أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل الايديولوجيات شر مطلق؟

هناك نقاش في امريكا يرى ان نوعية الخطاب الفكري في مدارس الطب وفي عموم التعليم المهني الامريكي،غالبا ما يكون رديء جدا لدرجة يدعو لهيمنة الايديولوجيات السيئة. ثلاثة اطباء رونالد دوركين، جيمس لينش، ثيودور دالريميل جادلوا، بان العديد من الايديولوجين يهتمون بالسطة اكثر من اهتمامهم بالحقيقة، وان التعليم المهني لم يفعل الكثير لتحفيز الخيال الأخلاقي للطلاب، وان الجهود لإعداد الطلاب المهنيين للمواطنة ربما تدفعهم نحو الاستبداد.

في حوار فيدو لافلاطون، يحدد سقراط ما يراه أكبر خطر يمكن ان يتعرض له الانسان. انه ليس فقدان الثروة، ولا خسران السلطة او المعاناة من المرض او السجن وحتى خسارة الحياة. كلا، بالنسبة لسقراط الشر الأعظم الذي يمكن ان يحل بالانسان هو ان يصبح كارهاً للنقاش mislogist. مثلما كارهو البشرية misanthropes يحتقرون الناس الآخرين، كذلك كارهو النقاش يكرهون الخطاب العقلاني او المحادثة الجيدة. في إنكارهم قيمة الحديث، هم يهاجمون ضمنيا جوهر نصوص التقاليد الفلسفية الغربية، وحوارات افلاطون.

هنا تكمن أحدى أهم مظاهر الفشل في التعليم المهني والتطبيقي المعاصر. العديد من اساتذة الجامعات والمحامون ورجال الدين والأطباء ينفذون أعمالهم اليومية في بيئة خالية من المحادثة الجيدة.أساتذة الجامعة ربما منشغلون جدا في ضمان حيازتهم على متطلبات الرصانة، المحامون ربما منشغلون جدا في تعقّب وتدقيق اجور ساعات عملهم، رجال الدين منشغلون جدا في شغل مقاعد الكنيسة، والاطباء منشغلون في ضمان تلبيتهم لمتطلبات الترميز واجور الخدمة. هم جميعا منشغلون لدرجة انهم لايستطيعون التركيز على الاهتمام الملائم لهم. لكن تحت هذا الإنهماك تختفي مشكلة أعمق واكثر خطورة. العديد اعتقدوا انهم كانوا يمارسون مهنهم لتنوير العقول، وترسيخ العدالة وتعزيز الخلاص وإنقاذ حياة الناس، مع ذلك هم يكتشفون بمرور الزمن بانهم منخرطون في نوع من العمل مختلف كليا. معلموهم، اولئك الذين وثقوا بهم ليرونهم الطريق، احيانا يتضح انهم فقدوا أنفسهم. هم لايزالون يتكلمون أقوالا مهنية مبتذلة لكنهم فقدوا كل قناعة وتوقفوا عن فهم ما تعنيه الكلمات حقا.

مقابل الكارهين للبشرية والكارهين للنقاش، هناك وكما يذكر سقراط، الانسان الذي يتعامل مع الحجج ويبدو صائبا في وقت، وزائفا في وقت آخر، وهو لا يلوم نفسه او افتقاره للقدرة وانما، بسبب قلقه ينتهي بنقل اللوم بعيدا عن نفسه نحو الحجج ذاتها ممضيا المتبقي من حياته كارها المحادثات المعقولة وسيكون محروما من الحقيقة، ومن معرفة الاشياء بالطريقة التي هي عليها حقا.

تصحيح وجهات النظر الزائفة ليست ادانة عاطفية، تلصق وصفة لاولئك الذين لا نتفق معهم باعتبارهم غير متعلمين، اشرار. هناك راحة لايمكن إنكارها في تبنّي التحيز باننا، بسبب تعليمنا الراقي، والذكاء الواسع والسمات المتفوقة فطريا، لكن هذه بالطبع فقط شكل آخر للادانة العاطفية . ما يدعو له سقراط هو ليس تأكيد ذاتي متعجرف وانما اشتراك مخلص في الحوار بما في ذلك محادثة جيدة مع منْ لا نتفق معهم. للوصول الى حقائق أعمق، نحن يجب ان نتحدث عن طريقتنا من خلالهم.

الكارهون للجدال، باختصار، لايؤمنون بالحقيقة، بل لا يرون هناك شيء اسمه حقائق. هم يعملون بقناعة ان المحادثة لا تقودنا الى شيء. بدلا من الانخراط في استطلاع جاد للافكار، هم يفضلون هكذا اساليب كالخداع والتخويف والإكراه. في عالم الافكار كما في عالم السياسة، هم يفترضون ان الاقوياء والاذكياء يقومون بما يرغبون به وان الضعيف والكسول يقاسي مما يجب ان يقاسي منه. لكي تربح، من الضروري ان تفرض على الآخرين الرؤية التي لا فائدة من المحاولة بها.

اولئك الذين يرضخون امام كارهي النقاش يجمع بينهم شيء مشترك وهو- الصمت. من خلال عدم قول أي شيء، الفعالية التي اصبحوا مقتنعين ان لافائدة منها، انها تساعد في خلق مناخ يكون فيه الجدال الجيد والمحادثة الجيدة ظاهرة نادرة لو نالت التشجيع. الافكار تنحدر الى مجرد ايديولوجيات والمحاورون يذوبون الى نوع من الحمقى، غير قادرين على المساهمة. هم ليسوا بالضرورة صامتين، لكن في الكلام هم يخونون الرؤية بان جميع التعابير اللفظية حتى بملامح أخلاقية او ثقل سياسي هي ليست اكثر من تعبيرات عن الرأي تشبه كثيرا آيس كريم مفضل.

فقط الكاره للنقاش يمكنه الجدال انه يكفي لمعرفة الحقيقة. اولئك الذين يعرفون الحقيقة، بمقدار ما يعترفون بالعارفين الاخرين، طبيعيا يشعرون بمعيار عميق من المسؤولية لمساعدة الاخرين في تصحيح سوء فهمهم وبعمل كهذا يضعون انفسهم اقرب الى الطريقة التي عليها الاشياء حقا. لماذا سقراط انفق مزيد من الوقت في السوق منخرطا مع الاثنيين والاخرين في اختبار رؤاهم؟ لأنه بهذا العمل هو كان يمارس السخاء بأعلى أشكاله، وهو يثري نفسه ايضا عبر تعزيز فهم متبادل .

بالنهاية، حياتنا لم تُبنى على القوى المادية والجزيئات اكثر مما بواسطة الكلمات، وفقط عندما نفهم الكلمات بشكل صحيح نحن فعلا لدينا الفرصة للعيش بشكل صحيح .

أخطر الأعراض في التعليم المهني المعاصر هو ليس الصمت وانما أحد اضداده – ضجيج الايديولوجية. الرؤى تُطرح كدوغما ولن يتم تحدّيها ابدا. الطلاب قيل لهم احيانا اشياء غير معقولة وحتى متناقضة ذاتيا مثل الثقة الذاتية بانهم صُنعوا ليشعروا ان استجوابهم سوف يحط من قيمتهم دائما كدوغمائيين. حتى إثارة السؤال يوصف كفعل لخيانة المكانة. وكما يقترح دوركين، التعليم يضعف، الأسئلة لن تُطرح، والكلام ينتهي باناس مكرهين للتحدث بكلمات لايؤمنون بها ولا يفهمونها.

عندما نأتي الى مثل هذه الثقافات الغامضة، فان افضل مطهّر هو الضوء – ليس ضوء التحقيقات القائمة على الفرضيات ولا اساليب الاحصاء الحيوي، وانما ضوء المحادثة الجيدة. عالم الاشياء المُقاسة أصغر بكثير مما يُعرف في الكون، وان اولئك الذين يهتمون بالحقائق التي تهم الأغلبية يجب ان يمتلكوا الشجاعة لتجنب الاعتماد الصارم على المهارة الخاصة والتجربة وتفضيل نوع من المعرفة يمكنها ان تصنع او تحطم شخصية الفرد او الجالية.

المضاد لكاره الجدال هو الفيلسوف - شخص ما يحب الحكمة ومتابعتها. التعليم يحتاج فلاسفة، القانون يحتاج فلاسفة، رجال الكنيسة يحتاجون فلاسفة، كل المهن تحتاج فلاسفة، اناس لا يهتمون بالنقود او الشهرة او السلطة اكثر مما يهتمون بالحقيقة. هم يستجيبون اكثر من اي شخص آخر لدعوة المواطنة في مهنهم لأنهم يريدون ضمان انهم يسيرون طبقا لنجوم حقيقية وبهذا يخدمون بشكل أفضل حاجات اولئك الذين هم وُجدوا لأجلهم. وكما يشير لينش، من خلال مواجهته المرضى، المرشد الطبي الناجح يثير الخيال الأخلاقي للمتعلمين.

الفيلسوف لا فائدة له من الايديولوجية، سواء كانت تقدمية او محافظة، تحررية او شمولية، نسبية او مطلقة – لا فائدة منها، الاّ بمقدار ما تخدم كنقاط مفيدة للانطلاق لأجل محادثة واقعية. وكما يوضح سقراط بشكل رائع مع كل شركائه في المحادثة، نحن يجب ان نبدأ كل سفرة ليس من نقطة مثالية وانما من حيث ما نهتم . الطبيب المثالي لايدعو لإستبدال السياسة بالطب وانما كمواطن مهني يأخذ بجدية عالية مسؤولياته تجاه جيرانه والمجتمع.

من أين نبدأ؟

عبر انخراط المتعلمين في المحادثة في غرف الدراسة، او غرف المحكمة او بيوت العبادة او في الكلنك. يمكن دعوتهم لغداء او قهوة او للاشتراك بنقاش او مجموعة قراءة. لا احد يسعى للإحلال وانما للاستجواب – لإستجواب أنفسنا بالاضافة لهم. لابد من السعي لإستبدال الآراء غير المختبرة بحجج والحجج الضعيفة باخرى أقوى. نحن نقاوم قدر ما نستطيع دافع السب والسخرية، نختار بدلا من ذلك التعامل بجدية حتى مع وجهات النظر الأكثر ضعفا بحيث تكون هناك فرصة كي تبرز عيوبها في وضح النهار.

هل يجب ان نعتبر أنفسنا مذنبين بسبب استبدال اولئك الذين جاؤوا قبلنا؟ هل يجب ان نعترف ان محاولات تصنيف الناس عادة تصدمهم وتسبب لهم أذى شديد ؟

هل يجب ان نحارب التعصب الأعمى من خلال تعصب ضد المتعصبين؟ هل يجب ان نصغي للاخرين الذين لا نتفق معهم؟ هل يجب ان نبحث عن اولئك الذين كانوا مهمشين؟ هذه اسئلة مثمرة لو عوملت بروح فلسفية حقة، ستنقلنا على طول المسار نحو فهم أعمق. وعندما نجد أنفسنا في أعلى درجات الإعتداد بالنفس سنكون قريبين جدا من الإستبداد.

الحياة الايديولوجية، مثال عن الحياة غير المختبرة، لا تستحق العيش. في الحقيقة، انها شكل عقيم من الوجود، بمقدار ما تجرّد الفرد من أهم الخصائص الضرورية للانسانية، القدرة على ايجاد الكلمات الملائمة للاشياء، كما عمل آدم في قصة خلق التكوين . في النهاية، حياتنا لم تُبنى كثيرا على القوى المادية والجزيئات اكثر من الكلمات، فقط عندما نفهم الكلمات بشكل دقيق وصحيح ستكون لدينا فرصة للعيش الصحيح. نحن يجب ان نصقل ونهذب قدراتنا الفطرية للتكلم جيدا مع الآخرين. والاّ سوف لن نكون أكثر من كارهين للنقاش وغالبا ما ننزلق نحو كراهية البشر.

Ideology and the ultimate Evil. March31, 2023, Law&Liberty

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم