أقلام فكرية

محمد يونس محمد: المعرفة والمتاح الميتافيزيقي

لنبدأ من افلاطون حيث يعول برديائف على تفكير نوعي عند افلاطون ازاء علاقة المعرفة بالزمان اولا، ففي التعويل يرى نيقولاي برديائف بأن المعرفة انتصار على الزمان، ولكن اذا احلنا الامر للزمن فالمسألة ستختلف في تدبيرها او تفسيرها، واذا كانت المعرفة تتصل بالتاريخ بشكل وثيق في افق خاص، واما الافق العام منذ بداية البشرية والى اليوم، كل معرفة حتى لو كانت جديرة يميل بها الزمن الى العدم، فيما المعرفة في الافق الخاص هناك اشهار له وتوثيق، حيث تسعى المعرفة منذ قديم الزمن الى كسب نصف الاجابة عبر طرح اسئلة مثيرة للجدل من جهة، ومن جهة اخرى تمس العلم بشكل مباشر تلك الاسئلة، وصراحة المنهج العلمي لولا دور المعرفة الساند، لكان قد دخل في افق التحنيط، ودور المعرفة ليس فقط في اثارة السؤال، بل تمتلك المعرفة القدرة في كشف ابعاد منطقة الفراغ، والخروج بنتيجة مطمئنة، والمعرفة هي التي استدعت الميتافيزيقا لتكون واجهة من الممكن أن تتحول فيما بعد الى اطار علمي جديد، لذا (والمعرفة تذكر حينما تتعلق بحقيقة لا يمكن نقلها بواسطة التجربة الحسية المباشرة، اي حينما تتعلق بتجربة خارج هذا الزمان المفكك الذي نسميه الحاضر)1، فالمعرفة هي المستقبل الذي من الممكن وجوده في حيز ذلك الحاضر، ووفق هذا التصنيف تتميز المعرفة على الزمان والتاريخ والحضر، فهي ما يدعى بالأعجاز العلمي، والذي يشغل بال المنهج ويبهجه .

اذا قبلنا وقنعنا بفكرة بأن المعرفة هي المستقبل الذي تمكن من التعايش مع اللحظة الحاضرة منتصرا على الزمان والتاريخ والمنهج ايضا، فبؤس المنهج بدا وضحا من عقود، لكن تلك الهيبة الزائفة ترفض أن تزول، ومن هنا تكون علاقة المعرفة بالزمن مختلفة، ولابد من افق زمني ملاءم لها، ونعتقد ذلك الزمن الذي يراه التصنيف الزمني من الممكن أن يميل بموضوع او فكرة او حقيقة حتى الى العدم، ولكن المعرفة لا تعول على ذلك الزمن كثيرا، ولا هي بساكنة كما المنهج لتعول على الزمن العضوي، والمعرفة هي قديمة وقد سبقت التاريخ، وقد قدر لها التمكن من ازاحة التاريخ والزمان، حيث المعرفة هي لحظة العقل الاولى في اول تعرف حضري قام به الفرد البدائي لتجديد نفسه، وكما هي في المفترض الزمني تلك الايقونة التي لم يكشف المستقبل عن البعد الرمزي لها بالشكل التام، لعدم توفر اية ظروف مناسبة، وكما هي ذلك السؤال الذي يحفر في حجر الحكمة ليكشف عن مضامين فكرية جديدة، وهي تلك اللحظة الزمنية المسكونة بالأعجاز على الدوام، ولن تنتهي تلك اللحظة، ولا هناك زمن يميل بها الى العدم، الا اذا كان هناك اطر ميتافيزيقية صارمة تقف وار العقل العلمي مثيرة له، ولكن من الطبيعي لا يمتلك لها هو اي قدرة على المعالجة والاكتشاف، وينسحب عنها المنهج العلمي مبتعدا كي لا يسقط في فخ المجهول .

اذا كانت الفلسفة حسب التصورات القانعة بالفكرة، قد تحولت قبل عقود الى منهج علمي، وعلى وجه الخصوص بعدما ازدهرت فلسفة الفيزياء، فنحن نرى ذلك ليس بتحول عن اطر الفلسفة التقليدي الى منهج جديد، لا يجد اي اعتراض او جدل يقوم عليه، وتلك الفكرة نراها ضيقة الافق، فالطروحات الفلسفية عن علم التاريخ من الممكن طرحها على علم الفيزياء، والنظرية هي ليست المنهج ذاته، بل افق مجاور له، وتلك النظريات التي من مثل ما طرحه الفيلسوف الليبرالي راسل في الافق العلمي، هي لا تتنمي للمنهج العلمي بل تنتمي بشكل خالص للفلسفة، ونحن نرى لكل عصر فلسفته، وكان القرن العشرين هو الاهم في التاريخ، حيث بلغ المنهج العلمي الى اقصى مستوياته، وتمكن العقل المتنوع من التقارب، وهذا ما اهل اكثر من فيلسوف من مسك تفاحتين بيد واحدة، وقد برع ماريو بونجي، في طرح فلسفة العلم باطار معرفي ومنهجي في ذات الوقت، وكذلك في الاهتمام بالمعرفة الإنسانية، ويعتبر كتابه - المادة والعقل – والذي عرفه كبحث فلسفي في ما صاغته تلك المعرفة التي يتصف بها، وهذا ما يمكن تسميته بالكلاسيك الجديد للمعرفة الإنسانية الخلاقة والفلسفة المعاصرة، وتلك احد مؤشرات الاهمية التي ميزت المعرفة، في اتخاذ المنهج العلمي والتحري وكشف المجهول من داخله، ونجح العقل المعرفي في طرح فلسفة جيدة بوحدات زمن ملائمة لها لطرح السؤال الاجدر .

تتعدد الازمنة كما تتعدد وتختلف ابعاد المعرفة من قرن الى اخر، فالبداية كانت لحظة اكتشاف اكثر مما هي لحظة تعرف، ولكن لم تتوقف لحظة الاكتشاف بعد تأسيس المجتمعات ودخولها في افق الحضارة والتاريخ، وقد توالت اطر المعرفة من افق زماني تاريخي الى اخر، وكذلك توالت الازمنة المرتبطة بالمعرفة وسيرورتها، ومن الطبيعي هناك طبيعة عقلية لكل قرن من قرون التاريخ والحضارة، وبدأ النشاط المعرفي يتبلور فلسفيا منذ سقراط، فهو كشف لنا عن المعنى المكنون للفلسفة، وما تتميز فيه من معرفة جديرة، فالمعرفة الحقيقية هي النقاء والاصالة والتجديد، وتلك الصفات تمثلت في النموذج الاوفى للمعرفة، وسقراط دلنا على نقطة الارتكاز المعرفي، فإذا كانت هناك كراهية داخل النفس البشرية تحررت المعرفة وابتعدت كثيرا، فالكراهية سمة الجاهل، والذي هو بالأساس الوجه المعاكس لنقاء المعرفة، ولكن لندخل في صلب الصراحة، الصولجان والرأسمالية والاشتراكية ايضا اشرت الاضداد لغرض سياسي، فأمريكا استغلت معرفة انتأين، وكان سجن الغولان نهاية كل عالم جدير لا يطيع ارادة ستالين السياسية، وتطورت الفكرة اكثر، ولا يمكن النفي من وجود معلم يكره بعض التلاميذ لسبب او اخر، وهذا طبعا خلاف الاصول المعرفية ذات اقصى مستويات النقاء، والتي تمثلت بجدارة في شخصية سقراط، وكانت بحق أن تجعله القدوة والنموذج المعرفي الاسمى، فما خذا المعرفة والعقل بل خذل الجهة الاخرى حين اختار السم، وما تخلى عن افكاره المعتبرة .

نحن نمزج ما بين المعرفة والعرفان حسب منهجنا الفلسفي، ففي المعرفة النقاء التام يشكل اهمية ووحدة اساس، وفي العرفان ايضا ترد نفس الفكرة لغرض اسمى واجل، فالعارف لا يقف عند افق ومستوى المعرفة البشري، بل يسمو ليبلغ المعرفة العلوية، وتلك من اهم العوامل التي تخلى عنها البعض معرفيا، والقصد أن تسمو بإنسانك لتبلغ اقصى معارج الروح في تدرجك، والمعرفة الحقيقية تدخل في صميم العرفان، حيث السعي الحقيقي في اكتشاف الجمال يكون بذلك التدرج والاكتشاف والانعراج، وتلك الخبرة الروحية هي الديالكتيك الذي به تنضج الخبرة، وذلك ليس بتفكير ميتافيزيقي او رسم عرش للعدم، ونعرج على فكرة جديرة ترى (في ذات الوقت إن معرفة العدم هي عدم للمعرفة، وإن العدم لا يمكن الوصول اليه الا تحت اشكال هجينة وهو متداخل في الوجود)2، ونحن لسنا الفكرة بعينها، لكن مع الرأي في تأهيل وايجاد اشكال هجينة ورحيا وليس ماديا، فالمادة تمكنت من ذلك، لكن نحتاج الى خبرة روحية في هذا المجال، والعقل والخبرة العقلية لا تكتمل ابدا ما دام هناك ديناميكية معرفة تعمل بشكل دائم، ونحن علينا أن نؤمن بأن ثمة عدم فينا تسعى المعرفة لكشفه، ولا يستثنى احد في البشرية من وجود عدم فيه هو ذلك الفراغ والنقص المعرفي المعتاد، والذي يبقى على الدوام يؤشر وجود نسبة من العدم لا تجد لها معرفة تحولها الى حقيقة مفترضة .

شكلت المعرفة تلك الروح الحية للاكتشاف والخلق والانتاج، وهي السيرورة المستمرة، والعالم ينتقل في التفكير من الفلسفة القديمة ومبتغاها ازاء الوجود الى الفلسفة الوسيطة واللاهوت والمثل الكبرى، ومن ثم جمعت المعرفة بين الذات والموضوع، بوصف المعرفة هي السياق المعنوي، والذي يتمكن من جمع ذلك التضاد القائم اساسا ما بين الذات والموضوع، واذا كانت المثالية عبر كانط قد مالت عبر نزعة عقلية لتفضيل الموضوع على الذات، والاهتمام بمفهوم الاخلاق والمنظور الإنساني، واتجه كانط الى الميتافيزيقا عبر فكرة القصور موجود في السببية، فليس كل معرفة تركن الى السببية، وتتفق فلسفة ما بعد الحداثة مع المفهوم الكانطي، ففلسفة ما بعد الحداثة تجد التحليل المعرفي عبر الميتافيزيقا، هو يجذب غير الممكن الى حالة الامكان، ومثلما توصل المفهوم الديكارتي الى النتيجة عبر افق المنطق العضوي، فتجديد الميتافيزيقا الى امكان مواكبتها السعي المعرفي وتقنين الخيال نسبيا، فالنظر الى لوحة فنية يساوي النظر الى ما وراء تلك اللوحة، واذا كان الفن قد كشف لنا عن ابعادا واستدل بها، فمن الطبيعي اعطى لمفهوم الجمال البعد الاوسع المتحرك وغير الساكن، واصبح لدينا حسب كشوفات المعرفة عدة ابعاد، فهناك ابعاد الفن الثلاثة، وهناك البعد الرابع للزمان، واما البعد الخامس الاكثر افتراضا فهو للقيمة الجمالية، وصراحة عبر هذا التفسير يمكن مواكبة مفاهيم السوريالية على اقل تقدير، ولابد من حكمة للفن تكمن ما بين الاصالة والتجديد .

اذا فسرنا الزمن عبر امكانات المعرفة المتاحة، فسنكون نحن ما بين افتراض نعتبره نتيجة وما بين الافتراض الاخر ايضا، والعقل المعاصر من الممكن أن يكون بتلك الحرية النوعية، وصراحة المعايير الكلاسيكية لم تعد تلاءم روح العصر، لذا تجنب الفلاسفة المثالية الجديدة، والتي لم تستغل الا باعتبارها ميتافيزيقا موضوعية، لذلك اصبح مفهوم التفاهة يمتلك ميزة في هذا العصر ما خلال تلك الموضوعية الحرة التي تميزت بها الميتافيزيقا، والتحول عاد من جديد يأخذ مجراه المقبول من الذات، ولكن الى المادة، فالمادة هي المركز التوعي، والذات لا تمتلك الامتناع بل الاستجابة لذلك التغير المثير، ولكن الاخطر في الامر مساواة المادة بالذات، بل اللعنة التي حلت بالبشرية حين تتمركز المادة كسلطة جذب، وتكون للذات الحرية في الانجذاب نحو المادة، واعتقد هذا التفسير الجديد لمبدأ ديكارت، ولكن كما نعتقد بصيغة مقلوبة، فالمادة لا تفكر والذات هي مركز التفكير، واعتقد الرأسمالية والاشتراكية والاسلام السياسي أن عليها أن تستوعب مديات ذلك التحول العصيب، ولكن هي قد انسحبت الى الخلف في ذات الوقت، والذي فقدنا معنى الإنسان، والذي قد استغل ايديولوجيا الى اقصى الحدود، والى العن حد، حتى واجه العقل الجدير تلك القطعان المنتجة للمصالح وليس للمبدأ، وحرية العقل المتاحة هي وهمية وليست حقيقية، فمن كل جانب هناك قطيع، والاخطر هو قطيع الاسلام السياسي، فالسيف هو وسيلة الحد والتجريم، لا بديل للموت ابدا .

***

محمد يونس محمد

....................

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون العراقية – ص 132

2- المرئي واللامرئي – موريس ميرلو بونتي – ترجمة د سعاد محمد خضر – دار الشؤون الثقافية – ص 84

 

في المثقف اليوم