أقلام فكرية

سامي عبد العال: فوبيا الفلسفة

"الخوفُ من الفلسفة هو خوفٌ من صورة أنفسنا معكوسةً في مرآة الواقع"

مقولة الخوف (الفوبيا) phobia مقولةٌ ذات أبعادٍ نفسية وإنسانية ٍبأشكالها المختلفة، وتعبر عن مخاوف الفرد من أشياء معينةٍ: فوبيا الأماكن المرتفعة، فوبيا الموت، فوبيا المرض، فوبيا الآخر، فوبيا الحيوانات، فوبيا الغرف المغلقة. وصور الخوف لدى الأفراد مسألة معروفةٌ، لأنَّه خوف يتجلى عبر البنية النفسية لفردٍ أو آخر. ولكن أنْ يتجلى الخوف من النشاط الفكري بصورة عمومية أو أنْ يصبح ظاهرةً ثقافيةً، فذلك شأن آخر يحتاجُ تحليلاً مغايراً. وحده الخوف الجماعي بإمكانه أنْ يقول لنا بأي معنى يفكر هؤلاء الخائفون؟! ولماذا يشيرون بأصابع الاتهام نحو ما يرتعبون منه؟!

بصدد الحذر من الفلسفة، تعدُّ الفوبيا ذات صبغةٍ عامة نتيجة انتشار الثقافة الطاردة للفكر. ويمثل الأفراد أحجاراً على رقعة الشطرنج، مجرد (أوعية ثقافية) تنطق بشكل مجاني دون إرادةٍ للتفكير الحر. وتصل المطاردة إلى أغلب جوانب الحياة، من الشعبي إلى التعليمي، ومن السياسي إلى الاجتماعي، ومن الأخلاقي إلى المعرفي، ومن الديني إلى الشعري، ومن الجمعي إلى الفردي. وقد تلتف كل تلك المستويات معبرة عن عقدة الخوف من الفلسفة، حتى في غير مجالها. كحال بيت الشاعر أبي نواس المتداول (فقل لمنْ يدّعي في العلمِ فلسفةً، حَفِظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءٌ).

ورغم أنَّ أبا نواس يستعملُّ كلمةَ فلسفةٍ في موضع المعرفة والعلم، وهي تُطرح كمقابل للإحاطة الشاملة إزاء الأشياء والمعارف، غير أنها – فيما يقول البيت الشعري-مفردة ترتبط بالإدعاء والتظاهر الأجوف، وفي الوقت نفسه لا تتلاشي من دال الكلمة نبرة السخرية. فكأنَّ الذين يتفلسفون يدَّعون معرفة مطلقةً لا تُبقي ولا تذر، بصرف النظر عن إنكار ذلك أم لا. وحتى بمجرد علاقة الكلمة (فلسفة) بهذا المعنى، فلا يصح أن تكون هناك دلالة مقبولة لها، ناهيك عن الإعتراف بها أصلاً.

ولذلك تعدُّ مناقشة فوبيا الفلسفة ضرباً من الإستفهام حول ماهية الفكر، حول كيفية تأثيره ذاتياً وعمومياً على نطاقٍ واسعٍ، ولماذا يخاف الناس من الفلسفة تحديداً؟ وليس هذا فقط، بل هناك – أحياناً - فوبيا نتيجة الإقتراب من آثار الفلسفة تأليفاً واشتغالاً. لأن الخوف لا يكون إلاَّ بتصورات سابقة المعنى، ولا يغدو أي خوف مؤثراً دون حمولات ثقافيةٍ تستحوذ على الخائف. الـ" فوبيا سوفيا "- sophia   phobia(لو صح ذلك الاستعمال) مصطلح يعبر عن هكذا حالة، أي قلق وارتعاب إزاء الحكمة التي تكشف المواقف وتعطي الأشياء والأشخاص حقائق ما لا زيادة ولا نقصان فيها. إنَّ الرُهاب المصاحب للتفكير المُحب سيكون مُؤثراً، متى طالَ كلَّ المناطق المعتمة من مجتمعاتنا البشرية.

ورُهاب الفلسفة نمطٌ من العيش تحت سقف قهر الأشياء والعالم المحيط بالإنسان، إنه بمثابة عدم التكيف والمعقولية التي تعطينا فسحةً لكل جوانب الحياة. أنْ تخاف معناه أنْ تتوهم أشياء وتخلقها في الواقع، ثم تظل رهيناً لها طوال الوقت، وترتعب من مجرد الإقتراب منها أو النظر إليها عن كثبٍ. الرهاب إحساس شديد بالضآلة والإنزواء والحصر الذاتي أمام شيء نعتقد كونه مخيفاً. ونعجز تمام العجز عن الكلام، عُقدت ألسنتنا عن النطق ولو ببنت شفة، كأننا ننظر إلى أشياء غامضة لا تستجيب لنا أو أن هناك كلمات وإشارات تأتينا من العالم المحيط بنا ولا تجد إلاَّ كل آذان صماء. الخوف من طرف واحد، يأتي كاسحاً ولا راد له ودوماً يقع على الطرف الآخر الذي يجب أنْ يخاف.

وهذا بخلاف "محبة الحكمة" فيلو- سوفيا φιλοσοφία‏،philo-sophia التي تعطي الإنسان قدرةً العيش وفقاً للحب لا الرعب، وأن تمنحه الملجأ الروحي والخيالي، وأن يجد العزاء النفسي فيما يمارس ويفكر. الفيلوسوفيا إشباع عقلي وخيالي لحياة ملؤها التأمل والتحرر حتى لا يهاب الإنسان شيئاً. دوماً المقارنة بين النمطين موجودة طالما أن هذا حب وذاك خوفٌ، فلماذا هناك محبة الحكمة بخلاف الرعب منها؟! إنَّ ذلك الوضع الثنائي يكشف تطور المجتمعات ويظهر جانبين من الثقافات التي تتعامل مع الفلسفة والتفلسف. فالمحبة دعوةٌ لأن يعيش الإنسان وفقاً لقانون الأشياء والطبيعة وتبعاً لما يعقله من أفكار ورؤى. وتلك المحبة تشحذ عقله وتملأ نفسه تناغماً وانسجاماً. وهي لحظة التقاء إنساني بين الرغبة والحقيقة، بين العاطفة والتفكر، بين المعنى والصورة، بين المنطق والتخيل، بين العرض والجوهر، بين الحرية والتحرر. إنَّ محبة الحكمة تجيب عن مسألة: كيف يشعر الإنسان بعقله ويعقل بمشاعره دون انفصال؟!

مقولة – فوبياً الفلسفة- بهذا المعنى مبنيةٌ على جوانب ومواقف وموروثات ثقافية. وربما هذا هو السبب وراء العداء الشعبوي للتفلسف والاشتغال به. فالفلسفة لا تعطي نفسها إلاَّ لمن يعطيها كل شيء، ولا ترضى بديلاً عن الإنشغال بإمكانياتها دون محاذير. وتفقد حياتها مع سبق الإصرار والترصد، عندما تجد إهمالاً بعناوين شتى. مرة بضرورة الإهتمام بالمعطيات الملموسة مع شرح أهميتها، وكيف تظهر وتمارس أدوارها الثقافية. ومرة أخرى بتغليب منطق الواقع وممارساته على الأفكار، وهو منطق لا يرى الفكر إلاَّ قزماً بجوار المصالح والمنافع.

إذن يتجدد السؤال: لماذا الخوف من الفلسفة في بعض مجتمعاتنا العربية؟ هل الخوف من التفلسف أمر جدير بالمناقشة في هذا الإطار؟ لماذا تظل الفلسفة غريبة لدينا كأنها صناعة شيطانية، رغم أنها قديمة قدم المعرفة الإنسانية؟! وهل الخوف مبرّر أو بالأحرى أمر منطقي؟ وإذا كان الموضوعُ كذلك، ففي أي سياق وبناءً على أية فكرة؟

الخوف من الفلسفة هو خوف من صورة أنفسنا معكوسةً في مرآة الواقع والحياة، لقد غدا الواقع بملابساته وظروفه الثقافية ثقلاً ينوءُ به الفكر. وليس هناك ما عساه أنْ يملأ هذا الثقب الأسود، لأن الأخير يمتص كافة الجهود المبذولة لتحرير العقول. وحتى عندما تأتي الفلسفة لتوقظ فكراً كهذا، فلن تكون النتائج في صالح صورتنا المرجوّه ولا المستقرة. حيث تتطلب الفلسفة وعياً متوهجاً وتفترض وضع الأشياء في إطارٍ غير معهودٍ، والدفاع عن صحة العقل والمنطق وصيانة البحث عن الحقيقة. إن الفلسفة تحرص على الإتيان بشيء مختلف يعيد الإمتلاء بالمعاني الحُرة للوجود. الفلسفة رغبةٌ جامحةٌ لا تسهُل السيطرة عليها، وقد تعصف بما نملك من أشياء قيد اليقين.

الفلسفة تقضُّ مضجعَ التقاليد في حياتنا العامة، لأنها تحرك القاع والرواسب من تلك الحياة. الفلسفة تضع الأعماق أمام النظر والرؤية الثاقبة للعالم والحقائق، وفجأة سنجد أنفسنا في مهب الفحص والتساؤل، بينما نحن نخاف العواصف التي تعري ما هو مدفون ضمن حياتنا المشتركة. وبخاصة أن الحياة في مجتمعاتنا العربية تشكل جداراً سميكاً من العادات والتقاليد التي نلوذ بالاختباء داخلها.

الفلسفة تهدد الوعي الغفل، تقتحم سكينته الهشة، تخلخل ما هو ثابت معبرةً عن إمكانياته سلباً وإيجاباً. وليس هناك شيءٌ يمثل خطراً على الإنسان أكثر من شعوره باقتحام مساحة اليقين لديه، أي مساحة الوعي الذي اطمأن إليه، وظل تكراره ضماناً للتواصل والتفكير بينه والآخرين. والناس يطمئنون إلى ما يهدّيء حياتهم، ويميلون إلى السكينة والدعة. وإذا كانت الفلسفة لا تُحافظ على هذا الهدوء وتلك السكينة التامة، فلتذهب إلى الجحيم من فورها!!

هكذا كان لسان حال مجتمعاتنا العربية ومقالها إزاء الفلسفة. فلم تُعطَ أية مساحة للتحرك بحرية، إنما تزاحمها المعتقدات وتتحرش بها الأفكار والآراء الشائعة إلى أبعد مدى. وقد يكون وضعٌ كهذا مفهوماً، عندما ندرك المحاذير الكثيرة نتيجة أي تفكير فيما يعتقد الناس أو فيما يمارسون. وبخاصة أنَّ أنظمة السلطة تغلغلت في كلٍّ شيء فارضة نوعاً من الوصاية على العقول والأفهام. والفلسفة في المقابل تفتك بألاعيب الوصاية أيا كانت، فلا فلسفة بإمكانها أن تمارس أي دور مع وجود الوصاية. الوصاية هي العدو اللدود للتفلسف، إنها تكبل العقل فكيف يستطيع أن يبدع أو يفكر. في ثقافتنا العربية تعد الوصاية هي الشرط الأول للتفكير. فأيُّ عقل لا بد له من أنْ يلحق بركب الوصاية حتى يقول" أنا أفكر"، وقد يمارس هو ذاته لوناً من الوصاية، على الرغم من زعمه المتواصل بالبعد عنها ورفضه إياها.

***

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم