أقلام فكرية

فلسفة السعادة..

إن السّعداء بالدّنيا غداً هم الهاربون منها اليوم.

يبدو "مفهوم السّعادة" اليوم في حاجة لإعادة تعريف، وإعادة تقديمه للناس؛ بعد أن أصبح بسيطا حد التعقيد، فكلنا نود أن نكون سعداء؛ لكن حين يسألنا شخص سؤالا بسيطا "ما هي السعادة؟" لا نستطيع الإجابة؛ لأن المفاهيم اختلطت وتعقدت، ما بين السعادة والرضا والرفاهية، وتخفيف الألم، والنجاة من الموت، والبحث عن حياة كريمة، والسعي وراء الرزق ومكملات الحياة.

إنّه وللوهلة الأولى يخيل إلينا أننا حصرنا مفهوما للسعادة ومجالا لتحقيقها لكن سرعان ما تتسع الدائرة من جديد وتتبعثر الكلمات وتتشوش المشاعر والحواس فنعود إلى نقطة البداية متسائلين: ما السعادة؟ وكيف السبيل إلى تحققها ؟ تلك الكلمة الصغيرة الكبيرة ضرب من السهل الممتنع، على كل حال. لو اطلع الباحثون والقراء على حد سواء وقرؤوا ما صنفه الفلاسفة قديما وعبر العصور الإسلامية وحتى عصرنا الحالي، لوجدوا أن الجميع قد توغلوا في ماهية السعادة ؛ غير انهم لم يهتدوا إلى حقيقتها بعد.فسيظل مفهوم السعادة متغيرا نسبيا وحقيقتها غامضة تستحق التأمّل، عليه فإن السعادة لها مكامن عديدة في قلب كل إنسان، فهناك من يرى السعادة في حصوله على مبتغاه، ولكن إذا تحصل عليه ووصل إليه وسادت نفسه وتمكنت وشعر بالانتشاء.. فهل ذلك مطلق السعادة؟ هل السعادة لها حدود محصورة تقف عندها مجرد حصول الإنسان على مبتغاه؟.

هل السعادة أن تلتذ برغباتك وعند الانتشاء تسعى لطلبها مرة أخرى؟ إذا كأن الأمر كلما نقص المرغوب سعى في طلبه فهذا لايدل على أنك تعيش حياة السعادة، لأن الأمر إذا ظل بين عطاء وسلب فالحياة آلت إلى قلق وخوف وتردد.. قلق وخوف على نفاذ مصدر السعادة.. وعدم استقرار حتى الحصول عليها وإذا ما تم الأمر بدأ طريق المخاوف والهواجس ينتاب نفس ذلك الذي يرى في حصوله على سعادته السلب والقهر وسرقة سعادته.إذن مفهوم السعادة: إنها مصدر روحي لاينفذ ولايقلق عليه إذا كانت نفس الإنسان مليئة بالرضا والقناعة أن ما بعد الحصول النفاذ وما بعد الأخذ السلب وما بعد الحياة الموت.وقد عرضت في هذا الموضوع الكثير من الأبحاث والدراسات والآراء، كلها تتناول مفهوم السعادة لكنها تقف عند الوصول لفهم حقيقته.. فلا يشبع البحث فيه معنى بعينه يجعل الباحث يتنهد فرحا بوصوله حتى مستقر السعادة، فنراه يلخص ويحوصل ليخرج الزبد، وسرعان ما يتلاشى من بين يديه ذاك المفعول الذي يشعره انه وصل لمبتغاه حتى يبدأ في التقليب والتمحيص من جديد.والناس في هذا الشأن مختلفون حسب آرائهم و أنماط عيشهم وأفكارهم البسيطة.. فكل يرى السعادة من منظوره الخاص وواقعه المعاش، فهناك من يراها كمال الصحة وموفورها.. وهناك من يراها في حصوله على أمنيته وطموحه، وحينما تقلب دفتر أمانيه ستلقى أشياء صغيرة أمام مفهوم السعادة المفعم: بيت –سيارة- زوجة جميلة

وحينما تذكره بالمنغصات سيمتعض قليلا ثم سيعود ليكرر بيت سيارة زوجة جميلة..

أما الفلاسفة فذلك شان أخر، فكل تغنى بسعادته بما يراه من زاوته، فقد توغلوا في مفهوم السعادة حتى تاهوا في دوائرها وعادوا يتصورونها في تلك المتاهة غير المفهومة ولاتتحقق إلا إذا زاد الجد والسعي الحثيث خلف دوائرها المتقلبة.فذلك أفلاطون يرى أنه إذا لم تكن السعادة انسجاما في الأهداف ؛ومقاربة للنموذج المثالي فإنه لايمكن تقديم تفسير معقول لها ويرى أنه من العبث أن تكمن السعادة في حصولنا على كل شيء نريده، إذ يقول في كتاب السعادة "من الأفضل أن نبقى ساكنين قدر الإمكان في حالة من الهدوء، لانغضب ولانندم، لأننا لايمكن أن نعرف ما يكون في الحقيقة، خيرا أو شرا في هذه الأشياء وليس هناك شيء في الحياة الفانية يستحق الانشغال به بدرجة كبيرة ". بينما يرى أبيقور أن مكمن السعادة في تحقيق القدر الأكبر من اللذات وتجنب الآلام حتى وإن خالف ذلك شرائع المجتمع طالما يصالح الذات، أما علماء الدين والفقهاء فإنهم يرون السعادة تكمن في الرضا والتسليم كما عند بعض المتصوفة المعتدلين، فإن فيما تقدموا به من كتب ألفوها يرون أن الإنسان يبلغ أقصى درجات السعادة حينما يتخلى قلبه عن الدنيا، ويتحلى بالصبر والرضا والتسليم.إذن خلو الإنسان من الشهوات والرغبات والمستحبات وكل ما في الحياة من لذائذ هو طريق السعادة الحقيقي …أما المشغول بالدنيا فإنه يخرج منها كما لم يكن فيها.. فلا يملأ جوف الإنسان النهم سوى التراب.. فهو إن امتلك المال يريد المزيد، وإن تزوج واحدة يريد ثانية.. وإن رضي بواحدة يظل همه معلقا بكمالها ولايكون راضيا في كثير من جوانب حياته، فكلما أكمل ركنا.. انبرت أركانٌ أخرى تريد الإشباع ولا إشباع فكأن الإنسان في رحلة مغالبة لنفس لاتشبع من دنيا كلما وصلت وجدت سرابا لتتخلص إلى سراب آخر يزيدها عطشا إلى عطشها.

الأجدر بنا البحث عن حقيقة السعادة لا مفهومها، فالحقيقة مطلقة و المفهوم نسبي.

السّعادة لا تهبط عليك من السماء.. بل أنتَ من يزرعها في الأرض. إذا أسعدت نفسك أسعدت من حولك. فمَن كان ينتظر الحصول على كل شيء ليصبح سعيداً، لن يحصل على السعادة في أي شيء. الحياة باختصار شروق شمس وغروبها فما أجمل أن تجعل الشروق للبسمة والعمل والغروب للراحة والهدوء. كن قنوعاً بما عندك تكن سعيداً. إذا أفلت شمس يومك وحلّ الظلام، فلا تنسَى أن تشعل شمسك الداخلية. أفضل حالات السعادة هي ما تنسجم مع عقلك وقلبك وجوارحك. شيئان في حياتك لا ثالث لهما: إمّا أن تكون متفائلاً دوماً، وإمّا أن تكون متشائماً فالسعيد يرى الحاضر أفضل أيامه، والمتفائل يرى مستقبله أفضل من حاضره، وأما المتشائم فينظر إلى الماضي باعتباره أفضل الأيام، ولا يرى مستقبله إلّا قاتماً. ليست السعادة أن لا تمر بالآلام، وأن لا تواجه الصعاب، بل السعادة أن تحافظ على رباطة جأشك وهدوء أعصابك، وتفاؤل قلبك وأنت تواجه الصعاب والآلام. السعادة هي هدف البشرية الحقيقي. كن سعيداً وأنت في الطريق إلى السعادة، فالسعادة الحقيقية هي في المحاولة وليست في محطة الوصول. معظم البشر يستسهلون الشعور بالحزن والكآبة بدلاً من أخذ مخاطرة الشعور بالسعادة ونصيب الإنسان من السعادة يتوقف غالباً على رغبتهِ الصادقة في أن يكون سعيداً.. .. فالخلاصة أن حقيقة السعادة تكمن في الإجابة عن السؤال: كيف أرضي الآخر ونفسي في آن واحد؟ أما مفهومها فيمتد إلى سبل تحقيق الرضا.

في الأخير أقولها عاليا: اصنع سعادتك بنفسك ولا تنتظرها، بإدراكك لحقيقتها وفهمك الصحيح لجوهرها فلا أحد لديه الحق في استهلاك السعادة دون إنتاجها. السعادة كلها في أن يملك المرء نفسه، والشقاوة كلها في أن تملكه نفسه،فالرّاحة التي تجلب السعادة هي راحة القلب والنفس.. أما راحة الجسد فلا تؤدي إلا إلى الموت.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

 

في المثقف اليوم