الحديثة. !

الفرد لم يعد شيئا متميزا ومنفصلا عن منظومة الاجتماع العولمي والتكنولوجي التواصلي المعاصر، بل إن العلاقات بين الأفراد والمجتمع تدخلت فيها المعتقدات الجماعية وعمليات الجماعات. فمثلا هوية الفرد كانت مرتبطة بعضويته في طبقة اجتماعية معينة أو بمهنة محددة أو بأصوله ضمن دين معين أو قومية وما شابه، بينما تعدد الهويات اليوم قد قاد إلى نشوء مصادر للسلوك الاجتماعي الذي يكون بأغلبه متنافر ومنحرف، عن القيم الاجتماعية والدينية التي تمثلها هوية المجتمع المحافظ. !

تعرف الهوية: Identity  بأنها : مقدار ما يحققه الفرد من الوعي بالذات والتفرد والاسـتقلالية، وأنه ذو كيان متميز عن الآخرين، والإحـساس بالتكامـل الـداخلي والتماثـل والاستمرارية عبر الزمن، والتمسك بالمثاليـات والقـيم الـسائدة فـي ثقافتـه.

بينما تعرف الهوية الاجتماعية identity-Socio بأنها جزء من مفهوم الذات لدى الفرد، يـشتق مـن معرفته بعضويته في الجماعة واكتسابه المعاني القيمية والوجدانية المتعلقة بهـذه العضوية.

ومن هذا المنطلق، نجد أن مخالفة الأسس القيمية والأخلاقية للمجتمع المتدين، كالمجتمع العراقي، من خلال ظهور ممارسات منحرفة كالتي تكون مصاحبة للسلوكيات الشبابية في ما تسمى بحفلات التخرج، إنما تمثل بذاتها عملية تهديم لهوية اجتماعية ينضوي تحت عناوينها الرئيسية والفرعية هؤلاء الشباب، لأن امتلاك الأفراد لهوية معينة، إنما يمثل قيم ومبادئ معينة تصاحب تلك الهوية، فهي تسمح لسلوك الأفراد ليكون متشابها مع الآخرين وكذلك تجعل السلوك في المجتمع أكثر نمطية وانتظاما، وعملية ضرب هذا الانتظام داخل البنية الاجتماعية الشبابية الجامعية، إنما يمثل عملية تخريب متعمدة لنسق الاستقرار الأخلاقي والقيمي السلوكي في المجتمع.

يرى الباحثين في الشأن الاجتماعي بأن الهوية الاجتماعية لدى الأفراد تنمو وفق مراحل متتابعة يواجه الفرد في كل منها (أزمة) معينة، ويتحدد مسار نمـوه تبعـاً لطبيعة حلها إيجاباً أو سلباً متأثراً بعدة عوامل بيولوجية واجتماعية وثقافيـة، ويـشير بعضهم إلى أن تقاطع العوامل البيولوجية والاجتماعية تجعل الهوية الاجتماعية لدى الفرد إمـا فـي حالة: -الإنجاز أو -التعليق أو -الانغلاق أو -التشتت.

ما يهمنا هنا هو نوع الهوية المشتتة، حيث يمر الفرد بأزمة هوية حادة، تجعله يحس بحالة عميقة من الاضطراب الانفعالي والسلوكي، وحالة تذبذب ونفور عن التعهدات العقدية الاجتماعية والأخلاقية التي تربطه مع منظومته الاجتماعية، من خلال تفاعله مع ناظم المعتقدات أو الأدوار الاجتماعية التي تخلق سياقا خاصا للأفراد في المجتمع، حيث يقود كل ذلك إلى افتقادهم لأية دلائل تقود إلى نشاط شخصي يمثل سمة الهوية الاجتماعية لديهم.

ومن هنا، فعندما نريد تقييم الحالة التي يمر بها الطالب الجامعي وهو يقوم بممارسات وسلوكيات وأفعال، تخلق قطيعة كبيرة بينه وبين الناظم الاجتماعي الذي ينتمي له هوياتيا، إنما نحن نتلمس حالة من التشتت والقطيعة مع الفعل الاجتماعي الذي يمنحه دورا اجتماعيا يمكنه من الالتحاق بالنسق الاجتماعي مستقبلا، بكل فواعله ومؤثراته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، كل ذلك يدل دلالة واضحة على دور التشتت الذي يقع فيه هذا الأنموذج من الطلبة في لحظة إحساسهم بانعتاق عن هويتهم الاجتماعية والأخلاقية التي تبتني عليها شخصياتهم.

وهنا يرى بعض الباحثين، بأن الاختلاف والتناقض في سلوكيات الفرد، عن ناظم الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها في لحظة معينة، إنما يشكل محاولة كسر أخلاقي، مما يقود لنشوء فواعل قد تتطور في المستقبل لتشكل أزمة أخلاقية.

تعتبر فترة المراهقة وبدايات النضوج لدى الشباب من كلا الجنسين، فترة تحول سياقي عصيب، فهي مرحلة تتميز بأزمات عاصفة تمثل قطيعة كبير مع هوياتهم الاجتماعية التي نشئوا معها وعليها، فأزمة الأخلاق أو التطرف في فترة المراهقة وبدايات الانتقال من المراهقة إلى النضج الرجالي، تمثل تعقيدا تكوينيا إن لم يتم التعاطي معه بانضباط وحزم، قد يقود على حصول تذبذب في مفهوم الهوية الاجتماعية لدى هذه الطبقة، مما يقود إلى ارتباك انفعالي كبير عندهم في خلق التصورات والتفاعلات السلوكية التي تتواءم مع مفهوم الجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، والتي تشكل هويتهم الاجتماعية.

في الحالة الطبيعة، من المفترض أن يقود الناظم الأخلاقي والاجتماعي الأفراد الذين يمرون بحالة المراهقة إلى تكوين شخصياتهم والأنا المكونة لهذه الشخصيات، بطريقة تنساب بسهولة مع الناظم الأخلاقي المجتمعي، كل ذلك لإعادة خلق وتجديد الهوية الاجتماعية للأفراد الجدد، خاصة وأن النفس البشرية تتوق عادة إلى تكوين صورة إيجابية عن الجماعات التي ينتمون إليها، ونتيجة لذلك فإن عمليات الهوية الاجتماعية تنحو بهم إلى البحث عن السمات والاتجاهات والسلوكيات المقدرة، والقيمة التي يمكن أن ينظر إليها كخاصية تميز جماعاتهم عن الجماعات الأخرى.

 لذا ارتبط مفهوم الأسس الأولى في تكوين وتَشَكّل الهوية، بشكل كبير بمرحلة المراهقة وما يليها، حيث تعد فترة المراهقة نقلة نوعية للمراهق في المستوى التعليمي وتطور مهاراتـه الاجتماعيـة وقدراته العقلية والجسمية، ويعتبرها علماء النفس الاجتماعي مرحلة التعليـق الـسيكولوجي الاجتمـاعي للهوية، حيث تناضل الأنا في التفاعل مع الأدوار المعروضـة فـي المجتمـع، وإن كـل المراهقين يتوقعوا أن يختبروا بعضاً من هذه الأزمـة، لأن أزمة الهوية هي مرحلة نمائية، والقدرة على تحقيق متطلباتهـا بنجـاح يـرتبط بطبيعة نماذج الضبط والكبح الاجتماعي في صعيده القيمي الأخلاقي، أو في تمظهراته السلوكية في مؤسساتها ما قبل الجامعية (الأسرة، المدرسة، المؤسسة الدينية).

تعتبر حفلات التخرج التي يقيمها الطلبة كل عام بعد وصولهم إلى نهاية الدراسة الأولية في الكلية، عرفا عاما اتبعته الحالة الأكاديمية خلال تاريخها العام؛ وعندما نتحدث عن الحالة الأكاديمية، وما يصدر من تحت ردائها ومؤسساتها من فعاليات ونشاطات، إنما نتحدث عن حالة مؤسسية تكون فيها حالة انضباط عالي وتقيد بقوانين وتعليمات وضوابط وقيم وأعراف وأخلاقيات مجتمعية ودينية، تكوّن بمجموعها روافد مهمة في تشكيل عوالم شخصية الأفراد، وتساهم برفدهم بعوامل وظروف تكوين جزء من هويتهم الاجتماعية التي من خلالها يحصلون على ادوارهم في المجتمع.

وبما ان حالة الانضباط القانوني والقيمي والأخلاقي في العراق، تمر في تمظهراتها السلطوية (الحكومية)، والاجتماعية العرفية في السنين الأخيرة، بأعراض بدايات الأزمة، خاصة بعد التناحر الفكري والأخلاقي بين نخب جامعية وأكاديمية مؤثرة، جزء منها يدعو إلى التماثل مع توجه البشرية العام المعاصر، حيث تعيش اليوم تنوعا متخالفا في طبيعة القضايا الفكرية التي تتبناها حول نوع الإنسان الذي يـستطيع مواكبـة المتطلبـات المتجددة، مما يؤدي في نظرهم إلى تغاير في أنظمة التنشئة الاجتماعية والأخلاقية وطبيعة جهودها، وبالتالي فهم يصلون إلى نتيجة مفادها: أن الوضع الاجتماعي بحاجة إلى مرونة كبيرة من اجل استقبال وتقبل هذا التغيير، كما يَدَّعون.

هذا التوجه مع الأسف سيقود من وجهة نظر الباحث إلى التأسيس لقواعـد مضطربة في تكوين الشخصية عند طلاب الجامعات، وإلى طول فترة إنجاز الهوية الاجتماعية، أو الفشل فـي إنجـاز العديد من مجالاتها.! لذا يعد هذا الفريق من النخب الأكاديمية والفكرية والاجتماعية، التي تدعو إلى إطلاق الحريات، سببا مهما من أسباب خلق التسيب وحالات الاستهتار وتشتت الشخصية الاجتماعية لدى الكثير من الطلبة في الجامعات، مما يؤسس لشرخ عميق وتكسر كبير في مفهوم الهوية الاجتماعية عندهم.

الطرف أو وجهة النظر الأخرى، ترى بأن حفلات التخرج الجامعية، هي حفلات يقوم بها الطلبة الشباب من أجل توديع الحياة والجهد والمثابرة العلمية والتحصيل العلمي الذي جمعهم بعلاقة أساسها تبادل وبناء المعارف العلمية، فقيام حفلات يتم فيها حسر مفاهيم القيم والمبادئ بالاتجاهات والسلوكيات والمظاهر الشاذة والدخيلة على مجتمعنا العربي والإسلامي بكل ميراثه وارثه الحضاري والتاريخي بهذا التدني والإساءة لكل المفاهيم والقيم والمفردات التربوية والإسلامية والأخلاقية، هو أمر مرفوض عندهم، ويقود إلى تخريب الهوية الاجتماعية التي تجمع كل التنوع بين أبناء هذا البلد، بل ويعتبر صورة واضحة لعملية حرف مسارات نهاية فترة المراهقة لدى هؤلاء الشباب، وبالتالي إبعادهم عن كامل المنظومة الأخلاقية والدينية الاجتماعية لمجتمعهم.

وبما ان الحيز الديني له حضوره المكثف في ظاهرة تكوين الشخصية لدى الأفراد في هذا البلد، وتنشئة الهوية الاجتماعية السليمة سلوكيا وفكريا وعقائديا، فقد كانت وجهة نظر الدين رافضة ومستهجنة بشدة للممارسات المخلة بالآداب العامة التي تحصل في مثل هذا النوع من الاحتفاليات، وخاصة بتصريح المرجعية الشريفة في توصيف هذه الحفلات " "لما يجري فيها من تصرفات وسلوكيات غير لائقة".

تعتبر المؤسسة الجامعية هي الحلقة التربوية المكملة لنشاط التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والدينية الصانعة للهوية الاجتماعية للشباب والمراهقين، والتي تقوم بها مؤسسات أولية قبلها، وأقصد بها مؤسسة الأسرة، ومؤسسة المدرسة، إضافة للمؤسسة الدينية، والتي تتمظهر في الكثير من فعاليات والشعائر الدينية، والتي تساهم بشكل فعال في الحفاظ على الهوية الدينية للمجتمع وأفراده، فتهاون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بفروعها من الكليات والجامعات، في السماح بإقامة حفلات تخرج، أبسط ما يقال عنها بوصفها بأنها مبتذلة وتفتقر لأخلاقيات الهوية الاجتماعية العراقية القائمة على أخلاق ومُثُل تميز بها المجتمع العراقي، تمثل بحد ذاتها تحولا سلبيا في سياسات هذه الوزارة بفروعها واذرعها التعليمية والتربوية، وتحولها إلى آلة تخريب للأخلاق العامة، وتغييب تدريجي وتشويه متعمد للهوية الاجتماعية الجامعة للأفراد في نسيجهم الاجتماعي.

فالمؤسسات الجامعية اليوم بأغلبها باتت غير مدركة لفداحة المشكلة التي كانوا هم جزءا من التأسيس أو التماهي معها، فعلى الرغم من أن نوعية الارتباط بين المتغيرات النفسية والفيزيولوجية هو العامل الأساس في خلق الإحساس بالأنا الاجتماعية عند الشباب الجامعي الذي يمر بنهايات فترة المراهقة وتشكل الشخصية، والذي من المفترض أن يقود إلى التطـور الإيجـابي للهوية وتشكيلها بشكل سوي، إلا أن ما يحصل في الجامعات في هذه الممارسات الهجينة يمثل اضطرابا وتشويشا في مكامن الشخصية عند الطلبة والطالبات، واضطراب وتذبذب في عوامل تشكل الهوية الاجتماعية السوية، مما ينتج عنـه تبنـي هويات سلبية ضارة بالفرد والمجتمع، والشعور بالاغتراب وعدم الانتماء والذي ينعكس سلباً في أداء الفرد نحو التزاماته المجتمعية البناءة.

***

د. محمد أبو النواعير

دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.

 

في المثقف اليوم