أقلام فكرية

من القيم الفقهية إلى الفقه القيمي

النقلة والتحول في العنوان أعلاه قد يكون قاسيا في رؤية بعض الدارسين والمتابعين، وربما يفهم منه ما يزيد عليه من دلالات..، لكن النقلة والتحول اللذان يختزلهما العنوان أعلاه لا يعني بالضرورة نحوا من الإعمام والاسقاط على جل عملية الاستنباط المعهودة في بيئات علم الفقه.

ويمكن تصور تلك النقلة (من-إلى) عبر ملاحظة العامل المركزي في التفكير الفقهي إزاء القضايا الهامة التي تواجه الفقه بنحو عام، فكل عملية ذهنية حول أي نص يمكن أن تتمركز حول عامل أساس يحدد طبيعتها ويرسم ملامح هويتها، وعند التساؤل عما إذا كانت ثمة هوية للممارسة الذهنية للفقيه، فالإجابة أيضا سوف تكون ضرباً من تخيلات وأوهام في نظر بعض الدراسين، لكن ذلك المتخيل أمر راسخ لدى من يحلل بعمق أية ظاهرة علمية..

لذا تتحدد هوية كل علم تبعاً لمقاصده وأهدافه وغاياته..، فالعلم الديني لا يمكن أن تصنف غايته في مجالها الأخروي، بعدما يسلم كثير من العلماء بأن علم الفقه غايته تنظيم حياة الإنسان، بما يضمن غايات الدين التي تغطي العالمين (الدنيا والآخرة)، وعوداً على النقلة من قيم الفقه إلى الفقه القيمي، لابد من تبيان (قيم الفقه) وما المراد منها، وليس المراد المعنى الفعلي للقيم بقدر ما يراد منه معنى تسامحياً يحيل إلى الأدوات الثابتة التي يتحرك بها العقل الفقهي، بنحو من المنهجية الصارمة والقواعد الثابتة التي لا تتغير في الغالب، وهذا ما يشير إلى مركزية القاعدة دون الهدف، ومركزية القالب دون المحتوى، وفاعلية الأداة والصنعة دون النتيجة والغاية، القاعدة أداة ينبغي أن يحركها الهدف، وتكون في خدمة الهدف، أما أن يكون الهدف خاضعا لمقتضيات بعض الأدوات فهو ضرب من المبالغة في حفظ الأداة ولو على حساب ما ينتج عنها من صناعة..

وهذه المعاني تستدعي مراجعات دقيقة في دراسات الاستدلال الفقهي من خلال مراجعة مآلات ونهايات البحث الفقهي في المسائل والقضايا المختلفة، وليس المراد مسخ العملية بقدر ما هو توجيه لمسارتها وإعادة النظر في المحور التي تدور حوله، وربما تضغط قيمة النص كمحدد أساس لجل العملية الاستنباطية، لكن الأدوات والقواعد لا تأخذ صفة النص من حيث قدسيته وإطلاقه، بل تخضع لدلالته المركزية التي تعد أعم من بقية الدلالات سواء (الإجمال أو العموم أو الإطلاق)، بل جميع تلك الثلاثة تؤسس للمعنى الكلي، الذي يدركه الذهن بنحو غير قابل للتفسير دوماً، ويمكن أن تفسر بنحو من (الارتكاز الذهني، أو الراسخ في وجدان العقلاء بما هم عقلاء)..

إن توجيه الاستدلال الفقهي نحو (القيم) من جهة، و(الواقع) من جهة أخرى، يحتاج إلى منطق تفكير مختلف عن المنطق الأرسطي الذي ينشئ استدلالا جامدا بلا روح، فالمنحى الصوري لا يغطي متطلبات الواقع من جهة، ولا متطلبات القيم من جهة أخرى، وسلامة الاستدلال شكليا لا يضمن سلامة النتيجة وما يؤول إليه البحث من ظواهر عملية، ذلك أن منطق الاستدلال الفقهي يكاد يكون انعكاسا نسبيا لمنطق الاستدلال القياسي الارسطي الذي يتضمن كبرى وصغرى قياس، ومع التسليم ولو على نحو التعبد بالكبريات فإن الصغريات والنتائج سوف تكون محل قبول، بغض النظر عن طبيعة النتائج والمآلات طالما شكل الاستدلال أو عناصره سليمة منطقيا، والمشكلة أن المنطق لوحده غير معني بضمان البعد القيمي، فهو متسلط على عمليات الذهن رياضيا فحسب، في حين تستدعي القيم إحاطة واسعة بطبيعة النتائج والمخرجات بما يحفظ المصالح وبما يحفظ النظام العام.

إن إدراك القيم والاحاطة بها يمكن أن يعد أحد أهم مؤمّنات الاجتهاد الفقهي، إذ تمثل تلك الاحاطة مرتكزات ذهنية لدى الفقيه وهو يتحمل عبئ الاستنباط واستنطاق النصوص الدينية، وهنا ما تتم ملاحظته في هذه المقال، وهو ما يمكن أن يوضح معنى الفقه القيمي بأن يكون الفقه على مستوى الاستنباط يراعي القيم والمعاني التي تحفظ ملاكات الاحكام التي تعبر عن الحكم الواقعي، وما دام ادراك الملاك غير ممكن على وفق المنحى الاجتهادي عند فقهاء الإمامية فإن التطلع إلى حفظ القيم بالمجمل سوف يفضي إلى عملية إحراز نسبي لتحقق الملاك والغرض من الحكم، وهو غير منهج التعليل بل يمكن تحديده بمذاق الشرع أو ما يحصده الفقيه من جانب الخبرة في الاستدلال والاستنباط واصطياد الدلالة في خلال قراءة النص الشرعي.

إن ذلك كله يحتم على المشتغلين في المجال الفقهي أن يولوا أهمية بالغة للاجتهاد كتخصص دقيق له رجاله المتخصصين من دون أدنى ثغرة لفسح المجال أمام الاعتباط في الاستدلال والفتوى، كما نلحظ ذلك في توظيف النصوص والمرويات الدينية على مواقع التواصل الاجتماعي ومحاولة استنطاقها من دون تثبت علمي، واصدار الاحكام والفتاوى الغريبة عن المرجعيات الفقهية المعتبرة.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

كلية الفقه/جامعة الكوفة  

في المثقف اليوم