أقلام فكرية

العنف الرمزي وإخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال

جزيرة كارباثوس أنموذجا

بقلم: بيرنار فينيي*

ترجمة وإعداد: نجاة تميم

***

أود أن أبدأ باقتباس من كتاب بيير بورديو الموسوم "منطق الممارسة": "العنف الرمزي هو ذلك العنف الذي يفرض خضوعا، لا ينظر إليه كخضوع، وذلك لأنه يعتمد على ما تتوقعه الجماعة من خلال معتقدات مغروسة اجتماعيا. كما أن نظرية العنف الرمزي ترتكز على الإيمان أو على نحو أفضل، على نظرية إنتاج المُعتقد، وعلى عملية التنشئة الاجتماعية اللازمة لإنتاج عوامل تتمتع بأنماط الإدراك والتقدير التي ستمكن المهيمَن عليهم من إدراك الأوامر الزجرية المتداولة التي يجب أن يُطيعونها".

يبدو لي أن إحدى الطرق الجيدة لجعل مفهوم العنف الرمزي مفهوما، هو إعطاء، في الوقت نفسه، فكرة عن المدى المحتمل لمجاله التطبيقي، يمكن أن يكون من خلال تقديم سلسلة من أمثلة ملموسة، ومواقف بسيطة ومتنوعة بما فيه الكفاية حيث يمكن تطبيق العنف الرمزي فيها. سآخذ هذه الأمثلة من مجتمع عملت فيه لفترة طويلة كإثنولوجي وسأطبق ما تعلمته من بيير بورديو، خلال دراستي الجامعية في مدينة ليل. هذا سيجعل من الممكن إظهار تنوع الآليات التي يتم التعبير عنها، داخل نفس المجتمع، لممارسة هذا العنف الرمزي والحصول على خضوع، غير مُدرك على هذا النحو، للمهيمَن عليهم ولكن هذا سيوفر أيضا ميزة التأكيد على الطابع التعسفي للحدود الاثنولوجية| الاجتماعية التي تعد واحدة من أهم العقبات التي تعترض تطوير العلوم الاجتماعية من خلال الحد من تنافس الأفكار داخل المجال العلمي.

جزيرة كارباثوس أنموذجا

كان رجال ونساء جزيرة كارباثوس اليونانية، في بحر إيجة، قد نظموا توريث أملاكهم من جيل إلى جيل، حسب مبادئ، تبدو فريدة من نوعها في أوروبا. حتى خمسينيات القرن العشرين، اتسمت العلاقات العائلية بالهيمنة والاستغلال، مفضلين الأبناء البكر من الجنسين على إخوانهم وخصوصا على أخواتهم الأصغر سنا. فهذه العلاقات تجسد عنفا كبيرا، بحسب بورديو. إن نظام القرابة الذي ينظمهم يتميز بوجود أحقية الابن والابنة البكر في الميراث. على عكس ما كان موجودا في جزء كبير من أوروبا في ظل النظام القديم، كان في هذه الجزيرة وريثان لكل أسرة. يرث البكر من الذكور جميع ممتلكات والده (منزل، أرض، طاحونة، مصلى خاص، إلخ) وترث البكر من الإناث من جميع ممتلكات والدتها. كان هذا النظام يسمح لخطين جنسانيين، الذكر والأنثى، منفصلين بوضوح، بالتكاثر من جيل إلى جيل اثناء إعادة إنتاج وضعهما الاجتماعي؛ حيث يتم نقل الميراث الجنساني (من الجنس نفسه) بطريقة متكاملة إلى الطفل من الجنس المقابل. أما الأبناء الآخرون، فيحرمون من الميراث. وتضطر أغلبية الإخوان الأصغر سنا إلى الهجرة. أما أغلبية الأخوات الأصغر سنا فيبقين عازبات مدى الحياة. يعملن كخادمات أو عاملات في الحقول بدون أجر للثنائي البكر (الأخ أو الأخت).

يمكننا وصف علاقات البكر (ذكرا أو أنثى) بالأصغر سنا بالأدوات المفاهيمية الماركسية: يستغل البكر من كلا الجنسين، وهم أصحاب وسائل الإنتاج (الأرض، إلخ) أخواتهم الأصغر سنا، ولأنهن مضطرات من أجل العيش، فإنهن يقدمن مقابل ذلك جهدهن في العمل (كأيدي عاملة). كان هذا الاستغلال شرسا بشكل خاص مقارنة بالاستغلال الذي وصفه ماركس في المجتمعات الرأسمالية. ففي هذه المجتمعات كان الراتب الذي يتقاضاه البروليتاري مقابل قوة عمله يسمح له على الأقل بتأسيس أسرة وإعالتها. كان للبروليتاريا أسلوبها المستقل في التكاثر البيولوجي. أما في مجتمع كارباثوس، فهذه العلاقات الاستغلالية لم تسمح للفتيات الصغيرات ببناء أسرة. هنا كانت المجموعة المهيمِنة من الأبناء البكر الذين، من خلال استنساخ أنفسهم، وازدياد أعدادهم بيولوجيا، ساهموا، في الوقت نفسه، في إعادة إنتاج المهيمَن عليهن، اللواتي هم في حاجة لخدماتهن.

في كلا النوعين من المجتمع، يتم إعادة إنتاج هيمنة المسيطَر عليهم، قبل كل شيء في المجال الاقتصادي. ولكن إذا كانت التبعية القانونية الاقتصادية للفتيات الأصغر سنا كافية لإجبارهن على العمل من أجل إخوانهن وأخواتهن البكر (بنفس الطريقة التي حكمت بها التبعية القانونية الاقتصادية للبروليتاريين، المستبعدين من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لتوظيف قوتهم العاملة)، فهذا لا يفسر سبب موافقة الأخوات الصغيرات على البقاء في القرية في ظل ظروف استغلال قاسية جدا. والسؤال:" لماذا لم يحذون حذو إخوانهن الذين فروا من الهيمنة العائلية وهاجروا القرية؟

لفهم هذا اللغز، يجب أن نترك موقف العالِم الذي يحلل الأشياء بشكل موضوعي وعن بعد، كما يسميها بورديو "موضوعية"، وعلينا أن نهتم بالأخوات الأصغر أنفسهن، ونعتبرهن أشخاصا، لديهن مشاعر وإرادة، ونتوجه إلى تجربتهن الحية. ونتساءل كيف ينظرن إلى أنفسهن وكيف يعشن أوضاعهن. فإذا بقين في القرية ووافقن على العمل في مثل هذه الظروف، يبدو أنهن لم يرين استغلالهن بهذه الطريقة ( فهن، إذا ضحايا ما يسميه الماركسيون ظاهرة الوعي الزائف)، يعشن حياتهن ويعتقدن بأن مصيرهن أمر مسلم به.

العنف الرمزي وإخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال

يمكننا الآن إعطاء محتوى دقيقا للمفهوم الذي انطلقنا منه. يشير العنف الرمزي إلى كل ما جعل في هذا المجتمع إخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال ممكنا على هذا النحو؛ وبشكل أعم، كل ما جعل الفتيات الأصغر سنا (بصرف النظر عن التبعية القانونية والاقتصادية الصارمة) خاضعات، يعشن مصيرهن كأمر طبيعي، أي شرعي.

هناك، أولا، الوزن الهائل للتقاليد. فهذه الأخيرة هي مصدر قوي لإضفاء الشرعية على التعسف في جميع مجتمعات ما قبل الرأسمالية، (وما زالت قوية في مجتمعاتنا التقليدية وتتجلى في زواج أبناء العم مثلا). يكفي أن يكون هذا السلوك موجودا في الذاكرة الحية ليبدو شرعيا. فالفتيات الأصغر سنا يدركن بالكاد تعسف مصيرهن. لأنه، في جميع الأوقات، هو نفس السلوك المتداول والمتعارف عليه وبالتالي كان يبدو لهن كأنه مصير طبيعي. وبتعبير أدق، كن يجدن صعوبة في إدراك استغلالهن على هذا النحو، ولكي يتمكن من أن يقلن لأنفسهن "أنا مستغلَّة"، يجب عليهن أولا التفكير في مقارنة الأجر الذي يتلقيانه مع العمل المقدَّم. من الضروري أن يكن قادرات على الحساب بمنطق اقتصادي صارم. كان الأمر مستحيلا هنا، لأن الفتيات لم يتلقين أي أجر على عملهن. وغياب دفع الأجور مقابل أعمالهن منعهن من التفكير من منظور اقتصادي بحت، وبالتالي منعهن من إدراك استغلالهن.

لقد أدركت النّسَويات أن مؤسسة الأسرة تخفي كفاءة غامضة ورائعة؛ فالعمل الذي تنفذه هؤلاء الفتيات لا يُدرك أبدا وفقا لمنطق اقتصادي بحت. فهذه الخدمات التي هي اقتصادية بشكل موضوعي وتتم داخل هذه القرية (هنا عمل الفتيات)، تخضع تلقائيا لعملية تحويل حقيقية؛ فإنها تتحول إلى إشارات وإثباتات على الإخلاص أو المودة أو الحب. فإذا كانت مؤسسة الأسرة قد لعبت دورا أساسيا في هذا العنف الرمزي تجاه الفتيات الأصغر سنا، فإن عدم تقدير عملهن اقتصاديا هو إنكار اقتصادي بحد ذاته وهو الذي ساهم في عدم وعيهن بالاستغلال الاقتصادي الذي كن ضحاياه.

أما التأثير الأكثر تطرفا لاستغلالهن هو بقاؤهن عازبات. حُكم عليهن باستثمار كل المودة في خدمة الأخ أو الأخت البكر وأولادهم، لدرجة أنهن يهدين المال، في حالة حصلنا عليه من خلال عملهن عند أسر أخرى إلى أطفال إخوانهن البكر وذلك بكل عفوية وسرور. وهذا يعني مدى تهميشهن الاقتصادي وكذلك العاطفي.

وإذا كانت الأخوات الأصغر ينظرن إلى خضوعهن على أنه أمر بديهي وليس قيدا مفروضا، فذلك يرجع إلى أن نظام القرابة، الذي نظم علاقات القرابة العملية، قد نقش في ذهنهن وبعمق فكرة دونيتهن. كما أن القرية بكاملها تمارس هذا العنف الرمزي في الحياة اليومية. فالفتيات يلقين نفس المصير في كل العائلات، ويمكنهن التحقق من أن مصيرهن مصيرا طبيعيا، وأنه يتوافق مع ترتيب الأشياء في الواقع المعاش. يمكنهن أن يرون أن مصطلح "دولا" ويعني عبدة، كان يُستخدم وبسهولة للإشارة إلى الأخوات الأصغر سنا؛" i doula tis Ernia” " أي عبدة إرنيا.

من المفهوم، لاستئناف الاقتباس المقدم في البداية، أن الأخوات الأصغر سنا "مزودات بأنماط الإدراك والتقدير التي ستسمح لهن بإدراك الأوامر (تلك الخاصة بالأخت البكر على سبيل المثال) مدونة في موقف أو في خطاب وذلك لطاعتها". هذه الأنماط من الإدراك والتقدير، التي تم اكتسابها تدريجيا خلال عملية التنشئة الاجتماعية متعددة الأوجه، هي التي تجعل الأخت الصغرى في كل لحظة وفي كل موقف تعرف ما يجب عليها فعله لأختها البكر، حتى قبل ان تتفوه هذه الأخيرة بذلك.

وكما يقول الكثيرون وبورديو ايضا، فإن جميع المجتمعات التي تمر بعلاقات الهيمنة تميل إلى إضفاء الشرعية عليها من خلال تطبيعها وتأسيسها في الطبيعة. وكان هذا هو الحال أيضا في كارباثوس. كان يُعتقد ان الأخوات والإخوان الأصغر سنا هم (apospori) ؛ منتج السائل المنوي الجنسي ذي النوعية الرديئة.

في حالة العنف الرمزي، بحسب بورديو، كانت المشكلة الاجتماعية (ولكن السياسية أيضا) التي يتعين حلها هي: لماذا يوجد تمرد قليل في عالم ما زال يتسم بالكثير من عدم المساواة والظلم، كما يتضح من علاقات الهيمنة و| أو الاستغلال بين الطبقات الاجتماعية، بين الرجال والنساء، بين الأبناء البكر والأبناء الأصغر منهم سنا (في المجتمعات ذات الحقوق المكتسبة للأبناء البكر)، بين سكان الحضر والفلاحين، بين الملك والشعب، إلخ.

الجواب الأول على هذا السؤال: يمكن لمن هم في موقع مهيمِن استخدام القوة الجسدية البسيطة أو المسلحة لمنع أي تمرد. فإن الدولة في مجتمعاتنا (Weber) تحتكر الممارسة المشروعة للعنف الجسدي. نحن نعلم أنه ليس من غير المألوف أن تستخدمه لإخماد التمردات الاجتماعية وبالدم.

***

* أستاذ بجامعة ليون

المصدر

Bernard Vernier, «Violence Symbolique, Pierre Bourdieu», les champs de la critique, Colloque organisé par la BPI en actes, Bibliothèque Centre Pompidou, Paris, 2004. pp. 21-42

في المثقف اليوم