أقلام فكرية

تأملات في فلسفة التاريخ (1)

لا نفهم ذاتنا الجمعية فهما حقيقيا مطابقا دون وعي تاريخي. فمثلا عندما أقول أننا مازلنا نفتقر إلي رؤية واضحة فيما يتعلق بفلسفة التاريخ المعبرة عن مرحلتنا التاريخية المشخصة. فلا أقصد بذلك المواجهة الفلسفية مع بدايات التاريخ، ولكن بالأحرى المعالجة العقلية والروحية العامة للأحداث التاريخية المشخصة. أننا نحتاج الى فلسفة للتاريخ تنتمي إلى مجال الوعي التاريخي.

ويشير مصطلح فلسفة التاريخ ابتداءً الى مقاربة "واعية تاريخيًا" للظروف المعيشية للناس تتجاوز مجرد سرد  الوقائع والأحداث في زمانها ومكانها. فتعني فلسفة التاريخ في إطار هذا التصور العام الملاحظة "الفلسفية" للأحداث أو المجريات التاريخية.  كما أنها تمثل الاعتبارات التأملية التي تبدأ من لفت الانتباه إلى الأحداث الجارية وتتابعها في كل الحقول الرئيسة: السياسية، والأنثروبولوجية، والنفسية، والأخلاقية، والاجتماعية، أو الجمالية وغيرها.

بقدر ما تذكر وتفسر فلسفة تاريخ أشياء عامة وأساسية من حياة الإنسان في مجالات التجربة الإنسانية. فأنها أيضا تعمل علي مخاطبة ما نطلق عليه الوعي التاريخي المقترن بالوجود البشري والمرتبط بالحاجة البشرية العميقة الجذور والتي تتمثل في الحاجة إلى التعلم بطريقة ما من التاريخ.   

ويمكن الإجابة عن السؤال حول ماهية فلسفة التاريخ بوصفه جهدًا فلسفيًا لا يهتم أساسًا بمحتوى حوادث وقصص التاريخ، ولكن بشكلها وحدودها. فعندما نجد محاولات في عالم  الفكر نماذج نظرية أو أجزاء من مثل هذه النماذج، أو حتى مجرد مخططات وصور وصفية تتناول أفكار عامة حول التاريخ، أو بنيته، أو ما هو هذا التاريخ فعليًا فهذا له علاقة بفلسفة التاريخ. كان الحكم الأساس الذي أتخذه مفكرو العلوم الإنسانية والدراسات  الثقافية الأوائل، هو تمييز التاريخ كنوع مستقل حيث الموضوعية التجريبية والأشياء الطبيعية وبالتالي معارض لمنهج العلوم الطبيعية بأسلوبه التاريخي الخاص، وهذا الحكم ما نسميه فلسفة التاريخ. فكل المصطلحات التي نعبر بها عن تاريخية الوجود الإنساني لا يمكن فهمها أساسًا إلا في ظل ظروف الإطار التاريخي الفلسفي. وعلى اساس هذا الأعتبار يتم النظر الى مصطلحات "الماضي" و"الحاضر" و"المستقبل" بالإضافة إلى جميع نماذج العلاقات المتبادلة.

لذلك لا يمكن أن يوجد فهم أولي عام لمفهوم فلسفة التاريخ إلا إذا نظرنا أولاً في كيفية استعمال هذا المفهوم المعني وفي أي سياقات تم استعماله. عندما نطرح أسئلة مثل :"كيف وأين ولماذا  ندخل عندئذ في فلسفة التاريخ  التي تختلف عن الاعتبارات المنهجية مثل: "ما هو التاريخ؟ ما هي الفلسفة؟"

نفترض أن فلسفة التاريخ يجب أن تُفهم كنوع من الفلسفة. وتعمل كموضوع مفاهيمي يُسند إليه التاريخ. لذلك فلسفة التاريخ هي نوع من الفلسفة التي لها علاقة بالتاريخ. وهكذا يكون موضوع  البحث في فلسفة التاريخ عن البحث في تاريخ الفلسفة. فتاريخ الفلسفة علم تاريخي مساعد للفلسفة. إنه  نوع من التأريخ موضوعه تطور الفكر الفلسفي. لذلك فإن مؤرخ الفلسفة هو مؤرخ يتعامل مع الفلسفة.

يبرز جانبان في الإطار النظري للفلسفة بخصوص مفهوم فلسفة التاريخ. يمكن فهم فلسفة التاريخ بأنها كل محاولات الفكر النظرية لتبرير سياق  كلي عالمي لمعنى عالم الحياة البشرية على أساس مبدأ تاريخي. وتفترض نظريات من هذا النوع أنه يمكن للمرء أن يكتسب منظور لطبيعة وأصل وهدف ومسار سيرورة التاريخ الشاملة.  تسمى فلسفات التاريخ هذه بالجوهرية أو التأملية لأنها تدلي ببيانات أساسية حول التاريخ، وتقدم مفاهيم كلية شاملة عالمية لمخطط مسار التاريخ من خلال التفكير الخالص الميتافيزيقي أو المادي، وكذلك لأنها تطور أفكارًا حول بنية ومسار الأحداث التاريخية التي يتم تحديدها ليس فقط من حيث الشكل، ولكن من حيث المحتوى أيضًا، وقبول التاريخ بأكمله كما هو معطى.

إذا فكرت الفلسفة تاريخيا؛ عندما تفهم موضوعها سواء كان فعلا او معرفة بشرية، وسواء كان ذلك يتعلق بالدين أو الطبيعة البشرية كموضوع تاريخي، وسواء كان ذلك دين الإنسان أو جوهره، ككائن تاريخي؛ إذا كان يبرر*الشئ من * تطوره التاريخي ويستمد تكهنات حول المسار المستقبلي لهذا التطور؛ وإذا كان يعطي تاريخ لمعنى مبدأ أو الفهم للشئ الذي تم فحصه، فيمكننا أن نقول، هذه هي "فلسفة التاريخ المادية". وهذا بمعني عام ومنهجي حول سمة أساسية للتفكير الفلسفي في التاريخ. وبهذا المعنى العام، ليس هناك فلسفة تاريخ ولا نظريات  فيها لاترتبط  بحقب تاريخية معينة.

توجد فلسفات التاريخ من هذا النوع، بمجرد أن يعتقد الناس أن الفرد، ذات فريدة من نوعها ومحدودة في هذا الوجود وكمشكلة نظرية عامة، وموضوعية، ويتعرف الإنسان على نفسه على أنه "كائن عقلاني محدود" ويدرك أنه "غاية العقل"، حيث لم يعد من الممكن قبول أن تاريخية العلاقة الإنسانية بالعالم اعتباطية ومجرد صدفة باهتة أو تعسف ديني او غير عقلانية.

لم ير الإنسان نفسه على أنه مخلوق من بين المخلوقات الأخرى فقط، ولكن كفرد مفكر موجود في المكان والزمان أيضًا، والذي يختبر هذا الوجود المحدود باعتباره تاريخيًا. إن الفكر البشري بطبيعة الحال هو منطقي - عقلاني بقدر ما هو تاريخي. إنه ضروري أو تاريخي في الأصل بقدر ما يحدد بشكل منهجي الفرد في المكان والزمان من خلال تخصيص مكان ذي مغزى له في سياق ما يسمى بالسياق السردي.

التفكير التاريخي بهذا المعنى الواسع هو محاولة معقدة مطلوبة لإعطاء الفوضى التي لا معنى لها لـ "الكفاح والسعي" البشري معنى، وعقلانية للمصير. الفكرة التاريخية الفلسفية لوحدة التاريخ الكوني هي مبدأ هذه المحاولة.

تحاول فلسفة التاريخ أن تفسر نظريًا ظروف وجودنا المكاني الزماني، والذي لا يتوفر لنا دائمًا بشكل عقلاني لخضوعه للاحتمالات والصدف، بمساعدة نمط عقلانيتها الخاصة، أي عقلانية أو منطق التاريخ الذي يُفهم على انه الركيزة التي تشمل كل من التفكير والوجود على قدم المساواة. تحلل فلسفة التاريخ عالم الأحداث والمجريات في التاريخ أو من خلال صوًغ نمذجة لها. وتدعي أنها  قادرة على تحديد شروط إطار معياري (أي تاريخي) لكل ما هو حقيقي.  تستند عقلانية النماذج الفلسفية التاريخية دائمًا إلى فهم التاريخ باعتباره عملية كونية شاملة يحكمها قانون (لا يوجد لها خارج) بحيث لا يمكن تحديد موقع الوجود العرضي للفرد البشري بدقة، ولكن أيضًا- يمكن اشتقاق البيانات المعيارية المؤسسة من التحديد المستقبلي لجميع الأفعال البشرية. يتعلق الأمر دائمًا بالكائن البشري كنوع، والشعوب والأمم، وليس بمصير الفرد.

يمكننا أيضًا أن نسمي هذا الفهم الفلسفي العام ولكن غير التاريخي أو المنهجي لفلسفة التاريخ بأنه ضروري إذا أصبحنا مدركين لبنية الفكر الذي يقوم عليه وحاولنا تحديد مكانه ضمن المبادئ العامة للفكر.إن فلسفة التاريخ شكلا من التفكير الذي يحدد ويقدم تصور خاضع لمبدأ أعلى هو العقلانية.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم